للتهكُّم معان متعدِّدة، منها: التهدم والاستهزاء والطعن المتدارك والتبختر، قال الفيروزابادي رحمه الله تعالى: "التَّهَكُّمُ: التَّهَدُّمُ في البِئْرِ ونحوِها، والاسْتِهْزاءُ؛ كالأُهْكومَةِ، والطَّعْنُ المُتَداركُ، والتَّبَخْتُرُ، والغَضَبُ الشَّديد ُ، والتَّنَدُّمُ على الأَمْرِ الفائِتِ، والمَطَر الكثيرُ الذي لا يُطاقُ، والتَّغَنِّي[1]. وذلك لأنَّ الهاء والكاف والميم تدل على التقحم والتهدم.
قال ابن فارس رحمه الله تعالى: "الْهَاءُ وَالْكَافُ وَالْمِيمُ تَدُلُّ عَلَى تَقَحُّمٍ وَتَهَدُّمُ، وَهَكَمَ هَكْمًا: تَقَحَّمَ عَلَى النَّاسِ وَتَعَرَّضَهُمْ بِشَرٍّ، وَالتَّهَكُّمُ: التَّهَزُّؤُ، وَتَهَكَّمَتِ الْبِئْرُ: تَهَدَّمَتْ[2].
والذي نعنيه هنا من بين معانيه هو الاستهزاء؛ لأن معنى الكلمة ملحوظ فيه وهو التهدم؛ لأن بالتهكم والاستهزاء يتهدم الإنسان.
لماذا يتهكم بالكفار يوم القيامة؟
التهكُّم عذاب آخر يتعقب به الكفار؛ وذلك لأنهم كانوا في الدنيا يتغامزون إذا مرَّ بهم المؤمنون ويستهزئون منهم؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴾[3].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴾ "يقول تعالى ذكره: إن الذين اكتسبوا المآثم، فكفروا بالله في الدنيا، كانوا فيها من الذين أقرُّوا بوحدانية الله، وصدَّقوا به يضحكون، استهزاء منهم بهم"[4].
وقال قتادة رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴾ في الدنيا، يقولون: "والله إن هؤلاء لكذَبة وما هم على شيء استهزاء بهم"[5].
وكلما مروا بهم يتغامزون - بعض يغمز بعضًا - استهزاءً بالمؤمنين وسخريةً منهم؛ قال الله تعالى:﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾[6].
قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَتَغَامَزُونَ ﴾ "وَالْغَمْزُ الْإِشَارَةُ بِالْجَفْنِ والحاجب، أي: يشيرون إِلَيْهِمْ بِالْأَعْيُنِ اسْتِهْزَاءً"[7].
ويرجعون إلى أهلهم مسرورين ومعجبين بما يفعلون؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴾[8].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴾ "وكان هؤلاء المجرمون إذا انصرفوا إلى أهلهم من مجالسهم انصرفوا ناعمين معجَبين[9].
زيادةً على ذلك عندما يراهم يزعمون أن هولاء - أي المسلمين - لضالون عن طريق الحق والصواب، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ﴾[10].
والله تعالى يردُّ عليهم ويدافع عن المسلمين، قائلًا: ﴿ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴾[11].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴾: "وما بعث هؤلاء الكفار القائلون للمؤمنين: ﴿ إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ﴾ حافظين عليهم أعمالهم، يقول: إنما كُلِّفوا الإيمان بالله، والعمل بطاعته، ولم يُجعلوا رُقباء على غيرهم يحفظون عليهم أعمالهم ويتفقَّدونها[12].
وهم كانوا في الدنيا يَسخرون ويستهزئون بالمؤمنين ويضحكون منهم كلَّما مروا عليهم ورأوهم هكذا كان شأنهم تجاه المؤمنين في الدنيا، ولكن الله عز وجل لا يتوقف عن جزاء شنيعهم هذا ويزيد عذابهم ضعفين ويرد على هذا العمل الشنيع من قبل المؤمنين؛ حيث هم في الجنة ناعمين ومتكئين على أرائكهم وهولاء المستهزئون في النار داخرين يضحكون منهم كما كانوا يضحكون من المؤمنين في الدنيا، وبذلك يزيد الله عذاب الكفار من الجسم إلى النفس، وسيكون هذا الجزاء جزاءً وفاقًا؛ حيث قال الله تعالى مخبرًا عن مشهد ضحك المؤمنين من الكفار المعذبين في النار: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴾[13].
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴾ "يعني: السُّرر المرفوعة عليها الحِجال، وكان يقول: إن السور الذي بين الجنة والنار يُفتح لهم فيه أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار، والمؤمنون على السرر ينظرون كيف يُعذَّبون، فيضحكون منهم، فيكون ذلك مما أقرَّ الله به أعينهم، كيف ينتقم الله منهم[14].
وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾: "يُجاء بالكفار حتى ينظروا إلى أهل الجنة في الجنة، على سرر، فحين ينظرون إليهم تُغلق دونهم الأبواب، ويضحك أهل الجنة منهم"، فهو قوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴾[15].
وقال أبو صالح رحمه الله تعالى في تصوير هذا المشهد من تفسير قوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴾: "وَذَلِكَ أَنَّهُ يُفْتَحُ للكفار وهم فِي النَّارِ أَبْوَابُهَا، وَيُقَالُ لَهُمُ: اخْرُجُوا فَإِذَا رَأَوْهَا مَفْتُوحَةً أَقْبَلُوا إِلَيْهَا لِيَخْرُجُوا وَالْمُؤْمِنُون َ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِهَا غُلِّقَتْ دونهم، يفعل بهم ذلك مِرَارًا وَالْمُؤْمِنُون َ يَضْحَكُونَ"[16].
وبعد ذلك يقال للتقرير: هل ثُوِّب الذين كانوا ما يفعلون بالمؤمنين من الاستهزاء والاستخفاف بشأنهم؟ قال الله تعالى: ﴿ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ ﴾[17].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ ﴾: "هل أثيب الكفار وجُزُوا ثواب ما كانوا في الدنيا يفعلون بالمؤمنين من سخريتهم منهم، وضحكهم بهم بضحك المؤمنين منهم في الآخرة، والمؤمنون على الأرائك ينظرون، وهم في النار يعذَّبون؟"[18].
وهذا هو المشهد المفرِح للذين آمنوا بربهم وعملوا الصالحات، ومشهد مخزٍ للذين كفروا وأشركوا بربهم وضلوا وأضلوا وما كانوا يهتدون لطريق الحق والصراط المستقيم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
[1] القاموس المحيط للفيروزابادي، مادة: (هـ ك م)، (ص 1171).
[2] "معجم مقاييس اللغة"؛ لابن فارس، مادة: (ه ك م)، (6/ 59).
[3] سورة المطففين: (29).
[4] "جامع البيان في تأويل القرآن"؛ لمحمد بن جرير الطبري، (24/ 302).
[5] المصدر نفسه.
[6] سورة المطففين: (30).
[7] "معالم التنزيل في تفسير القرآن"؛ للبغوي، (5/ 227).
[8] سورة المطففين: (31).
[9] "جامع البيان في تأويل القرآن"؛ لمحمد بن جرير الطبري، (24/ 303).
[10] سورة المطففين: (32).
[11] سورة المطففين: (33).
[12] "جامع البيان في تأويل القرآن"؛ لمحمد بن جرير الطبري، (24/ 303).
[13] سورة المطففين: (34، 35).
[14] أخرجه الطبري في تفسيره "جامع البيان في تأويل القرآن"، (24/ 304).
[15] المصدر نفسه.
[16] "معالم التنزيل في تفسير القرآن"؛ للبغوي، (5/ 227).
[17] سورة المطففين: (36).
[18] "جامع البيان في تأويل القرآن"؛ لمحمد بن جرير الطبري، (24/ 304).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/130248/#ixzz5V1JbH7nZ