الموريسكيون في إسبانيا

انتماء الموريسكيين للإسلام شكل هويتهم.. وتسبب في طردهم من وطنهم!

د.علاء عبدالمنعم

مدرس بجامعة عين شمس

يبدو أن تاريخ الحضور العربي في شبة الجزيرة الأندلسية سيظل متمتعًا بمكانة خاصة في وجدان الوعي الجمعي للذات العربية، بحيث غدا اجترار هذا التاريخ واستدعاؤه من حين لآخر- في صيغته المكتوبة أو المصورة عبر أعمال سينمائية وتلفزيونية- ممارسة مألوفة يلجأ إليها العربي بغية تذكير جماعته بأخطاء الماضي لحفزهم على تجنبها في المستقبل في بعض الأحيان، وجلد الذات، وإيلامها في أحايين أخرى، ويبدو كذلك أن لعنة التحولات الحادة التي ميزت تاريخ الأندلس، وطبعته بنكهة درامية بالغة التأثير، قد انتقلت إلى تاريخ «الموريسكيين»، فإذا كانت حياة «الموريسكيين» في الأندلس قبل قرار الطرد الجائر، وفي أثناء محاكم التفتيش، تعد من المحاور التقليدية في كتب التاريخ الأندلسي في نسختيها العربية والأسبانية، فإن المرحلة التي تلي مرحلة الطرد من شبه الجزيرة الأيبيرية تظل مناطق معرفية معتمة، لا تزال في حاجة إلى مقاربات علمية دقيقة تكشف غوامضها وتفتح مغاليقها، ومن هنا تتأتى الأهمية الكبرى لكتاب «الموريسكيون في إسبانيا وفي المنفى» للكاتب الإسباني الشهير: ميكيل دي إيبالثا، وبترجمة د.جمال عبدالرحمن، ويتوزع الكتاب- الصادر عن المركز القومي للترجمة بمصر- على قسمين: يتناول الأول تاريخ «الموريسكيين» في الفترة التي سبقت عام 1609م، ويعنى القسم الثاني بأخبار «الموريسكيين» بعد طردهم من إسبانيا، راصدًا أوضاع هؤلاء المطرودين في الدول التي هاجروا إليها بشكل جماعي، وأهمها المغرب وتونس والجزائر.



استهل المؤلف عمله باعترافه أن كتابه سيعنى بشكل خاص بمرحلة ما بعد عملية الطرد، أما مرحلة ما قبل الطرد فلن يهتم بها بالدرجة نفسها، وذلك لأن وضع «الموريسكيين» بعد الطرد ليس معروفًا بالقدر عينه لأسباب مختلفة، منها قلة الوثائق، والبعد الجغرافي للبلاد التي هاجر إليها الموريسكيون، وذوبان الموريسكيين نسبيا بين مسلمي المجتمعات التي استقبلتهم، فضلا عن سبب تاريخ عام يتمثل في تناقص قيمة المهزومين تاريخيًّا، فما إن تنتهي المأساة الوحشية حتى يخرجوا من الساحة ويختفوا من متون الكتب والوثائق.

المُدَجّنون

يميز الكاتب في البداية من مصطلحين مهمين هما «الموريسكيون» و«المُدَجّنون»، فيوضح أن المقصود بالأول مسلمو الممالك الأيبيرية (قشتالة وأرغون ونابرا) الذين أجبروا على اعتناق المسيحية في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وأما المدجنون فيقصد بهم هؤلاء الأندلسيون الذين كان بمقدورهم ممارسة شعائر الإسلام في الأراضي المسيحية على مدى العصور الوسطى قبل عمليات التعميد الإجباري في القرن السادس عشر، فهم أبناء الأندلسيين أو المسلمين ممن كانوا يعيشون تحت الحكم المسيحي في شبه جزيرة أيبيريا، وقد اشتق لفظ «موريسكي» من كلمة Sarracenos أو Moros وهي الكلمة التي كانت تطلق على المسلمين في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

التمييز الثقافي

يتعرض «ميكيل دي إيبالثا» في القسم الأول للحديث عن وضع الموريسكيين قبل الطرد، فيؤكد أنه لم يكن من السهل تمييز الموريسكيين عن غيرهم بالاعتماد على مظهرهم الخارجي، أو شكلهم الجسدي، وإنما يمكن تمييزهم استنادًا إلى المجالات الثقافية، وأول عناصر الثقافة الموريسيكية العنصر الديني، فانتماؤهم للإسلام هو الذي شكل هويتهم، فالأصل التقليدي الإسلامي للموريسكيين يفسر استمرارهم كمجموعة على مدى القرن السادس عشر، منذ تنصيرهم الإجباري وحتى طردهم النهائي، وعلى الرغم من اختلاف تطبيق الموريسكيين للإسلام، فإن أصلهم الإسلامي هو سبب طردهم من وطنهم، فضلًا عن الإسلام فهناك مجموعة من العناصر المميزة للموريسكيين، منها اللغة العربية التي كانوا يحافظون عليها، ويستعملونها، ويقدسونها بوصفها لغة الدين، وكذلك عنصر المأكولات والمشروبات، فقد كانوا يفضلون مأكولات بعينها كلحم الضأن والحلوى، وكانوا يتجنبون لحم الخنزير والخمر، كما كانت هناك الملابس والموسيقى وأشكال الأفراح المميزة.

وبالنسبة للمدجنين- وهم المسلمون المقيمون في مملكة يحكمها المسيحيون، فهم حالةٌ أسبق من الموريسكيين، وقد كانت تحكمهم لائحة تنظيم أوضاعهم، وكانت هذه اللائحة تضمن لهم حرية العقيدة، وتحدد مقدار الضرائب التي يدفعونها، فقد كانوا يتمتعون بإذن رسمي بممارسة شعائر الإسلام، وهو ما يفسر رغبة مسلمي غرناطة بعد سقوط دولتهم في أن تطبق عليهم لائحة المدجنين، حيث لم يستطيعوا تفهم أن يفرض عليهم التنصير الإجباري، وخاصة في ظل تسامح الممالك الإسلامية، وإيمانًا بحرية العقيدة لغير المسلمين.

التوزيع الجغرافي

يرصد الكاتب بعد ذلك التوزيع الجغرافي للموريسكيين على الأقاليم التي كانوا يقيمون فيها، فيذكر أن عددهم في مملكة أرغون بلغ 200 ألف، حيث شكل المسلمون 34? من مجمل السكان، وكان عددهم في مملكة قشتالة 250 ألف من إجمالي سبعة ملايين نسمة، أما مملكة غرناطة فقد كان الموريسكيون يشكلون أغلبية السكان حتى عام 1568م، واستمرت لمدة عامين، ونتج عنها قرار ترحيل الموريسكيين من غرناطة وتوطينهم في أراضي مملكة قشتالة، هذا بالإضافة إلى عدد كبير منهم نزح إلى أقاليم إسبانية أخرى وإلى بلاد إسلامية، وبعد طردهم من غرناطة لم يبق منهم سوى عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفًا، وهو ما يفسر النظر لغرناطة بوصفها واحدة من أقل الأماكن التي وجد فيها الموريسكيون لحظة الطرد النهائي، إذ لم يكن بها سوى ألفين فقط.

الوضع القانوني

يتعرض المؤلف بعد ذلك للوضع القانوني للمسلمين بعد صدور قرار التنصير- ونلاحظ اعتماد المؤلف في هذه الأجزاء على ملفات محاكم التفتيش- وحياتهم داخل مؤسسة «الجماعة» ثم قرار الطرد النهائي من وجهة نظر السلطات الرسمية والكنسية، لينتقل الكاتب بعد ذلك للقسم الثاني المهتم بتناول أوضاع الموريسكيين في الدول التي هاجروا إليها، أو بالأحرى في منفاهم.

الموريسكيون في المغرب

ينبه الكاتب في بداية القسم الثاني من كتابه أن الموريسكيين بعد طردهم من إسبانيا، لم يُعَدُّوا موريسكيين إلا في الكتابات التاريخية الأوروبية التي تسميهم بهذا الاسم، لأنهم هم وأجدادهم كانوا موريسكيين عندما كانوا يقيمون في إسبانيا، والحقيقة أنهم بعد وصولهم إلى البلاد التي هاجروا إليها اندمجوا في المجتمعات الجديدة حتى اختفى هذا الاسم تمامًا.

وبينما كان الأوروبيون يطلقون على هؤلاء المطرودين موريسكيين أو غرناطيين إبان سنوات الطرد، كان أصحاب البلاد العربية المهاجرين إليها يسمونهم أندلسيين، وعلينا أن نتعامل مع هذه التغيرات في الأسماء بوصفها مؤشرات لاحتفاظ هؤلاء المهاجرين الجدد ببعض التراث ذي الأصل الإسباني، واندماجهم في الوقت نفسه في المجتمعات العربية الجديدة التي وفدوا إليها.

بالنسبة للوضع السياسي للمغرب في القرن السابع عشر، فقد كان المغرب يشغل حينها الأراضي نفسها التي شغلها في القرن العشرين، كانت مراكش هي العاصمة، وإن احتفظت فاس بمكانتها الخاصة، وعند وصول الموريسكيين كانت هاتان المدينتان هما المركزان الرئيسان المهمان في البلاد، وكانت مدينتا «رباط سلا» و«تطوان» هما الميناءان اللذان كان للموريسكيين فيهما دور بارز، وبالنسبة لدور الموريسكيين في السياسة الخارجية المغربية فيكشف الكتاب أنهم شاركوا فيها بقوة، فقد كان للمغرب دور هدف- في السياسة الخارجية- مشابه لهدف بقية الدول المغربية، وهو مواجهة العدوانين المسيحي، والبرتغالي، وهو ما يفسر توطينهم للموريسكيين وبخاصة في المناطق الساحلية التي شكلت الخط الأول في مواجهة العدو، وهو ما يفسر كذلك إلحاق الموريسكيين بالقوات البرية والبحرية كخطوة ضرورية لتدعيم الوضع السياسي للمغرب، ويوضح الكاتب حتمية أن نضع في اعتبارنا عناصر أربعة لفهم شكل انخراط المهاجرين الموريسكيين في المغرب، الأول: السلطة المركزية التي استقبلت الموريسكيين، ووفرت لهم أماكن الإقامة بما يتفق مع مصالحها الخاصة في استخدامهم في مواجهة العدو المسيحي، الثاني: خاص بالمجال العمراني، فقد كان للموريسكيين مصالح تتفق مع مصالح عناصر اجتماعية أخرى مثل البرجوازيين والمغاربة، العنصر الثالث: تمثل في المحيط الريفي الذي لم يستطع الموريسكويون الاندماج فيه لبنيته المحلية الخاصة، أما العنصر الرابع: فتمثل في قدرة الأندلسيين على الاندماج- في البداية- كطبقة اجتماعية من أصل أجنبي مع اليهود المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام والأجانب الموجودين بشكل مؤقت، إلا أن الموريسكيين سيكونون هم أقرب هؤلاء الأجانب للقب المغاربة، نظرًا للقواسم المشتركة بينهما، وأهمها الدين والثقافة.

وقد حاول موريسكيو المغرب القيام بما يشبه الاستقلال عن الشكل السياسي للمغرب، كما حدث في تطوان وضواحيها ورباط سلا، إلا أن موقف السلاطين السعديين في مواجهة محاولة الاستقلال هذه، وقوة القبائل المغربية وغيرها من الأسباب- التي يفيض الكتاب في تحديدها- نجحت في إجهاض حلم الاستقلال لدى الموريسكيين، ويختم المؤلف هذا الفصل بالحديث عن اندماج الموريسكيين في المغرب من خلال عوامل متعددة أهمها: استيعاب النظام الحضري والعسكري، ووضع الأندلسيين في الحملة التي أرسلها السلطان «أحمد المنصور الذهبي» إلى السودان، والاندماج اللغوي على مستويات اللغة والألفاظ والألقاب العائلية.

الموريسكيون في الجزائر وتونس

يذكر المؤلف أن الوثائق المتوافرة عن الموريسكيين في الجزائر أقل بكثير عن نظيرتها الخاصة بالمغرب أو تونس، ثم يؤكد أن القرب الجغرافي أدى إلى أن تكون سواحل الجزائر مكانًا يتطلع إليه المهاجرون الأندلسيون منذ أن استوطن المسلمون ضفتي البحر المتوسط، وفيما يتعلق بهجرة الأندلسيين قبل القرن الثالث عشر فقد كان تأسيس مدينة «وهران» رمزًا لإقامة الأندلسيين في الجزائر نحو عام 903، كما كان الأندلسيون هم الذين أسسوا مدينة فاس في أوائل القرن التاسع، فالتنقل المستمر بين الشاطئين، والذي أسهم فيه بصفة خاصة فريضة الحج بالإضافة إلى الرغبة في تحصيل العلم أو القيام بنشاط تجاري، قد أدى إلى استيطان جماعات أندلسية بلاد المغرب، وإلى استيطان مغاربيين في الأندلس، أما بالنسبة لهجرة الأندلسيين في القرنين الثالث عشر والرابع عشر فقد وصلت في القرن الثالث عشر موجة كبيرة من المهاجرين الأندلسيين إلى بلاد المغرب ومنها الجزائر، نتيجة استيلاء المسيحيين على مناطق يقطنها مسلمون، وقد تشجع الأندلسيون في هذا القرن على الهجرة نتيجة اتصالهم بالمهاجرين الذين سبقوهم، وبعد هذه الهجرة الكبيرة، استمرت هجرة أفراد مدجنين إلى الجزائر، وقد أدى استيلاء الإسبان على غرناطة عام 1492 إلى نزوح عدد كبير من المهاجرين إلى السواحل الجزائرية، وقد استقبلت وهران اعتبارًا من عام 1493 عددًا كبيرًا من الغرناطيين، وتحولت إلى نقطة تنطلق منها الهجمات باتجاه السواحل الإسبانية.

لم تكن رحلة الهجرة من الأندلس إلى الجزائر آمنة دائمًا، بل إن المخاطر كانت تحيق بها في كثير من الأحيان، ويذكر المؤلف- دون توثيق- أن الموريسكيين النازحين تعرضوا لعمليات نهب قام بها- على حد ذكر المؤلف- سكان محليون كانوا ينظرون لهؤلاء المهاجرين بوصفهم أجانب، يرتدون ملابس غريبة، ويتحدثون لغة غير العربية، وربما هذا ما فسر الظاهرة اللافتة في الحالة الجزائرية، وهي عودة الموريسكيين من الجزائر، رغم أنها لم تكن شائعة، بسبب هذا العنف، بالإضافة إلى عدم قدرة كثير من الموريسكيين على التكيُّف مع المجتمعات الإسلامية، ويختم الفصل بالحديث عن النشاط الاجتماعي والاقتصادي للأندلسيين في الجزائر، وكذلك عن دورهم البارز في الجهاد البحري ضد الإسبان.
وبالنسبة لتونس فيبدو الأثر الموريسيكي ملحوظًا للغاية، وهو أثر لا يرتبط بالهجرة في مرحلة ما بعد الطرد فقط، وإنما يمتد إلى ما قبل هذا، في العصور الوسطى، حتى إن الأندلسيين المطرودين عند وصولهم تونس وجدوا أسرًا أندلسية مستقرة في تونس منذ سنوات طوال، وقد أسهم العلماء التونسيون في اندماج هؤلاء الوافدين في مجتمعهم الجديد من خلال ترحيبهم بهم، ومساعدتهم في تعلم أمور دينهم الإسلامي