الأدب الرباني في اللقاء الاجتماعي
من خلال سورة الأحزاب
د. مها يوسف جارالله الحسن الجارالله[(*)]
ملخص البحث:
تكفل الله سبحانه وتعالى بتأديب جيل القرآن الأول, جيل محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته, عن طريق كتابه العزيز, بآداب تراعي ظروف ومشاعر الخلق, في جميع مناحي الحياة, مثل: اللقاءات الاجتماعية, ولعل بعض الآداب أتت خاصة في التعامل مع سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم بما يتناسب مع كونه سيد المرسلين, نحو النداء عليه باسمه كما في قوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن ورَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)([1]), وبعضها يستحب لأمته الامتثال لها والحرص على تطبيقها, نحو الآداب المذكورة في آية سورة الأحزاب التي دار البحث حولها.
وتجلت هذه الآداب في اللقاءات الاجتماعية – من واقع السورة – في الالتزام بأخلاق الإسلام: أدباً وسلوكاً, ومعرفة, وعملاً, وأن هذه الآداب جاءت بطريقين: بطريق المنطوق وطريق المفهوم, وآداب الإسلام الواردة بطريق المنطوق, تجلت في الاستئذان, والحديث, والحياء, وباقي آداب الإسلام واردة بطريق المفهوم.
وهذه الآداب الثلاثة لها أهمية كبرى في نجاح اللقاءات الاجتماعية وديمومتها بين الأفراد, والالتزام بها, والعمل على تطبيقها يضفي الارتياح على جميع الخلق.
المقدمة:
الحمد لله الذي أكرم عباده بنعمة العلم, فقال جل شأنه: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ القُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ (4))([2]), وأمده بالجوارح التي تنير له الآفاق (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) ولِسَانًا وشَفَتَيْنِ (9))([3]), وأصلي وأسلم على معلم البشرية وقدوة البرية, النبي الأمي صاحب الخلق القويم, والسراج المنير, محمد بن عبد الله, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد أنزل الله سبحانه على نبيه محمد القرآن الكريم, وأكرمه بخاتم الكتب السماوية فجعله مهيمناً عليها؛ لما فيه من الحجة والبيان والبلاغة والإتقان, ونظم العلاقة بين الخالق والعباد, والخلق فيما بينهم ومع أنفسهم على سواء, فالبشر فيما بينهم سواءاً كانوا أفراداً أو جماعات – تربطهم علاقات, التواصل والزيارات, فكان للمنهج القرآني أدب وبيان في تلك الزيارات بين الأهل والأحباب, ومن بيت النبوة انطلقت تلك الآداب؛ لترسم معالم واضحة لجميع الأفراد في الأخذ بها عند الزيارات الاجتماعية, وإن كان الخطاب واضحاً للمؤمنين عند دخولهم بيوت النبي صلى الله عليه وسلم, إلا أن تلك الآداب عامة تشترك فيها جميع بيوت المؤمنين, فبيوت النبي صلى الله عليه وسلم هي المدرسة, وهي الانطلاقة للمؤمنين ليستقوا منها العلم والعمل, والتربية والمنهج, والأدب والمعاملة.
وإن الآداب الثلاثة التي سنتناولها في البحث, محتاج إليها كل بيت مسلم, وهي التي استعرضتها الآية الكريمة: من أدب الاستئذان, وأدب الحديث, وأدب الحياء.
الأسباب الداعية لكتابة البحث:
غياب الأدب الإسلامي في الزيارات الاجتماعية.
كثرة الطفيليين في المجتمعات المدنية.
ربط المسلمين بالوحيين من الكتاب والسنة.
أهمية دراسة الموضوع:
بيان اهتمام القرآن الكريم بدقائق حياتنا الاجتماعية.
تنظيم القرآن الكريم لعلاقة الخلق فيما بينهم.
معرفة الأدب الرباني المتعلق باللقاء الاجتماعي.
بيان أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم هي مدرسة لجميع المؤمنين.
خطة البحث:
فقد قسمت البحث إلى تمهيد وثلاثة مباحث, على النحو التالي:
التمهيد: ضرورة الأدب في حياة المسلم.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أدب الاستئذان "إلا أن يؤذن لكم":
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى الاستئذان, وكيفيته, وصوره.
المطلب الثاني: تأصيل سنة الاستئذان.
المبحث الثاني: أدب الحديث "ولا مستأنسين لحديث":
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى الحديث, وآدابه, وأنواعه.
المطلب الثاني: أدب الحديث الاجتماعي.
المبحث الثالث: أدب الحياء "يستحيي منكم":
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى الحياء, وحقيقته, وأهميته.
المطلب الثاني: أدب الحياء, ومجالاته.
وأخيراً: الخاتمة وفيها نتائج البحث.
منهج البحث:
التركيز على الآية التي تناولت اللقاء الاجتماعي في سورة الأحزاب تفسيراً وإيضاحاً.
بيان معنى المصطلحات الرئيسة في البحث, مثل: الاستئذان, والحديث, والحياء.
تقسيم المطلب إلى أقوال المفسرين في الآية, وربطها بالواقع.
الاعتماد على التفسير بالمأثور, والتفسير بالرأي المحمود.
التعليق على أقوال المفسرين, وبيان أوجه الاتفاق والاختلاف.
توثيق أقوال المفسرين والمحدثين, من كتب التفسير والحديث, وعلوم القرآن, وعلوم اللغة, قدر الإمكان.
ذكرت اسم المؤلف لكل كتاب, مع عنوان الكتاب, ومكان النشر, والطبعة, والسنة في الهامش غالباً.
ذكرت اسم كل راو للحديث في البحث, كما قمت بتخريج الأحاديث النبوية, وذلك بعزوها إلى مواضعها من كتب السنة, بذكر الكتاب والباب, ورقم الحديث, والجزء والصفحة مع بيان الحكم على الحديث إذا لم يكن مخرجاً في الصحيحين.
أثبت المصادر والمراجع في ذيل كل صفحة؛ ليسهل الرجوع لمن يريد التأكد من صحة ما ورد في هذا البحث.
أخيراً: ذيلت البحث بفهارس المراجع والمصادر, والموضوعات.
وأما عن الجديد الذي يضيفه هذا البحث, فهو:
أن اللقاءات الاجتماعية لها آداب وأصول مذكورة في القرآن الكريم.
أن بعض الآداب لها سمات مشتركة وعامة لجميع البيوت, وليست قاصرة على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم.
تناول القرآن الكريم جميع جوانب حياة الفرد, وخصوصاً الجانب الاجتماعي.
التعايش مع القرآن الكريم في تطبيق أحكامه وآدابه ومبادئه.
آداب اللقاءات الاجتماعية يجب التحلي بها عند بيوت النبي صلى الله عليه وسلم, وعند غيره من المؤمنين.
والله أسأل أن يتقبل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم, وأن يكون فيه إضافة للمكتبة الإسلامية, وأن ينتفع به طلاب العلم خاصة, والمسلمون عامة.
التمهيد:
ضرورة الأدب في حياة المسلم
لا يختلف اثنان في أن الحياة التي نعيشها عبارة عن مدرسة لكل كائن بشري يحيا على هذه الأرض, سواء ألتحق وانتظم في المدارس النظامية أم جلس في بيته وتعلم من والديه, وأنعم بهما من معلم إن حسن خلقهما ودينهما.
قال علي رضي الله عنه: علموهم وأدبوهم([4]), في بيان قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا) ([5]).
وقال ابن حجر: والأدب استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً([6]).
وقال يحيى بن معاذ: "من تأدب بأدب الله, صار من أهل محبة الله", وقال ابن المبارك أيضاً: "نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم". فهناك أناس عندهم علم كثير, لكن ليس عندهم أدب, فنفروا الخلق عن الدين([7]).
ولعل أول الدروس التي يستقيها الابن في حياته, بعد معرفة الألفاظ ودلالتها: الأدب, سواء أكان بتوجيه مباشر أو غير مباشر, وغالباً ما يكون في السنوات الأولى من عمر الإنسان بطريق غير مباشر, وبعدها يسمع اللفظ صريحاً (الأدب) في حياته.
والأدب قيمة عظيمة لها انعكاسات إيجابية في تعامل الفرد مع خالقه ونبيه ونفسه ووالديه وأسرته ومجتمعه المحيط به.
والشريعة الإسلامية أولت هذا الموضوع (الأدب) أهمية كبيرة, فهو في الكتاب والسنة منارة, وفي حياة الصحابة والتابعين علامة, وفي هدي الصالحين وسامة.
وباب الأدب واسع ورحب يحوي مجالات كثيرة, ذكرها أهل العلم وخصوصاً المحدثين في كتبهم, فعلى سبيل المثال: أفرد الإمام البخاري في صحيحه كتاباً للأدب ضمنة مائة وثمانية وعشرين باباً, والإمام مسلم في صحيحه عشرة أبواب, والإمام الترمذي في جامعة اثنين وثمانين باباً, وأبو داود في سننه مائة وتسعة وستين باباً, بينما سمى الإمام النسائي في سننه كتاب آداب القضاة وذكر فيه سبعة وثلاثين باباً, وابن ماجه في سننه ضمن كتاب الأدب تسعة وخمسين باباً.
وصنفت كتب خاصة بالأدب مثل: (أدب الدنيا والدين) للمارودي, و(الآداب الشرعية) لابن مفلح, وكذا (تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم) لابن جماعة.
فأهل العلم اعتنوا بهذا الفن (الأدب) عناية كبيرة؛ لما له من أهمية في حياة المسلم, وإذا شرع في تطبيقها والعمل بها والدعوة إليها, ارتقى بنفسه وأسرته؛ ثم مجتمعه؛ فينعكس عليه بآثار طيبة في حياته وحياة من حوله.
المبحث الأول
أدب الاستئذان "إلا أن يؤذن لكم"
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى الاستئذان, وكيفيته, وصوره.
المطلب الثاني: تأصيل سنة الاستئذان.
المطلب الأول
معنى الاستئذان , وكيفيته , وصوره
أولاً: الاستئذان لغة:
طلب الإذن, وهو مصدر استأذن.
وتدل المادة التي أخذ منها, وهي (الهمزة والذال والنون) على أمرين:
الأول: إذن كل ذي أذن, والآخر: العلم والإعلام.
وأما عن العلم والإعلام, تقول العرب: قد أذنت بهذا الأمر, أي علمت, وفعله بإذني: أي بعلمي, وآذنني: أعلمني, واستأذنت فلاناً استئذاناً طلبت إذنه, وأذنت أكثرت الإعلام بالشيء.
وأذن له في الشيء إذناً, أباحه له, وأذن له عليه: أخذ له منه الإذن([8]).
ثانياً: الاستئذان اصطلاحاً:
قال الجرجاني: الإذن: فك الحجر, وإطلاق التصرف لمن كان ممنوعاً شرعاً([9]), وقال ابن حجر: الاستئذان: طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن([10]).
وقال الراغب الأصفهاني: الاستئذان طلب الإذن([11]).
الناظر إلى تعريفات العلماء, يرى أنه تعريف الجرجاني منصب على الممنوع شرعاً, وأطلق له العنان في التصرف فيه بعد أن كان مقيداً.
بينما حصره ابن حجر في المكان, في الدخول إلى محل لا يملكه المستأذن.
أما الأصفهاني, فقد جعله في طلب الإذن مطلقاً.
ومن خلال ما سبق ذكره لمعنى الاستئذان عند العلماء, يمكن تعريفه بالتالي: هو طلب الإذن في التصرف لما كان ممنوعاً شرعاً نحو الإذن لدخول محل لا يملكه المستأذن.
ولعل هذا التعريف جامع لما ذكره أهل العلم من تعريفات.
ثالثاً: كيفية الاستئذان:
أن يطلب المستأذن من الآذن مشافهة أو كتابة أمراً لا يحل له أن يستعمله إلا بإذنه.
رابعاً: صور الاستئذان:
أن يستأذن المستأذن من الآذن أن يدخل منزله, أو يبيت في داره, أو يجلس في مقعده, أو يستعير منه كتاباً, أو قلماً, أو يستخدم شيئاً من أغراضه الشخصية الخاصة به نحو الجوال, أو الكمبيوتر, أو الكتاب, أو التلفاز أو غيرها, وذلك كثير في زمننا الحالي.
وقد بين لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم إحدى تلك الصور, وهي الإذن في الدخول إلى المنزل, عن رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته, فقال: ألج, فقال صلى الله عليه وسلم لخادمه: "اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان", فقال له: قل: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعه الرجل, فقال: السلام عليكم أأدخل, فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل([12]).
فصورة الاستئذان – كما بينها المصطفى صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه عندما علمه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم – تتلخص في الآتي:
إلقاء السلام.
الاستئذان في الدخول.
حكم الاستئذان:
الاستئذان واجب, ولصاحب البيت حق في عدم دخول أحد إلا بإذنه, وعلى ذلك فلا يجوز لأحد دخول بيت إلا بإذن من ساكنه([13])؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27))([14]).
المطلب الثاني
تأصيل سنة الاستئذان
ورد وجوب الاستئذان في المصدرين الأساسين الكتاب والسنة:
أولاً: من القرآن الكريم:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ)([15]).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27))([16]).
ثانياً: من السنة النبوية:
عن عبيد الله بن عمير: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يؤذن له, وكأن كان مشغولاً, فرجع أبو موسى, ففرغ عمر, فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس, ائذنوا له, قيل: قد رجع, فدعاه, فقال: كنا نؤمر بذلك, فقال: تأتيني على ذلك بالبينة, فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم, فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري, فذهب بأبي سعيد الخدري, فقال عمر: أخفى هذا علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ألهاني الصفق بالأسواق, يعني الخروج إلى التجارة([17]).
سبب نزول الآية الكريمة:
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي, حدثنا معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو مجلز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش, دعا القوم فطعموا, ثم جلسوا يتحدثون, وإذا هو يتأهب للقيام, فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام, فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس, ثم إنهم قاموا, فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل, فذهب أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه, فأنزل الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) الآية([18]).
قال الترمذي: حدثنا قتيبة, حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن الجعد بن عثمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله, قال: فصنعت أمي أم سليم حيساً فجعلته في تور, فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقل: بعثت إليك بها أمي, وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله, قال: فذهبت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت: إن أمي تقرئك السلام وتقول: إن هذا منا لك قليل, فقال: "ضعه" ثم قال: "اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً ومن لقيت فسمى رجالاً, قال: فدعوت من سمى ومن لقيت, قال: قلت لأنس: عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة, قال: وقال لي رسول الله: "يا أنس هات التور", قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليتحلق عشرة عشرة, وليأكل كل إنسان مما يليه", قال: فأكلوا حتى شبعوا, قال: فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم, قال: فقال لي: "يا أنس ارفع", قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت, قال: وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وزوجته مولية وجهها إلى الحائط فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على نسائه ثم رجع, فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه, قال: فابتدروا الباب فخرجوا كلهم, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحجرة, فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج علي وأنزلت هذه الآيات, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهن على الناس (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ) إلى آخر الآية. قال الجعد: قال أنس: أنا أحدث الناس عهداً بهذه الآيات, وحجبن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم([19]).
أقوال المفسرين في الآية الكريمة:
بين أهل العلم من المفسرين سواء المتقدمون منهم, أو المتأخرون لطائف ومعان جميلة في هذا الأدب عند اللقاء الاجتماعي, وممكن جمعها في الآتي:
الدعوة المسبقة إلى طعام:
يقول الإمام الطبري – رحمه الله –: يقول تعالى ذكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله, لا تدخلوا بيوت نبي الله إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه([20]).
لما كان الصحابة حديثي عهد بإسلام, وكانت العادات الجاهلية منطبعة في سلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم, أراد الحق تبارك وتعالى أن يلفت انتباه أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أمر في غاية الأهمية, وهو أن البيوت لها حرمة, ولا يدخل إليها المرء قبل الإذن له بذلك, وإذا كان صاحب البيت لديه وليمة, لا يحل للمرء أن يدخل ما لم يدع لها, فيتوجب عليه الاستئذان, وفي ذلك تربية اجتماعية لم يعهدها العرب في جاهليتهم, في احترام رغبة صاحب الوليمة لمن يحضر إليه, ولا يدخل إليها المرء قبل الإذن له بذلك, وإذا أمر المؤمنين بوجوب الاستئذان قبل دخول البيوت؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27))([21]), فمن باب أولى أخذ الإذن قبل دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم.
والآية تتضمن آداباً لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت, حتى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن أصحابها([22]).
عدم التحين لوقت الطعام للدخول:
يقول الزمخشري: وقع الاستثناء, على الوقت والحال معاً؛ كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإذن, ولا تدخلوها إلا غير ناظرين, وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه([23]).
فالأدب الرباني الذي يريد الحق تبارك وتعالى أن يربي عليه صحابة رسول الله, ومن بعدهم من المسلمين: هو عدم تحين وقت الطعام للاستئذان لدخول بيت النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من بيوت المسلمين, وفي ذلك تربية اجتماعية راقية:
إن الوجبة قد تكون غير كافية إلا لأهل البيت, ففي دخوله نقص من حقهم.
إن إعداد الوجبة لائق لأهل البيت, وليس معداً إعداداً لائقاً للضيوف.
إن وقت الوجبة, وقت التقاء الأسرة, وهو بذلك ضيع هذا اللقاء العائلي.
وقد يكثر في زمننا الحالي بأن ينشغل أو يرتبط شخص بآخر ويجعل وقته وقت تناول الطعام لدى أسرته حتى يدعى إلى الطعام, أو يأتي العمال (الذين يعملون في المنزل) ظهراً للعمل, حتى يضمنوا وجبة الطعام لدى أهل البيت.
فالأدب الجميل: عدم تحين وقت تناول الطعام للدخول على أصحاب البيوت, فهو وإن كان خاصاً لبيوت النبي صلى الله عليه وسلم, فعامة المؤمنين في أشد الحاجة إلى التعامل معهم بتلك الآداب الراقية, وذلك لا ينافي حب العرب لكرم الضيافة.
أدب الثقلاء:
يقول القرطبي: "تضمنت الآية الأدب في أمر الطعام والجلوس, قال حماد ابن زيد: نزلت في الثقلاء, وقال إسماعيل بن أبي حكيم: وهذا أدب أدًّب الله به الثقلاء, وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم"([24]).
يشير القرطبي إلى أحد أصناف المجتمع التي تدعى بالثقلاء لديها طباع غير حسنة, وإن كثيراً من الناس لا تقبل تلك السلوكيات الصادرة عنهم؛ فلذا كان للتشريع السماوي دور في تهذيب وتأديب تلك السلوكيات للارتقاء بأخلاقياتهم والاعتلاء بتصرفاتهم.
وهذا الصنف الذي أطلق عليه الثقلاء, موجود في جميع المجتمعات, ويشترك في سمات خاصة بهم, منها: الدخول إلى البيوت دون إذن, الذهاب إلى الوليمة دون دعوة, طول الجلوس في المجلس, التطفل على خصوصيات الأسرة... الخ.
شروط الكلام:
يقول الشيخ ابن عاشور: الاستثناء في (إلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ)([25]) استثناء من عموم الأحوال التي يقتضيها الدخول المنهي عنه, أي إلا حال أن يؤذن لكم, وضمن "يؤذن" معنى تدعون فعدي بـ (إلى) فكأنه قيل: إلا أن تدعوا إلى طعام فيؤذن لكم؛ لأن الطفيلي قد يؤذن له إذا استأذن وهو غير مدعو, فهي حالة غير مقصودة من الكلام، فالكلام متضمن شرطين هما: الدعوة، والإذن, فإن الدعوة قد تتقدم على الإذن, وقد يقترنان, كما في حديث أنس بن مالك([26]), وفي ذلك تربية اجتماعية للمؤمنين, وهي أن مجرد الدعوة غير كافية لدخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم, فلابد أن يستأذن قبل الدخول, وهنا يشير إلى أهمية الاستئذان, حتى لو حمل صاحبها معه الدعوة, سواء أكانت مكتوبة أو شفهية.
أشار المفسرون إلى عدة آداب يستحسن مراعاتها عند الاستئذان, وهي كالتالي:
أولاً: لابد من توجيه الدعوة من قبل صاحب الشأن, كما ذكر الإمام الطبري: لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن تدعوا إلى طعام.
ثانياً: تضمين الكلام شرطين هما: الدعوة والإذن, فقد يؤذن للطفيلي, وهو غير مدعو, كما بين الشيخ طاهر بن عاشور.
ثالثاً: عدم تحين وقت تناول الطعام لدى الأسر؛ لطلب الإذن للدخول؛ لأنه وقت راحة الأسرة وحرصها على الجلسة العائلية.
رابعاً: الحرص على تجنب طباع الثقلاء؛ لأنها فئة غير مرغوب فيها بين الناس.
خامساً: إن هذا الأدب (الاستئذان) كان غالباً في قاموس الجاهلية, والله سبحانه وتعالى يريد أن يربي عليه صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
العلة في الإذن قبل الدخول:
ولعل الحكمة في الإذن قبل دخول البيت دقيقة, فهي تدور حول الجانب الاجتماعي والنفسي إذا أمكن تقسيمه:
فمن الناحية النفسية المتعلقة بأهل البيت:
أولاً: حتى لا يطلع على عورات أهل البيت بأنواعها المتعددة, فيحفظ بصره وأنفه عن ما هو مكروه لدى أهل البيت.
ثانياً: تربية للمرء على احترام مشاعر الآخرين.
ثالثاً: حتى يتهيأ أهل البيت نفسياً لاستقبال الضيف.
رابعاً: وقد تكون فترة راحة أهل البيت, فيحرمهم منها.
أما من الناحية الاجتماعية:
أولاً: حتى لا يصرف ويؤخر أهل البيت عن مشاغلهم, إن كان لدى أحدهم ارتباط مسبق.
ثانياً: لكي يستطيع أهل البيت أن يقوموا بواجب الضيافة للضيف.
ثالثاً: لكي لا يسمع ما يدور بين أفراد البيت من حوار في شؤونهم الخاصة.
رابعاً: لمنع تكاثر فئة المتطفلين في المجتمعات.
يتبع