المنهج الإسلامي ومسألة الواقعية

د. إبراهيم نويري








تأملت بعض أدبيات وخطابات المذاهب والمنازع والفلسفات الوضعية فألفيتها تتباهى بالواقعية، وتزعم الاتصاف بها في شتى مناهجها وأفكارها ومسالكها التطبيقية في الحياة، فأدركت مدى حدود ودلالات هذه الخاصية، وما يمكن أن تعود به من مردود إيجابي على من يتصف بها ويحرص على مراعاتها في واقعه العملي، والترويج لها على مستوى الخطابات والأدبيات الفكرية والتنظيرية والإعلامية ونحوها.

أما في الرؤية الإسلامية فإن مصطلح الواقعية يعني الانطلاق والتماهي مع أشواق الفطرة الصحيحة والاهتداء بشرع الله تعالى وأحكامه الثابتة المحكمة الواردة في القرآن المجيد والسنة المطهرة؛ ومن ثمة فليس المقصود بالواقعية في فكرية المنهج الإسلامي مسايرة الواقع أو الخضوع له كما هو في حقيقة حاله المعيش أو القائم، حتى لو كان واقعا زائغا منحرفا، أو بعيدا عن حدود الانضباط بمنهج الله تعالى ومقاصد الشرع الحنيف.

ولاشك أن من أهم ثوابت رسالة الفكر الإسلامي المعاصر الإسهام البصير في تقريب الواقع بكل تفصيلاته من رحاب الفطرة الصحيحة، وإخضاعه لمعايير الإسلام وهداياته وثوابته ومقاصده العامة، وذلك من منطلق قاعدة «سددوا وقاربوا».. أما مقدار تحقيق النجاح على هذا الصعيد فهو مرهون بمدى تمكن القائمين على شؤون الفكر الإسلامي من مهارات المعاملة مع مكونات الواقع.

لاسيما إذا وضعنا في الحساب أن الإسلام منح الكلمة ومنح السلوك تأثيرا عجيبا في النفوس، من خلال تميّز طرق الموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذه الأدوات هي الأصل في معالجة الواقع وتقريبه من الفطرة الصحيحة.

أما من الناحية العملية للواقعية في المنهج الإسلامي فإننا نجد أن شريعتنا السمحة قد وضعت مجموعة مبادئ خاصة برفع الضرر وأخرى خاصة برفع الحرج. وقد تفرعت عن كل مبدأ جملة من الفروع؛ ومن أشهر مبادئ أو قواعد رفع الضرر «أن الضرر يزال شرعا» ومما تفرع عن هذا المبدأ: وجوب الوقاية والتداوي من الأسقام المختلفة، وقتل الضار من الهوام والحيوانات. وكذلك نجد من قواعد هذا المبدأ «يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما» ومما تفرع عن هذا المبدأ: أن يصلي المكلف في حال العجز عن التطهر أو ستر العورة أو استقبال القبلة، وفق ما تيسر له من قدرة، لأن ترك هذه الشروط أخف من ترك الصلاة.

ومن أشهر مبادئ رفع الحرج قاعدة «المشقة تجلب التيسير» ومما تفرع عن هذا المبدأ: الرخص المقررة في العبادات، كالفطر في رمضان للمريض والمسافر والحامل والنفساء والعاجز، وكقصر الصلاة بالنسبة للمسافر...إلخ.

أيضا يمثل التفكير الحر مظهرا من أجل مظاهر الواقعية في الإسلام، وذلك لأنه أساس المعتقد، ولا يصح في الاعتقاد القهر والتغلب والإكراه، لذلك جاء الخطاب في هذه المسألة واضحا حاسما لا يقبل التأويل، كما في قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (البقرة:256).

أجل إن هذا الخطاب الواضح البين قد أوصد الأبواب أمام أي مسلك قد يسوق إلى استخدام الإرهاب والقهر من أجل حمل امرئ ما على الاعتقاد بما لا يستقيم عنده من خلال موازينه العقلية وتركيبته الوجدانية والتربوية.

وما هذه الأمثلة التي أوردناها إلا نماذج يسيرة عن المنجز الإسلامي في مسألة الواقعية التي تتغنى بها معظم الفلسفات والمنازع الأرضية؛ وهي أمثلة كافية في التدليل على أصالة تجذر قيمة «الواقعية» في المنهج الإسلامي وفق ثوابت وكليات ومقاصد الشرع الحنيف.

والله ولي التوفيق.