* معنى الحلول والاتحاد([1]):
أولًا: معنى الحلول: أن يحل أحد الشيئين في الآخر.
وينقسم إلى حلول سَرَيانيٌّ، وحلول جِوَارِيٌّ.
يقول الجرجاني رحمه الله: «الحلول السَّرَيَانِيُّ : عبارة عن اتحاد الجسمين؛ بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر؛ كحلول ماء الورد في الورد؛ فيُسمى الساري حالًّا، والمسري فيه محلًّا.
الحلول الجِوَاري: عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفًا للآخر؛ كحلول الماء في الكوز»اهـ([2]).
ويُراد بالحلول عند طوائف من الجهمية والصوفية: حلول الله تعالى في مخلوقاته، أو بعض مخلوقاته.
وينقسم الحلول إلى قسمين:
القسم الأول: حلول عام: هو اعتقاد أن الله تعالى قد حَلَّ في جميع مخلوقاته.
وهو قول الجهمية، ومَن شاكلهم.
ويقصدون به: أنَّ الإله حلَّ في مخلوقاته، وهو مباين عنهم؛ فليس هو متحدًّا بمن حلَّ فيهم؛ بل هو في كل مكان مع الانفصال؛ فهو إثبات لوجودين.
القسم الثاني: حلول خاص: وهو اعتقاد أن الله تعالى قد حَلَّ في بعض مخلوقاته، مع اعتقاد وجود خالق ومخلوق؛ فهو إثبات لوجودَين.
وذلك كاعتقاد بعض فرق النصارى أن اللاهوت - وهو الله - حَلَّ بالناسوت - وهو عيسى - فعيسى عليه السلام عندهم له طبيعتان: لاهوتية وناسوتية.
وكاعتقاد بعض غلاة الرافضة؛ كالنصيرية، أن الله تعالى حلَّ في علي بن أبي طالب ﭬ، وأنَّ عليًّا هو الإله؛ حيث حلَّت فيه الألوهية.
ولهذا تراهم يمجِّدون ابن ملجم قاتل عليٍّ، ويحبونه، ويخطِّؤون من يلعنه، أو يذكره بسوء.
وهذا من المفارقات العجيبة، ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب؛ فإنهم يحبِّون ابن ملجم مع أنه قتل علي بن أبي طالب الذي يؤلهونه ويعبدونه من دون الله؛ لأنهم يزعمون أنه خلَّص اللاهوت من الناسوت بقتله، وبذلك تخلَّص اللاهوت من ظلمة الجسد، وكدره!!
وكذلك الحال بالنسبة للدروز القائلين بألوهية الحاكم بأمر الله؛ فَهُم يعتقدون أن له حقيقة لاهوتية لا تُدرك بالحواس ولا بالأوهام، ولا تُعرف بالرأي ولا بالقياس؛ مهما حاول الإنسان أن يعرف كنهها؛ لأن هذا اللاهوت ليس له مكان، ولكن لا يخلو منه مكان، وليس بظاهر كما أنه ليس بباطن، حتى إنه لا يوجد اسم من الأسماء، ولا صفة من الصفات يطلق عليه، ويرون أن الناسوت لا ينفصل عن اللاهوت!!
وقل مثل ذلك في اعتقاد بعض طوائف الصوفية أن الله عز وجل قد حَلَّ في بعض مشايخهم.
ثانيًا: معنى الاتحاد: أنْ يتَّحد الله عز وجلَّ بمخلوقاته، أو ببعض مخلوقاته.
أي: اعتقاد أن وجود الكائنات أو بعضها هو عين وجود الله تعالى.
وهو على قسمين:
القسم الأول: الاتحاد العام: وهو اعتقاد كون الوجود هو عين الله عز وجل.
بمعنى: أن الخالق مُتَّحِدٌّ بالمخلوقات جميعها.
وهذا هو معنى وحدة الوجود، والقائلون به يُسَمَّون الاتحادية، أو أهل وحدة الوجود؛ كابن الفارض، وابن عربي، وغيرهما.
يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله عن ابن الفارض: «يؤمن هذا الصوفي ببدعة الاتحاد، أو الوحدة، سَمِّها بما شئت، بصيرورة العبد ربًّا، والمخلوق خلَّاقًا.
وإذا شئت الحق في صريح من القول، فقل: هو مؤمن ببدعة الوحدة، تلك الأسطورة التي يؤمن كَهَنَتُها بأنَّ الرب الصوفي تعيَّن بذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله في صورة مادية، أو ذهنية، فكان حيوانًا، وجمادًا، وإنسًا، وجنًّا، وأصنامًا، وأوثانًا.
وكانت صفاته، وأسماؤه، وأفعاله عينَ ما لتلك الأشياء من صفات وأسماء وأفعال؛ لأنها هي هو في ماهيته ووجوده المطلق، أو المقيد، وكل ما يقترفه البُغاة من خطايا، وما تنهش الضاريات من لحوم، أو تَعْرَّق من عظام، فهو فعل الرب الصوفي، وخطيئته وجُرمه»اهـ([3]).
ثم تناول رحمه الله قصيدة ابن الفارض التائية المليئة بما يقرر وحدة الوجود بشيء من الشرح والتحليل.
ومن ذلك قول ابن الفارض مقرِّرًا عقيدة وحدة الوجود:
جَلَتْ فِي تَجَلِّيهَا الْوجُودَ لِنَاظِرِي
فَفِي كُلِّ مَرْئِيٍّ أَرَاهَا بِرُؤْيَةٍ([4])
فهو يزعم أن الذات الإلهية هتكت عنه حجب الغَيْريَّة، وجَلَت له الحقَّ، فرأى حقيقة الله متعينة بذاتها في كل مظاهر الوجود.
ويقول:
فَوَصْفِي إِذَا لَمْ تُدْعَ بِاثْنَيْنِ وَصْفُهَا
وَهَيْئَتُهَا إِذْ وَاحِدٌ نَحْنُ هَيْئَتِي([5])
يزعم أن كل ما وصف به الله نفسه فالموصوف به على الحقيقة هو ابن الفارض؛ لأنه الوجود الإلهي الحق في أزليته، وأبديته، وديموميته، وسرمديته.
ويقول:
فَإِنْ دُعِيَتْ كُنْتُ الْمُجِيبَ وَإِنْ أَكُنْ
مُنَادِي أَجَابَتْ مَنْ دَعَانِي وَلَبَّتِ([6])
ويقول - وبئس ما يقول -:
وَكُلُّ الْجِهَاتِ السِّتِّ نَحْوِي تَوَجَّهَتْ
بِمَا تَمَّ مِنْ نُسُكٍ وَحَجٍّ وَعُمْرَةِ
لَهَا صَلَوَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا
وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِيَ صَلَّتِ
قال الشارح معلِّقًا على هذين البيتين:
«أي: وما كان صلى لي سواي إلا أنا واحد بالحقيقة؛ فلم تكن صلاتي لأجل غيري في أداء كل ركعة؛ فأنا العابد والمعبود، والساجد والمسجود»اهـ([7]).
إلى أن يقول - قبحه الله -:
فَفِي النَّشْأَةِ الْأُولَى تَرَاءَتْ لِآدَمٍ
بِمَظْهَرِ حَوَّا قَبْلَ حُكْمِ الْأُمُومَةِ
وَتَظْهَرُ لِلْعُشَّاقِ فِي كُلِّ مَظْهَرٍ
مِنَ اللُّبْسِ فِي أَشْكَالِ حُسْنٍ بَدِيعَةِ
فَفِي مَرَّةٍ لُبْنَى وَأُخْرَى بُثَيْنَةَ
وَآوِنَةً تُدْعَى بِعَزَّةَ عَزَّتِ([8])
يزعم أن ربه ظهر لآدم في صورة حواء، ولقيس في صورة لبنى، ولجميل في صورة بثينة، ولكثير في صورة عزَّة([9]).
ومن أهل وحدة الوجود ابن عربي، ومن أقواله في ذلك:
الْعَبْدُ رَبٌّ وَالرَّبُّ عَبْدٌ
يَا لَيْتَ شِعْرِيْ مَنِ الْمُكَلَّفْ
إِنْ قُلْتَ: عَبْدٌ فَذَاكَ رَبٌّ
أَوْ قُلْتَ: رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفْ([10])
وقوله: «سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها».
وقوله: «إن العارف من يرى الحق الله في كل شيء؛ بل يراه عين كل شيء».
القسم الثاني: الاتحاد الخاص: هو اعتقاد أن الله عز وجل اتحد ببعض المخلوقات دون بعض.
فالقائلون بذلك نزَّهوه من الاتحاد بالأشياء القذرة القبيحة، فقالوا: إنه اتحد بالأنبياء، أو الصالحين، أو الفلاسفة، أو غيرهم؛ فصاروا هم عين وجود الله جل وعلا؛ كقول بعض فرق النصارى: إن اللاهوت اتحد بالناسوت، فصارا شيئًا واحدًا.
وهذا بخلاف القائلين بالحلول فهم يرون أن له طبيعتين؛ لاهوتية وناسوتية.
فالاتحادية قالوا بواحد، والحلولية قالوا باثنين.
ولا ريب أن القول بالحلول أو الاتحاد أعظم الكفر والإلحاد عياذًا بالله.
ولكن الاتحاد أشد من الحلول؛ لأنه اعتقاد ذات واحدة، بخلاف الحلول كما مَرَّ.
ثم إن القول بأنه اتحد في كل شيء أعظم من القول بأنه اتحد في بعض مخلوقاته.
وبالجملة فإن اعتقاد الحلول والاتحاد اعتقاد ظاهر البطلان، وقد جاء الإسلام بمحوه من عقول الناس؛ لأنه اعتقاد مأخوذ من مذاهب، وفلسفات ووثنيات هندية، ويونانية، ويهودية، ونصرانية، وغيرها تقوم على الدَّجَل والخرافة.
* والفرق بين الحلول والاتحاد يتلخص فيما يلي:
1- أن الحلول إثبات لوجودين، بخلاف الاتحاد فهو إثبات لوجود واحد.
2- أن الحلول يقبل الانفصال، أما الاتحاد فلا يقبل الانفصال.
ولهذا؛ فإن القائلين بالحلول غير القائلين بالاتحاد.
* أمثلة يتبين بها الفرق بين الحلول والاتحاد:
هناك أمثلة كثيرة؛ منها: السُّكَّر إذا وضعته في الماء دون تحريك فهو حلول؛ لأنه ثَمَّ ذاتان، أما إذا حركته، فذاب في الماء صار اتحادًا؛ لأنه لا يقبل أن ينفصل مرة أخرى.
أما لو وضعت شيئًا آخر في الماء كأن تضع حصاة فهذا يسمى حلولًا، لا اتحادًا؛ لأنها أصبحت هي والماء شيئين قابلين للانفصال.
مثال آخر يجتمع فيه الأمران: ورقة الشاي التي توضع في الماء المغلي؛ فبمجرد وضعها وتحريكها يتغير لون الماء ويصبح شايًا، لا ماءً.
فهو بهذا الاعتبار اتحاد؛ لأن الماء والشاي لا يمكن أن ينفصلا.
وورقة الشاي يمكنك رفعها وفصلها؛ فالحالة بهذا الاعتبار حلول، لا اتحاد.
[1])) هذا المبحث مستفاد من كتاب «مصطلحات في كتب العقائد» للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد (ص40- 47)، بتصرف وزيادات.
[2])) «التعريفات» (ص97)، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
[3])) «هذه هي الصوفية» (ص24، 25)، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
[4])) انظر: «شرح تائية ابن الفارض الكبرى» لداود بن محمود القيصري (ص55)، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
[5])) انظر: «شرح تائية ابن الفارض الكبرى» (ص56).
[6])) المصدر السابق.
[7])) «شرح تائية ابن الفارض الكبرى» (ص38).
[8])) «شرح تائية ابن الفارض الكبرى» (ص64).
[9])) «هذه هي الصوفية» (ص24، 25).
[10])) «الفتوحات المكية» (1/ 42)، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.