في الفرق بين الصوم والإمساك



أ. د. أمان محمد قحيف


باحث أكاديمي


إن من المفيد للوعي بجوهر العبادة وإدراك مقاصد التشريع تحرير المصطلحات وبيان المعاني والدلالات الحقيقية لمفاهيم الشريعة الإسلامية الغراء؛ لأن من يعبد الله تعالى على بصيرة أفضل بكثير ممن يتعبد من دون وعي أو إدراك للمعاني السامية والراقية المتضمنة في كل عبادة أو تشريع. ولقد اخترنا – بمناسبة شهر رمضان - أن نلقي شيئا من الضوء على الفرق بين مفهومي «الصوم» و«الإمساك»، إذ كثيرا ما يتبادر إلى ذهن بعضنا أن مفهوم اللفظين مترادف تماما، من حيث المعنى والدلالة، بينما الواقع أن ثمة فروقا متعددة بين المفهومين، يقف عليها ويدركها المحققون من أهل العلم والدراية، وتغيب في كثير من الأحوال عن ذهن العديد من المسلمين.

والحق أن وجود هذه الفروق - التي سنوضحها لاحقا - بين اللفظين يعد دليلا ناصعا على دقة المفاهيم في تراثنا الإسلامي، ويؤكد من جهة أخرى على ثراء لغتنا العربية وثراء معاني مفرداتها التي يتداولها الناس.

ولاشك أن هناك من يتناول اللفظين بمعنى واحد انسياقا خلف المقولة الشهيرة التي تقول: «الصوم لغة هو الإمساك»، مع العلم بأن هذه المقولة لا تقبل ولا يؤخذ بها إلا عند الحديث عن الصوم غير الشرعي: أي الصوم الذي لا يراد به عبادة ولا يقصد به طاعة، كالصوم الذي يمارس من أجل إنقاص الوزن أو رفع مستوى اللياقة البدنية أو انتظام القوام.. إلى غير ذلك من الأهداف والأغراض الدنيوية.

بينما الدارس المحقق لقضية الصوم من الناحية الشرعية يتبين له أن اللفظين - الصوم والإمساك - ليسا بمترادفين على الإطلاق؛ إذ ثمة فروق لغوية وشرعية بين دلالة ومعنى كل منهما.

ولبيان هذه الفروق نشير إلى أنه قد ورد في «لسان العرب» عند الحديث عن عموم الصوم أن «الصوم: ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام» (1). ولقد نقل العلامة ابن منظور عن أبي عبيدة - العالم اللغوي الشهير - أن الصوم «إنما هو نية في القلب وإمساك عن حركة المطعم والمشرب» (2). فالصوم بهذا المعنى يتكون من ركنين أساسيين هما: النية التي في القلب، والإمساك عن الطعام والشراب والنكاح.

نأخذ من ذلك إذن أن الصوم أعم من الإمساك وأوسع منه، لأن الإمساك مع النية يشكلان ركنين أساسيين يقوم عليهما الصوم.. هذا من جهة اللغة.

والحق أن هذا الفرق بين اللفظين موجود ومشار إليه عند أهل الفقه أيضا، فقد ورد عند العلامة ابن رشد الحفيد، المتوفى سنة 595 هـ، أن للصوم عند الفقهاء أركانا ثلاثة «اثنان متفق عليهما، وهما: الزمان، والإمساك عن المفطرات. والثالث مختلف فيه، وهو النية» (3). فالزمان هو شهر رمضان. أما الإمساك فيقول فيه ابن رشد: «أجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع...» (4).

والشاهد هنا أن الإمساك يعد ركنا من أركان الصيام الثلاثة (الزمان والإمساك والنية) التي أشار إليها أكثر الفقهاء، على النحو الذي أوضحه العلامة ابن رشد الحفيد في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد». ولقد أشار الغزالي (ت505هـ/1111م) في كتابه «إحياء علوم الدين» () إلى أن الإمساك من الواجبات على الصائم. ويستفاد من ذلك أن الإمساك لا يرادف الصوم، لأنه من الواجبات المنوط بالصائم الالتزام بها.

ونود الإشارة إلى أن الوقوف بمعنى الصوم عند حدود الإمساك فقط كما يظن بعضهم، هو بمنزلة النظر إلى ظاهر التشريع الإلهي من دون التغلغل إلى جوهره أو الولوج إلى حقيقة معانيه. فالصوم، كتشريع إلهي، لا يتمثل بحال من الأحوال في الامتناع عن المأكل والمشرب وإتيان النساء فحسب، كما يتصور بعض الناس. لكن الصوم بمعناه الحقيقي هو الإمساك عن كل ما يتنافى مع روح الإيمان والتقوى، ولعل هذا هو السر في أن يفتتح الله تعالى أولى آيات الصيام على النحو التالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183).

وهكذا بدأ الله تعالى الآية بنداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }، ثم ختمها بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وفي ذلك إشارة بليغة وواضحة إلى ارتباط الصوم بالإيمان والتقوى في الوقت نفسه.

يؤخذ من ذلك إذن أن الارتباط وثيق بين الصوم وبين التقوى التي هي الإمساك عن كل ما يتعارض مع جوهر الإيمان بالله والانقياد له، والدليل على ذلك أن من «يتجه إلى غير الله بالقصد والرجاء لا صوم له، والذي يفكر في الخطايا ويشتغل بتدبير الفتن والمكائد ويحارب الله ورسوله في جماعة المؤمنين لا صوم له، والذي يطوي قلبه على الحقد والحسد والبغض لا صوم له، والذي يستغل مصالح المسلمين العامة ويستعين بمال الله على مصالحه الشخصية ورغباته وشهواته لا صوم له.. فالصائم ملاك في صورة إنسان، لا يكذب ولا يرتاب ولا يشي ولا يدبر في اغتيال أو سوء، ولا يخادع، ولا يأكل أموال الناس بالباطل» (5).

وبالجملة نقول: إن كل من يعكر صفو المجتمع أو يعتدي على استقرار حياة المسلمين وأمنهم، بأن يرهبهم أو يقتلهم أو يستذلهم أو يتطاول على حرماتهم وأموالهم.. أو بأي شيء من هذا القبيل، لا صوم له.

إن تأدية فريضة الصوم على الوجه الأكمل تقتضي من الصائم أن يجمع بين مظهر الصوم وجوهره، بأن يصوم لسانه وقلبه وضميره كما تصوم جوارحه، وهذا هو المعنى الحقيقي للصوم، إذ «يجمع صورته وهي الإمساك عن المفطرات، ومعناه وهي تقوية روح الإيمان بالمراقبة.. وبهذا يجمع الصائم بصومه بين تخلية نفسه وتطهيرها من المدنسات، وتزكيتها بالطيبات.. وإلى ذلك يشير الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (6). وحسبنا في ذلك أن نذكر قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27)» (7).

ونشير إلى أن الذي ننتهي إليه في هذا السياق هو أن ثمة فروقا لغوية وشرعية بين مدلول لفظ الصوم ومدلول لفظ الإمساك، إذ الصوم أعم من الإمساك ويحتويه، فالإمساك هو أحد أركان الصوم، وهو صورة الصوم، أو مظهره، أو واجب من الواجبات التي يكتمل بها الصوم، لكنه ليس هو الصوم، وإن كان الصوم يبطل من دون تحقق الإمساك أو الالتزام به باعتباره واجبا على الصائم.

وبعد، أما وقد علم القارئ أن الإمساك هو مظهر الصوم وصورته، فله أن يختار كيف تكون عبادته في هذا الشهر الفضيل: هل يقف بها عند المظهر الذي هو الإمساك عن الطعام والشراب والنساء، أم يتجاوز بها ذلك الحد وصولا إلى صوم اللسان والقلب والنفس والضمير مع الجوارح، فيتحقق فيه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة:183)؟

الهوامش

1 - ابن منظور، لسان العرب، دار الحديث، القاهرة، المجلد الخامس، ص434.

2 - المصدر نفسه، ص434.

3 - ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2009 م، الجزء الأول، ص204.

4 - المصدر نفسه، ص209.

( ) ينظر: أبوحامد الغزالي، إحياء علوم الدين، باب الصوم.

5 - محمود شلتوت (الإمام الأكبر)، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثامنة عشرة، 1421 هـ/2001م، ص108–109 (بتصرف يسير).

6 - رواه البخاري في باب «من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم» 1903.


7 - انظر: محمود شلتوت، المرجع السابق، ص109 (بتصرف يسير).