الوقف والابتداء
وأثرهما في المعاني القرآنية
د.سعيد بن راشد الصوافي[(*)]
ملخص البحث
لما للوقف والابتداء في القرآن الكريم من أهمية بالغة في بيان المعاني القرآنية؛ فإن هذه الدراسة الموسومة بــ(الوقف والابتداء وأثرهما في المعاني القرآنية) تعني بتبيان هذا الموضوع وتسهيله وتقريبه إلى أذهان مختلف الشرائح، موضحة أثر الوقف والابتداء في المعاني القرآنية. وقد تضمنت هذه الدراسة: مقدمة حوت أهمية الموضوع، ثم يأتي المبحث الأول متضمناً نبذة مختصرة عن أهمية معرفة الوقف والابتداء بالنسبة لقارئ القرآن الكريم، وتوضيح بعض المصطلحات المهمة في هذا الباب، ثم بيان أقسام الوقف والابتداء.
أما المبحث الثاني: فقد تعرض للحديث عن تأثر الوقف والابتداء بعلوم مختلفة، مثل: اللغة والتفسير والقراءات.
والمبحث الثالث: يوضح تأثر المعاني القرآنية بالوقف والابتداء إن كانا غير سليمين، وأخيراً تعرض.
المبحث الرابع: لنماذج توضح اختلاف المصاحف في علامات الوقف والابتداء ونماذج لمدى توظيف المفسرين الوقف والابتداء في تفسيرهم للقرآن الكريم.
وأخيراً تأتي الخاتمة فتحمل في طياتها بعض الرؤى والاستنتاجات والتوصيات.
وقد خلصت هذه الدراسة إلى نتائج طيبة، من أهمها:
1-أن المعرفة بقواعد الوقف والابتداء تعين تالي القرآن الكريم على المواضع الصحيحة للوقف والابتداء، مما يؤدي إلى بيان المعاني السليمة الصحيحة للآيات القرآنية، وعلى العكس من ذلك؛ فإن عدم المعرفة بالوقف والابتداء؛ تجعل تالي القرآن الكريم يتخبط في وقفه وابتدائه، ويقع في محاذير كثيرة، قد تخل بالمعاني القرآنية.
2-هناك أمور تؤثر على الوقف الابتداء: كاللغة والتفسير والقراءات، فيكون الوقف والابتداء تبعاً لهذه الأمور، وهذا إنما يتأتى بمعرفة هذه العلوم والدراية بها.
3-الوقف والابتداء يتوقف عليهما بيان المعاني القرآنية، وقد يتأثر المعنى القرآني بأنواع من الوقف والابتداء غير السليمين.
المقدمة
الحمد لله القائل {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً}[الإسراء:106]، والصلاة والسلام على من أمره ربه فقال له:{وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل:4]، صلوات الله وسلامه عليه وآله، وعلى صحابته الأبرار وعلى كل من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى الخالد، ودستوره النير، وآيته الباقية أبد الدهر {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[فصلت:3]، فيه بيان كل ما يحتاجه الفرد في حياته، وتبيان كل ما يهمه بعد مماته، لذلك أنزله الله عز وجل كتاباً مباركاً للتدبر والتذكر {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص:29]، كما جعله سبحانه ميسراً للذكر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17]، 22، 23، 40. ولما كان فهم هذا الكتاب العزيز يتوقف على بيان معانيه؛ فإن مرد ذلك كله إلى الوقف والابتداء الصائبين، فبهما تتبين المعاني، وتتضح مسالك المباني، فلربما وقف قارئ على كلمة تقلب المعنى رأساً على عقب، وكذلك الابتداء.
يقول الهذلي (ت:465هــ) في الكامل: ((من لم يعرف الوقف لم يعلم ما يقرأ))[(1)].
ومن هذا المنطلق اتجهت همم العلماء وتضافرت جهودهم في العناية ببيان موضوع الوقف والابتداء؛ لأهميته البالغة لقارئ القرآن الكريم، وألفوا في ذلك مؤلفات كثيرة، تعني ببيانه وتوضيحه، ومع عناية سلفنا الصالح بهذا الموضوع، فإن مما يؤسف له جداً: أن نرى فئة غير قليلة ممن يقرؤون القرآن الكريم؛ لاسيما بعض المقرئين الذين نستمع لهم عبر وسائل الإعلام المختلفة، وأئمة المساجد، لا يأبهون بهذا الأمر، ولا يعطون هذا الموضوع أهميته؛ مما يجعلهم يقعون في أخطاء جسيمة، وأغلاط فادحة؛ بسبب عدم درايتهم وقلة اهتمامهم بالموضوع.
ورغم أن هذا الموضوع أعطي حقه من التحقيق والتأليف قديماً من قبل جهابذة هذا الفن، إلا أن الأمر يبقى صعب المنال في فهمه للعامة.
لذا رأيت من الأهمية بمكان أن أقوم بتبيان هذا الموضوع، وتسهيله وتقريبه إلى أذهان مختلف الشرائح، موضحاً أثر الوقف والابتداء في المعاني القرآنية، ووسمته بــ(الوقف والابتداء وأثرهما في المعاني القرآنية)، ومن المأمول أن يجيب هذا البحث عن التساؤلات الآتية:
-ما مدى أهمية الوقف والابتداء لتالي القرآن الكريم؟
-هل للوقف والابتداء تأثير في المعاني القرآنية؟
-كيف يؤثر الوقف والابتداء على المعاني القرآنية؟
وقد قسمت الموضوع إلى: مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة.
فالمقدمة: حوت أهمية الموضوع، وخطة الدراسة والمنهجية.
ثم يأتي المبحث الأول بعنوان: الوقف والابتداء: أهميته وأقسامه، وتضمن نبذة مختصرة عن أهمية معرفة الوقف والابتداء بالنسبة لقارئ القرآن الكريم، وتوضيح بعض المصطلحات المهمة في هذا الباب، ثم بيان أقسام الوقف والابتداء.
أما المبحث الثاني: فقد كان بعنوان: تأثر الوقف بعلوم مختلفة: وتعرض للحديث عن تأثر الوقف والابتداء بعلوم مختلفة: مثل اللغة والتفسير والقراءات.
والمبحث الثالث كان بعنوان: أثر الوقف والابتداء على المعاني القرآنية: وقد وضح تأثر المعاني القرآنية بالوقف والابتداء إن كانا غير سليمين.
والمبحث الرابع حمل عنوان: نماذج تطبيقية للوقف والابتداء، عرض بعض النماذج لاختلاف الوقف والابتداء حسب طبعات المصحف الشريف، ونماذج أخرى لتوظيف المفسرين للوقف والابتداء في تفسير القرآن الكريم.
وأخيراً تأتي الخاتمة فتحمل في طياتها ما توصل إليه الباحث من استنتاجات وتوصيات.
أما المنهجية المتبعة في هذا البحث: فقد اعتمد الباحث المنهج الاستقرائي، ثم المنهج التحليلي؛ حيث عمد الباحث إلى تحليل المادة العلمية المستقراة، فظهر التمثيل ببعض الآيات القرآنية الكريمة في البحث، مع تحليل لكلام أهل الفن في الموضوع، والذي هو المحور الأساس في دراسة الوقف والابتداء في القرآن الكريم، ومن ثم كان التمثيل لبعض المواضع الصحيحة في الوقف والابتداء بحسب ما يقتضيه السياق من المعاني المرادة من قبل الله تعالى، وبيان لبعض المواضع غير الصحيحة في الوقف والابتداء، وكيف تأثرت بها المعاني القرآنية.
كما أن منهجية البحث ابتعدت عن التعقيد والاستطراد؛ قصداً إلى تيسير الموضوع؛ ليتمكن من الإفادة منه مختلف شرائح الدارسين والباحثين.
المبحث الأول
الوقف والابتداء: أهميتهما وأقسامهما
المطلب الأول: أهمية الوقف والابتداء
موضوع الوقف والابتداء من أهم أحكام التجويد التي ينبغي لقارئ القرآن الكريم أن يهتم بها ويتعلمها ويتقنها، فهو فن جليل، ومطلب سام جميل، به يعرف قارئ القرآن الكريم كيفية الأداء، وبإتقانه يستطيع الإتيان بالمعنى المراد، قال ابن الأنباري (ت:328هــ): ((من تمام معرفة القرآن: معرفة الوقف والابتداء؛ إذ لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن إلا بمعرفة الفواصل، فهذا أدل دليل على وجوب تعلمه وتعليمه))[(1)]، وقال السخاوي (ت:643هــ): ((ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دونه العلماء: تبيين معاني القرآن العظيم، وتعريف مقاصده، وإظهار فوائده، وبه يتهيأ الغوص على درره وفوائده))[(2)]، وقال الإمام الزركشي (ت:794هــ) في البرهان: ((... وبه تتبين معاني الآيات ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات))[(3)].
ولأهمية الوقف والابتداء ومكانتهما في القرآن الكريم؛ فقد ورد عن الإمام علي- كرم الله وجهه- عندما سئل عن معنى الترتيل في قوله تعالى:{وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل:4]، قوله: ((هو تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف))[(4)]، فقد كان معرفة الوقوف شطر تعريف الترتيل عند الإمام علي كرم الله وجهه.
وهذا دليل على أن للموضوع مكانته وأهميته بالنسبة إلى معرفة الأحكام المتعلقة بتجويد القرآن الكريم.
ولهذا حرص رسولنا الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- على تعليم أصحابه الوقف والابتداء، حرصه على تعليمهم تلاوة القرآن الكريم ومعانيه، فقد كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يتلقون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يبتدئ به وما يوقف عنده، كما يتلقون القرآن الكريم حفظاً وترتيلاً وعملاً، فقد ورد على لسان ابن عمر رضي الله عنه قوله: ((لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتي الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على النبي صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم القرآن اليوم، ولقد رأينا اليوم رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه))[(1)].
قال أبو جعفر النحاس (ت:338هــ): ((فهذا الحديث يدل على أنهم كانوا يتعلمون الأوقاف كما يتعلمون القرآن))[(2)].
وقال أبو عمرو الداني (ت:444هــ): ((ففي قول ابن عمر: دليل على أن تعلم ذلك توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه إجماع من الصحابة رضوان الله عليهم))[(3)].
وقال السيوطي (ت:911هــ): ((وقول ابن عمر: (لقد عشنا برهة من دهرنا) يدل على أن ذلك إجماع من الصحابة ثابت))[(4)].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه وقف التمام، إلا أنه ليس من اللازم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم صحابته مواضع الفصل والوصل في القرآن الكريم كله، بل أعطاهم إطاراً نظرياً، هو عدم ختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بآية عذاب[(1)]، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة)[(2)].
قال النحاس معقباً على هذا الحديث: ((فهذا تعليم التمام توقيفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ينبغي أن يقطع على الآية التي فيها ذكر الجنة والثواب، ويفصل ما بعده إن كان بعدها ذكر النار أو العقاب، نحو:{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ}[الإنسان:31]، ولا ينبغي أن يقول: ((وًالظَّالِمِين َ)) لأنه منقطع عما قبله، لأنه منصوب بإضمار فعل، أي: ويعذب الظالمين، أو وعذب الظالمين[(3)].
يقول الهذلي في الكامل: ((الوقف حلية التلاوة، وزينة القارئ، وبلاغة التالي، وفهم المستمع، وفخر العالم))[(4)].
ومن ذلك يتبين أن تعلم الوقف والابتداء وإتقانه والعناية به سنة متبعة في القراءة- منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- تتناقلها الأجيال، يقول ابن الجزري: ((وصح بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح... ومن ثم اشترط كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحداً إلا بعد معرفته الوقف والابتداء، وكان أئمتنا يوقفوننا عند كل حرف، ويشيرون إلينا فيه بالأصابع، سنة أخذوها كذلك عن شيوخهم الأولين))[(5)].
المطلب الثاني
المصطلحات ذات الصلة بالموضوع
وقبل الدخول في بيان الوقف والابتداء وأقسامهما؛ هناك ثمة مصطلحات مهمة تدور في هذا الموضوع، حري بنا أن نقف عندها، وهي:
1-الوقف: هو قطع الصوت على آخر الكلمة زمناً يسيراً، مع أخذ النفس، بنية استئناف القراءة، ويكون على رؤوس الآي وأوساطها، ولا يكون وسط الكلمة[(1)]، ولا فيما اتصل رسما في المصحف[(2)].
2-القطع: هو الوقف بقصد الانتهاء من القراءة، وينبغي أن يكون على رؤوس الآيات التي لا ارتباط لها بما بعدها.
3-السكت: هو قطع الصوت زمناً دون زمن الوقف، من غير تنفس، بنية استئناف القراءة في الحال، وهو مقيد بالسماع، فلا يجوز إلا فيما ثبت فيه النقل وصحت به الرواية، ويكون في وسط الكلمة وفيما اتصل رسماً[(3)].
4-الابتداء: هو الشروع في القراءة، ابتداء أو مباشرة لها بعد وقف.
5-التعلق اللفظي: هو التعلق من جهة الإعراب؛ كتعلق الصفة بالموصوف، أو المضاف بالمضاف إليه، أو الخبر بالمبتدأ، ونحو ذلك.
6-التعلق المعنوي: هو التعلق من جهة المعنى، وهو ترابط الجمل ببعضها من جهة المعنى؛ كأن تتحدث عن المؤمنين، أو عن أحوال الكافرين، أو تحكي قصة واحدة.
المطلب الثالث
الوقف وأقسامه
الوقف ينقسم حسب حالته إلى نوعين: وقف اضطراري، ووقف اختياري[(1)].
فالوقف الاضطراري: هو وقف القارئ اضطراراً، بسبب مؤثر خارج عن إرادته؛ كانقطاع النفس أو غيره[(2)].
والوقف الاختياري: هو وقف القارئ على موضع من آيات القرآن الكريم أثناء التلاوة مختاراً، دون مؤثر.
والذي يعنينا في دراستنا هذه هو النوع الثاني، وهو الوقف الاختياري؛ لأن الوقف الاضطراري لا إرادة للمكلف فيه، فوقوفه كان نتيجة مؤثر خارج عن إرادته؛ ولذلك لا يكون مؤاخذاً ولا آثماً لو كان وقوفه على موضع لا يجوز الوقف عليه، بخلاف الوقف الاختياري، الذي اختار القارئ الوقوف عليه؛ فإنه تتعلق به الأحكام التكليفية، فتعمد الوقف مظنة للكراهة والنهي؛ لأنه تعمد الوقف على موضع لا يجوز الوقف عليه، وسيأتي بيان ذلك في محله بمشيئة الله تعالى.
وإذا علمنا أن الوقف الاضطراري لا إرادة للإنسان فيه، ولا يؤاخذ عليه، حتى ولو كان الوقف غير جائز، فإن مجال دراستنا سيكون حول الوقف الاختياري، وقد سلك العلماء- رحمهم الله- طرقاً متعددة في تقسيمه[(1)]، وبيان مراتبه، وجميع ما ذكروه- كما صرح الأشموني وابن الجزري- غير منضبط ولا منحصر، لاختلاف المفسرين والمعربين؛ لأن الوقف يكون تاماً على تفسير وإعراب وقراءة، غير تام على آخر، إذ الوقف تابع للمعنى[(2)]؛ لذا فإني سأسلك في هذه الدراسة طريقاً سهلاً ميسراً للتوصل إلى فهم الموضوع، فأقول:
الوقف ينقسم إلى ثلاثة أقسام: واجب، وجائز، وغير جائز (قبيح).
أولاً: الوقف الواجب
تعريفه: هو الوقف على ما تم معناه، ووصله بما بعده يوهم معنى غير المعنى المراد.
ويسمى هذا الوقف بالوقف اللازم[(3)]؛ للزوم الوقف عليه، لذا يرمز له في المصحف بعلامة (مـ) أخذاً عن السجاوندي الذي رمز له بذلك في كتابه الوقوف[(4)]، ويسميه بعضهم بوقف البيان؛ لأن الوقف عليه يبين المعنى المراد، قال الأشموني، ((وأما وقف البيان، وهو أن يبين معنى لا يفهم بدونه؛ كالوقف على قوله تعالى ((وتوقروه)) من قوله تعالى {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}[الفتح:9]، فرق بين الضميرين، فالضمير في قوله ((وَتُوَقِّرُوهُ )) للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي ((وَتُسَبِّحُوهُ )) لله تعالى، والوقف أظهر هذا المعنى المراد))[(1)].
أمثلته:
1-الوقف على كلمة {قَوْلُهُمْ} من قوله تعالى:{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}[يس:76ٍ]، لأنه لو وصل بما بعده لأوهم أن جملة {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} من قول الكافرين، وهي ليس كذلك، وإنما هي مستأنفة، وهي من قول الحق تبارك وتعالى.
وكذلك يقال في قول الله تبارك وتعالى:{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[يونس:65.]
2-الوقف على كلمة ((يَسْمَعُونَ)) من قول الله تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[الأنعام:36]، فإنه لو وصل بما بعده لأوهم أن الموتى يشتركون مع الأحياء في الاستجابة، وهو ليس كذلك، وإنما يستجيب الذي يسمعون فقط، والموتى يبعثهم الله.
حكمه: حكم هذا الوقف يؤخذ من اسمه فهو واجب أو لازم؛ لأن الوصل يٌخل بالمعنى ويُفسده ويُغيره؛ فلا يجوز تعمده، ومن تعمد الوصل فإنه يأثم بذلك.
ملحوظة: وكثير من مؤلفي علم التجويد والوقف والابتداء يدرجون هذا الوقف ضمن الوقف التام، والحقيقة أن هناك فرقاً بينهما، يتضح من خلال الأمور الآتية:
1-موضع الوقف الواجب في حالة وصله بما بعده يوهم معنى آخر غير المعنى المراد، كما يتضح من أمثلته السابقة، اما الوقف التام فلا يتأثر المعنى في عند وصله بما بعده[(1)]، لذا يختلف حكم الوقف بينهما؛ فالوقف التام، يحسن الوقف عليه، أما الواجب: فيجب الوقف عليه؛ لئلا يوهم معنى غير مراد.
2-الوقف الواجب أعم من الوقف التام، حيث إنه يشمل التام والكافي وربما الحسن[(2)].
فمن التام: قوله تعالى:{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}[يونس:65]، فالوقف على ((فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ)) والابتداء بقوله ((إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)) لئلا يتوهم أن هذا من قولهم، ونلاحظ أن ما بعد الوقف لا يوجد تعلق معنوي أو لفظي بما قبله، وهذا ما يعرف بالوقف التام.
ومن الكافي: الوقف على قوله تعالى {...وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8]، والابتداء بما بعده وهو قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا...}؛ حيث إن الوقف هنا على ما تم معناه، وتعلق ما بعده به معنى لا لفظاً، وهذا هو الوقف الكافي، والوقف في هذا الموضع واجب، لئلا يتوهم أن الخداع وصف للمؤمنين.
ومن الحسن قول الله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً}[المائدة:27] فالوقف على قوله ((بِالْحَقِّ)) والابتداء بقوله ((إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً)) لئلا يوهم العامل في ((إِذ)) الفعل المتقدم[(3)].
ثانياً: الوقف الجائز
تعريفه: هو الوقف على ما تم معناه، وأعطى معنى صحيحاً مراداً، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع: تام، كاف، حسن.
الوقف التام
تعريفه: هو الوقف على ما تم معناه، ولم يتعلق ما بعده به، لا لفظاً ولا معنى.
أمثلته:
يكثر وجود هذا الوقف في تمام القصص، وتمام الحديث عن صنف من أصناف الناس، أو تمام الحديث عن قوم معينين، وقد يكون في نهاية الآية، وفي وسطها، كما يكون في بدايتها، ومن أمثلته ما يلي:
1-الوقف على كلمة {الْمُفْلِحُونَ} من قوله تعالى:{أُوْلَئِك َ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة:5]، والابتداء بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6].
فإن كلمة {الْمُفْلِحُونَ} في الآية الأولى نهاية الحديث عن المؤمنين، ثم بدأت الآية التالية الحديث عن أحوال الكافرين؛ ولا تعلق بين الآيتين لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، فكل آية تتحدث عن معنى يختلف عن الآخر، والوقف التام- هنا ورد- في آخر الآية.
2-الوقف على كلمة ((جَاءَنِي)) من قوله تعالى:{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً}[الفرقان:29]، والابتداء بقوله تعالى:{وَكَانَ الشَّيْطَانُ...} من نفس الآية الكريمة.
فإن في كلمة ((جَاءَنِي)) نهاية كلام الظالم كما يحكيه الله سبحانه عنه، وما بعدها كلام مستأنف، وهو من كلام الله تبارك وتعالى، ونلاحظ أن الوقف التام هنا جاء في وسط الآية الكريمة.
3-الوقف على كلمة ((وَبِاللَّيْلِ)) من قوله تعالى:{وَإِنَّكُ مْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الصافات:137-138]، فقد تم الكلام في هذه الكلمة، وهي صدر الآية، وما بعدها كلام مستأنف.
لا تعلق له بما قبله؛ لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى.والملاحظ- هنا- أن الوقف جاء في أول كلمة من الآية الكريمة.
حكمه: يحسن الوقف عليه ويحسن الابتداء بما بعده، والوقف عليه أولى من الوصل[(1)].
ويتفاوت الوقف التام في المرتبة؛ فقد يكون بعض المواضع أتم من بعض؛ تبعاً للسياق القرآني، يقول ابن الجزري: ((وقد يتفاضل التام في التمام، نحو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4] و{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5] كلاهما تام، إلا أن الأول أتم من الثاني؛ لاشتراك الثاني فيما بعده في معنى الخطاب بخلاف الأول))[(2)].
وعلامته في اصطلاح ضبط المصحف وضع علامة (قلى) فوق الكلمة التي يكون الوقف فيها تاماً، ومعنى هذه العلامة: ((أن الوقف أولى من الوصل لتمام المعنى))[(3)].
الوقف الكافي
تعريفه: هو الوقف على ما تم معناه، وتعلق ما بعده به[(4)] معنى لا لفظاً.
وسمي كافياً لاكتفائه واستغنائه عما بعده، واكتفاء واستغناء ما بعده عنه[(5)].
أمثلته:
1-الوقف على كلمة {لا يُؤْمِنُونَ} من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:6،7]، وكذلك الوقف على ((سَمْعِهِمْ)) و((غِشَاوَةٌ))
فإن الوقف على هذه المواضع من هاتين الآيتين الكريمتين وقف كاف؛ لأن كل جملة من هذه الجمل تفيد معنى مستقلاً وصحيحاً، ونلاحظ أن هذه الجمل يتعلق بعضها ببعض من جهة المعنى؛ فهي تصف أحوال الكافرين.
2-الوقف على كلمة ((حُرُم)) من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ}[المائدة:95]، والابتداء بما بعدها.
فإن الجملة الأولى تنهى المُحرم عن قتل الصيد، والجملة التالية لها تبين جزاء من خالف هذا النهي، فهي مرتبطة بها من جهة المعنى.
حكمه: يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده، والفرق بينه وبين الوقف التام أن الوقوف على الوقف التام أكثر حسناً[(1)]؛ لعدم تعلق ما بعده به، أما الكافي فإن ما بعده متعلق به معنى.
وقد يتفاضل الوقف الكافي في المرتبة؛ فيكون كافياً، ويكون أكفى، فكلما قل التعلق المعنوي في الموضع، كان الوقف أكفى، وكلما كان التعلق أكبر، كان الوقف أقل كفاية، وهكذا، ومن أمثلة ذلك: أن الوقف على قوله تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1]، هو وقف كاف، ولكن الوقف على قوله تعالى {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2]، هو أكفى، والوقف على قوله تعالى {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3]، أكفى من الوقف الثاني، وهكذا إلى نهاية السورة الكريمة، حيث يكون الوقف التام عند قوله تعالى آخر السورة {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون:17].
وعلامة الوقف الكافي في اصطلاح المصحف: وضع علامة (صلى) على الكلمة.[(1)]
الوقف الحسن
تعريفه: هو الوقف على ما تم معناه، وتعلق ما بعده به لفظاً ومعنى.
أمثلته:
الوقف على: لفظ الجلالة ((لِلَّهِ)) و((الْعَالَمِينَ )) و((الرَّحِيمِ)) من قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:2-4].
وبالرجوع إلى هذه الأمثلة نلاحظ أن الوقف على لفظ الجلالة تام المعنى، فهو غير محتاج إلى ما بعده، ولكن ما بعده متعلق به من جهتي اللفظ والمعنى؛ فما بعد الموضع الأول نجد ((رَبِ)) وهي صفة لله، والصفة تتبع الموصوف؛ فهي متعلقة لفظاً (إعراباً)، ولذا جاءت مجرورة، فلا يبتدأ بالمجرور، لأنه محتاج إلى عامله الإعرابي، والكلام في هذا الموضع ينطبق على المواضع الأخرى في الآيتين الكريمتين[(2)].
حكمه: الوقف الحسن يحسن الوقف عليه؛ لأنه وقف على ما تم معناه، أما الابتداء بما بعده ففيه تفصيل:
1-فإن كان الوقف على غير رؤوس الآي فحكمه أنه يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده؛ لتعلقه به لفظاً ومعنى؛ كالوقف على ((الْحَمْدُ لِلَّهِ))[الفاتحة:2]؛ فإنه كلام يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده؛ لأن ما بعده وهو قوله: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) صفة لله، والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد، لا يفرق بينهما، والابتداء حينئذ يكون غير حسن، كما أن اللفظ المبدوء به أصبح عارياً عن العوامل اللفظية، والعاري عن العوامل اللفظية هو المبتدأ، وحكمه الرفع، بينما صار مخفوضاً هنا[(1)].
2-أما إن كان الوقف على رأس آية، كالوقف على ((الْعَالَمِينَ)) من قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، أو الوقف على {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة:219]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1]؛ فقد اختلف العلماء في ذلك على وجهين:
الأول: يرى أصحابه أنه يحسن الوقف عليه ويحسن الابتداء بما بعده؛ لأن الوقف على رؤوس الآي هو السنة، لمجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية؛ يقول: ((بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ))[الفاتحة:1] ثم يقف، ثم يقول:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] ثم يقف، ثم يقول:{الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3][(2)].
وهذا الرأي حكاه ابن الجزري، وقال: إنه رأي أكثر أهل الأداء؛ لمجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم[(3)].
الثاني: يرى أصحابه أنه يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، وأن رؤوس الآي وغيرها عندهم في حكم واحد، وهذا ما ذهب إليه بعض أرباب الوقف؛ كالسجاوندي، وصاحب الخلاصة وغيرهما[(4)].
والذي أختاره وأميل إليه هو الوجه الثاني، وهو: عدم التفريق بين رأس الآية وغيرها، فآيات القرآن الكريم جاءت بمعاني محددة، وهي مترابطة بتلك المعاني، والوقف أو الابتداء بكلام يؤثر على المعاني؛ سواء بعدم إفادتها أو تغيير معناها يُعد تحريفاً لما تتضمنه الآية من معنى، وما تحمله من دلالات، أراد الله سبحانه وتعالى من خلالها التوجيه والإفادة، أما الاستدلال بحديث أم سلمة على سنية الوقف على رأس الآية: فقد حكي الزركشي عن الجعبري (ت:732ه)أنه لا دلالة فيه على ذلك :لانه إنما قصد به إعلام الفواصل ،ووصف الجعبرى من سماه وقف السنة بأنه وهم؛ إذ لا يسن إلا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تعبداً، فما وقف. عليه السلام. عليه دائماً تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائماً تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريفهما، أو لتعريف الوقف التام، أو للاستراحة[(1)].
ثالثاً: الوقف غير الجائز (القبيح)
تعريفه: هو الوقف على ما لم يتم معناه، أو يغير المعنى المراد، وينقسم إلى نوعين:
الأول: الوقف على كلام لا يفيد شيئاً ولا يفهم منه معنى؛ لتعلقه بما بعده لفظاً ومعنى.
أمثلته:
1-الوقف على" بِسمِ " من قوله تعالى ((بِسمِ اللهِ الرحَمَنِ الرَحِيمِ))[الفاتحة:1]، أو {الحمد} من قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ فهذه الكلمات بمفردها لا تعطي أي معنى يفيد، فهي محتاجه إلى ما بعدها.
2-الوقف على كلمة {الصالحات} أو {الصَّلاةَ} أو {الزَّكَاةَ} من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:277]، وكذلك الوقف على كلمة {النَّهَارِ} في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}[آل عمران:190]؛ فالوقف على هذه المواضع لم تتم به الفائدة، وذلك لفصله بين اسم إن وخبرها؛ فلا يفيد معنى؛ وذلك لاحتياجه إلى ما بعده، وتعلقه به لفظاً ومعنى.
3-الوقف على ((أذى من قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:262]، فالوقف- هنا فصل- بين المبتدأ وخبره، لذا لم يعط معنى.
4-الوقف على {قَلِيلاً} من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:174]؛ لأن الوقف فصل بين اسم إن وخبرها، لذلك لم تتم به فائدة أو معنى.
النوع الثاني: الوقف على موضع يؤدي إلى تغيير المعنى المراد.
أمثلته:
1-الوقف على {يَسْتَحْيِي} من قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}[البقرة:26]
2-الوقف على {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}[النساء:43].
3-الوقف على ((وَالظَّالِمِين َ)) من قوله تعالى:{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}[الإنسان:31].
4-الوقف على {وَالْمَوْتَى} من قوله تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[الأنعام:36].
فالوقف على هذه المواضع وما شاكلها قبيح وشنيع جداً؛ لما فيه من إفساد المعنى الذي أراده الله تعالى وتغيير معناه؛ فلا يجوز تعمد الوقف على هذه المواضع وأمثالها، ومن قصده كان آثماً، واستحق أن يكون من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
ولينتبه قارئ القرآن الكريم وليتدبر ما يقرأ؛ احترازاً من الوقوع في مأزق الوقوف في مثل هذه المواضع، ومن اضطر إلى الوقف عليه لضيق النفس أو غيره فليرجع ليصله بما بعده؛ ليستقيم المعنى وتتم الفائدة.
المطلب الرابع
الابتداء وأنواعه
الابتداء هو: الشروع في القراءة؛ سواء أكان ابتداء أم بعد وقف.
الابتداء في الأصل لا يكون إلا اختيارياً غالباً[(1)]، بخلاف الوقف فقد يكون اضطرارياً كما أسلفنا.
وينقسم الابتداء إلى نوعين: جائز، وغير جائز (قبيح).
النوع الأول: الابتداء الجائز: هو الابتداء بكلام مستقل في معناه؛ بحيث يبين المعنى المراد ولا يغيره، وهو قسمان: تام، وكاف.
فالتام: هو الابتداء بكلام ليس له تعلق بما قبله، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى؛ كالابتداء بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6]؛ فما قبله حديث عن المؤمنين، ولا صلة بين المعنيين، ومن أمثلته- أيضاً- قوله تعالى:{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8].
والكافي: هو الابتداء بكلام يتعلق بسابقه من جهة المعنى، وهو تبع للوقف الكافي؛ فأينما وجد الوقف الكافي فما بعده ابتداء كاف، وأمثلته يرجع إليها في الوقف الكافي.
النوع الثاني: الابتداء غير الجائز (القبيح) وهو الابتداء بكلام مرتبط بسابقه لفظاً ومعنى، وهو نوعان:
الأول: الابتداء بكلام لا يفيد معنى لارتباطه اللفظي والمعنوي بسابقه، كالابتداء بقوله تعالى:{...يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} من قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1]ـ، أو الابتداء بـــ{...وَالْمَلا ئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} من قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[البقرة:161].
الثاني: الابتداء بكلام يغير المعنى المراد؛ لارتباطه اللفظي والمعنوي بسابقه، ومن أمثلته الآتي:
1-الابتداء بــ((...يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)) من قوله تعالى:{وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}[المائدة:64].
2-الابتداء بــ((...عُزَيْزٌ ابْنُ اللَّهِ)) من قوله تعالى:{وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْزٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30].
3-الابتداء بــ{...وَإِيَّاكُ مْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي}[الممتحنة:1].
4-الابتداء بــ{...إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} من قوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}[المائدة:73].
فهذا كله يخالف المعنى الذي أراده الله تبارك وتعالى ويغيره ويفسده؛ وذلك لشدة تعلقه بسابقه، إذ لا يكون المعنى صحيحاً إلا بإضافته إلى سابقه، فلا يجوز تعمده، ومن تعمده كان من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه وكان آثماً[(1)].
المبحث الثاني
تأثر الوقف والابتداء بعلوم مختلفة
وقبل الدخول في أثر الوقف والابتداء في المعاني القرآنية نود الإشارة إلى أن الوقف والابتداء- ذاته- يتأثر بعلوم مختلفة، حري بنا أن نعرج عليها بعض الشيء لتمام الفائدة.
فالقرآن الكريم نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الزمر:28]، فهو أصل اللغة العربية، بحيث يقاس عليه ما عداه من كلام العرب، لذا فكل وقف أو ابتداء عند كلمة معينة لابد أن يكون له معنى معين، هذا المعنى يعتمد على علوم مساعدة لابد من أخذها بالحسبان لمن أراد إظهار المعنى القرآني: كالمعرفة باللغة، والقراءات، ومتعلقات التفسير؛ ولذا نجد أن الوقف والابتداء يتأثران باختلاف اللغويين، كما أن الفقهاء يختلفون في مسائل فقهية كثيرة لها أثرها في مواضع الوقف والابتداء، والمفسرون يختلفون- أيضاً- في تفسير بعض الآيات الكريمة، وكذا حال القراءات.
وقد أدرك العلماء هذا التأثر، وأكدوا على أهمية إدراك هذه العلوم لمن تصدى لبيان مواضع الوقف والابتداء في القرآن الكريم، يقول أبو بكر بن مجاهد (ت:324هــ): ((لا يقوم بالتمام إلا نحوي عالم بالقراءة، عالم بالتفسير، عالم بالقصص وتخليص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن))[(1)].
ويقول الأشموني في تأثر المعنى القرآني بهذه العلوم وهو يتحدث عن الوقف التام: ((وقد يكون الوقف تاماً على تفسير وإعراب وقراءة، غير تام على آخر))، وكذا قال في حديثه عن الوقف الكافي[(2)].
وفيما يأتي نتحدث بشيء من الإيجاز عن تأثر الوقف والابتداء بهذه العلوم:
1-اللغة: يتأثر الوقف والابتداء بالاختلافات اللغوية، يقول أبو جعفر النحاس: ((ويحتاج (أي علم الوقف والابتداء) إلى معرفة النحو وتقديراته))[(3)]، نحو قول الله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[الحج:78]؛ فمن جعل {مِلَّةَ} منصوبة بمعنى (كملة) أو أعمل فيها ما قبلها لم يقف على ما قبلها، ومن نصبها على الإغراء وقف على ما قبلها[(4)].
ومن هذا القبيل: اختلاف نوع الوقف باختلاف الإعراب؛ فقد يكون الوقف حسناً على تقدير، وكافياً على آخر، وتاماً على غيرهما، نحو قوله تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]، يجوز أن يكون حسناً إن جعلت {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة:3] نعتاً لــ{المتقين}، ويجوز أن يكون كافياً إذا جعلت {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} على معنى: هم الذين، أو منصوباً بتقدير: أعني الذين، ويجوز أن يكون تاماً إذا جعلت {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} مبتدأ، وخبره {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة:5][(5)].
-وكذلك الوقف على ((الْبَيِّنَةُ)) من قول الله تعالى:{لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً}[البينة:1-2]، يكون الوقف كافياً في حال رفع ((رَسُولٌ)) على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: (هو رسول)، أما إن كان رفع ((رَسُولٌ)) على أنه بدل من ((الْبَيِّنَةُ)) لم يكن الوقف كافياً، بل يكون حسناً؛ لتعلقه بسابقه لفظاً[(1)]، قال ابن عاشور: ((واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله: ((حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ))، فيكون الوقف هناك ويكون قوله: ((رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ)) إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافاً بيانيا، وهو قول الفراء، أي هي رسول من الله؛ يعني لأن ما في البينة من الإبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة، وهي جملة معترضة بين جملة {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ مُنفَكِّينَ} إلى آخرها وبين جملة {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[البينة:4]. ويجوز أن يكون ((رَسُولٌ)) بدلاً من ((الْبَيِّنَةُ)) فيقتضي أن يكون من تمام لفظ {بينة} فيكون من حكاية ما زعموه[(2)])).
2-التفسير: يعني التفسير ببيان معاني الآيات ودلالاتها وأحكامها ومقاصدها التي ترمي إليها؛ سواء عن طريق الرواية أو الدراية، وقد يختلف المفسرون في تفسير بعض الآيات؛ مما يؤثر على تحديد مواضع الوقف والابتداء؛ ليتناسب مع تفسير الآية، وهذا الاختلاف بطبيعة الحال ليس نتيجة أهواء أو رغبات، وإنما هو نتيجة ما توصل إليه المفسر بفهمه، وما أداه إليه اجتهاده في بيان معنى الآية الكريمة، ولنقف مع بعض الأمثلة التي توضح أثر التفسير في مواضع الوقف والابتداء:
-قول الله تعالى {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:26]، فمن قال إن المعنى: محرمة عليهم هذه المدة وهي أربعين سنة وقف على ((سَنَةً))، ومن قال إن المعنى: محرمة عليهم أبداً؛ وأن التيه أربعين سنة وقف على ((عَلَيْهِمْ))[(1)].
وأجاز أبو زكريا الفراء (ت:207هــ) كلا الوجهين، حيث قال: ((أربعون سنة منصوبة بالتحريم، ولو قطعت الكلام فنصبتها بقوله ((يَتِيهُونَ)) كان صواباً[(2)].
-ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ}[الفتح:29]، قال القرطبي: قال الفراء: فيه وجهان؛ إن شئت قلت: المعنى: ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضاً؛ كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على ((الإِنْجِيلِ)) وإن شئت قلت: تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة، ثم ابتدأ فقال: ومثلهم في الإنجيل، وكذا قال ابن عباس وغيره: هما مثلان، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل؛ فيوقف على هذا على ((التَّوْرَاةِ)) وقال مجاهد: هو مثل واحد، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل، فلا يوقف على ((التَّوْرَاةِ)) على هذا، ويوقف على ((الإِنْجِيلِ)) ويبتدئ ((كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ)) على معنى وهم كزرع[(3)].
3-القراءات: القراءات هي: كيفية قراءة القرآن الكريم بأكثر من وجه حسبما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعلوم أن القراءة سنة متبعة، ولكل قارئ مذهبه وطريقته في القراءة، ولننظر في النص التالي لابن الجزري الذي يبين فيه العلاقة بين القراءات والوقف والابتداء، يقول: ((لابد من معرفة أصول مذاهب الأئمة القراء في الوقف والابتداء؛ ليعتمد في قراءة كل مذهبه؛ فنافع كان يراعي محاسن الوقف والابتداء بحسب المعنى... وابن كثير روينا عنه نصاً أنه كان يقول: إذا وقفت في القرآن على قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} وعلى قوله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} وعلى {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} لم أبال بعدها وقفت أم لم أقف، وهذا يدل على أنه يقف حيث ينقطع نفسه... وأبو عمرو فروينا عنه أنه كان يتعمد الوقف على رؤوس الآي، ويقول: هو أحب إلي، وذكر عنه الخزاعي أنه كان يطلب حسن الابتداء، وذكر عنه أبو الفضل الرازي أنه يراعي حسن الوقف، وعاصم ذكر عنه أبو الفضل الرازي أنه كان يراعي حسن الابتداء، وذكر الخزاعي أن عاصماً والكسائي كانا يطلبان الوقف من حيث يتم الكلام، وحمزة اتفقت الرواة عنه أنه كان يقف عند انقطاع النفس؛ فقيل: لأن قراءاته التحقيق والمد الطويل، فلا يبلغ نفس القارئ إلى وقف التمام ولا إلى الكافي، وعندي أن ذلك من أجل أن القرآن عنده كالسورة الواحدة، فلم يكن يتعمد يتعمد وقفاُ معيناً، ولذلك آثر وصل السورة بالسورة، فلو كان من اجل التحقيق لآثر القطع على آخر السورة، والباقون من القراء كانوا يراعون حسن الحالتين وقفاً وابتداء))[(1)].
ومن ذلك يتبين أن هناك علاقة بين القراءات والوقف والابتداء، هذه العلاقة يتأثر بها الوقف والابتداء؛ بحيث تحدد مواضع معينة يتحتم على القارئ بقراءة معينة الوقوف عليها أو الابتداء بها؛ حسب القراءة التي يلتزم بها، وفيما يلي نقف مع بعض الأمثلة:
-قوله تعالى:{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً}[الفرقان:22]؛ ففي قراءة الفتح ((حِجْراً)) يكون تمام الوقف على ((مَحْجُوراً)) أما في قراءة الضم ((حِجْراً)) وهي قراءة الحسن، فيكون تمام الوقف على ((حِجْراً))؛ لأن العرب كان إذا نزل بالواحد منهم شدة قال: ((حِجْراً)) فقيل له ((مَحْجُوراً))[(2)].
-وكذلك في قوله تعالى:{وَكَتَبْن َا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ...}[المائدة:45]؛ يكون تمام الوقف على ((قصاص)) عند من نصب ((والعين)) وما بعدها، عطفاً على ((النفس))، وجعل ((قِصَاصٌ)) خبر ((أَنَّ)) وهي قراءة: نافع وعاصم وحمزة والأعمش.
أما من قرأ ((وَالْعَيْنَ)) بالرفع، ورفع ما بعدها، فالوقف عنده على ((أن النفس بالنفس)) وهي قراءة: الكسائي، ويكون المعنى على هذه القراءة: أن ((وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ...)) بالرفع ابتداء حكم في المسلمين، ويجعل ما كتب عليهم في التوراة أن النفس بالنفس، ويوجب الحكم في القصاص في العيون وما بعدها بين المسلمين بالآية[(1)].
-ومثال ذلك أيضاً: قول الله تعالى {...إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}[إبراهيم:1-2]، فالوقف على ((الحميد)) تام على قراءة نافع وابن عامر؛ لأن قراءتهما برفع لفظ الجلالة ((اللهِ)) على الابتداء والاستئناف؛ ولذلك يحسن الوقف ويحسن الابتداء، وحسن على قراءة الباقين الذين قرأوا بالخفض، وعلى قراءة الخفض لا يحسن الابتداء؛ لأنه متعلق بما قبله لفظاً[(2)].
4-الفقه: علم الفقه يبحث في الأحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده، وللفقه مصادر عدة لاستخراج الأحكام، أعلاها هو القرآن الكريم، ولمعرفة الجائز والواجب والحلال والحرام والمندوب والمكروه، لابد من معرفة آيات الأحكام في القرآن الكريم، ولا تفهم الآيات إلا على ضوء علاقات الكلمات والجمل، التي تختلف حسب الوقف والابتداء[(3)]؛ لذلك ((يحتاج صاحب علم التمام المعرفة بأشياء من اختلاف الفقهاء في أحكام القرآن))[(1)].
ومن أمثلة تأثر الوقف والابتداء باختلاف الحكم الفقهي قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:4-5]، حيث اختلف الفقهاء في قبول شهادة القاذف إذا تاب[(2)]؛ فمن قال بعدم قبولها وإن تاب كان الوقف عند ((أبداً)) والابتداء بما بعدها، وهي ((وأولئك))، وبذلك يكون المستثنى في الآية الكريمة التالية متعلقاً بالجملة الاسمية ((وأولئك...))، وعندئذ يطلق اسم الفاسقين عليهم إلا من تاب منهم وأصلح.
أما من قال تجوز شهادة القاذف إذا تاب؛ كان الكلام عنده متصلاً، والوقف يكون عند ((فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، وبذلك يكون الاستثناء من جملة ((وَلا تَقْبَلُوا...)) وليس من جملة ((وَأُوْلَئِكَ...) )، ووجه الكلام هنا يكون: ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا[(3)].
يتبع