الجامع الأموي .. درة دمشق





تبارى الواصفون والشعراء في ذكر محاسن المسجد الأموي بدمشق، فهو من أشهر جوامع حُسناً وإتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه. يقول ابن بدران- في منادمة الأطلال- عنه: هو أعظم جوامع دمشق وللناس فيه قصائد وأقوال يضيق عنها الحصر. ويقول عنه ياقوت- في معجم البلدان- في مبالغة ظاهرة: لو أن الإنسان عاش ألف سنة، وجعل يتردد كل يوم من أيامه إلى الجامع الأموي، لكان يرى في اليوم ما لا يراه في أمسه.
ويقول الشاعر الإسلامي محمود غنيم في الجامع الأموي:
وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها
عمن بناه لعل الصخر ينعهاه
ولقد توالت الدراسات والأبحاث عن الجامع الأموي في تأريخه ووصف بنائه وجماله وزخارفه وفنونه، منذ العصور الأولى بعد بنائه إلى أن جمع ذلك الحافظ ابن عساكر في تاريخه، وعنه تناقل الكثيرون تلك الأخبار وأضافوا غليها مشاهداتهم والتغييرات التي حدثت فيه من وصف للحلقات العلمية والتاريخية، كما تحدثوا عن مشاهير العلماء الذين درّسوا فيه أو خطبوا أو أمّوا أو علموا، وتحدثوا أيضاً عن أهم الأحداث التي أصابت الجامع من حرائق أو زلازل، ثم التجديدات الكثيرة التي نشأت فيه، وتتضمن كذلك وصفاً مفصلاً لبنائه، وتعود أهمية هذه النصوص إلى أنها من وصف علماء معاصرين لتلك المرحلة.
وهذه النصوص تكشف الحقائق التاريخية لبناء الجامع الأموي بعد حريقه، وتظهر المهارة الفنية والهندسية لمهندسي وفناني وعمال دمشق في تلك الفترة، كما تبين مدى التعاون الشامل في تنفيذ هذا العمل الكبير وكيف تمكن القائمون عليه من إعادته إلى ما كان عليه قبل الحريق، وربما فاق في حسنه وإتقانه وزخرفته وإبداعه عن ذي قبل.
فدمشق الشام تلك المدينة العظيمة في التاريخ والحاضر، والتي جمعت ما لم تجمع مثله مدينة في الدنيا ... ميراث ضخم من الماضي جعلها أقدم المدن المسكونة في الأرض بلا خلاف، فقد تجمّع فيها ما تفرّق في مدن الأرض من الجمال، فالجنان غوطتها والأنهار في ربوتها والبساتين التي يضل فيها النظر سكران من الفتون، والجبال من حولها إلى تلكم الأماكن الجميلة الهادئة النشطة التي يتخلل خرير مياه أنهارها المتدفقة من سهل الزبداني ووادي بردي، وكانت هذه الأنهار تغذي أحياء وجوامع ومشافي ومدارس وحمامات دمشق.
جامع بني أمية( الجامع الأموي)


ويقال له الجامع المعمور وجامع دمشق، هو أهم معالم مدينة دمشق وأشهرها دينياً وفنياً وأثرياً، وهو أول ابتكار معماري في الإسلام، بل أحد أهم الآثار الإسلامية التاريخية في العالم ... ناهيك عن أنه يقع في قلب أقدم مدينة في التاريخ.
وتعد زيارة الجامع الأموي بدمشق غاية ما يصبو إليه زائر هذه المدينة، وقبله ما تهفو إليه نفسه، وتجيش به مشاعره، فصيت هذا الجامع ملأ الدنيا منذ أن شيده الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك في أوج عصر دمشق الذهبي، يوم كانت الدولة الأموية لا تغيب عنها الشمس، ولهذا لا تكتمل زيارة مدينة دمشق دون زيارة للجامع الأموي.
قال عنه أحد المؤرخين الأوروبيين المعاصرين: «إنه لم يكن فقط أعظم آبدة قامت في أرض الإسلام حتى ذلك الوقت، بل إنه أحد ابتكارات فن البناء العالمي في كل الأزمان وفي كل البلاد».
فكان بناؤه تحفة فنية فريدة تمثل أبدع ما انتهت إليه عبقرية الفن العربي الإسلامي.
ولقد رأى الخلفاء الأمويون بناء مسجد يليق بعظمة حاضرتهم دمشق، فشيد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بناء الجامع سنة 705م، وجاء الجامع الأموي يليق فعلاً بعظمة دمشق عاصمة الدولة الأموية الكبرى، وكان نموذجاً بديعاً لفن بناء المساجد الإسلامية تتجلى فيه روعة الفن، وتزينه بقايا فسيفساء، وثلاث مآذن، وثلاثة أبواب أعظمها باب جيرون، وأمام الباب الغربي «باب البريد» بقايا هيكل جوبيتير، وهي أعمدة محتفظة بتيجانها حتى الآن، وكانت قد حولت إلى بازيليكا في العهد البيزنطي.
والواقع أن بناء الجامع الأموي الكبير بدمشق يُعد تحفةً فنية نادرة في فن العمارة الشرقية الإسلامية وزخارفها، وفي الجامع الأموي قبر النبي «يحيى» وفي المحراب الكبير، ويعد كلاهما آية في فن الزخرفة الشرقية وهو معلم ديني وأثر من أهم الآثار الموجودة في مدينة دمشق الشام.
أبواب الجامع الأموي الداخلية:


باب البرادة: أو باب السنجق أو الصنجق، باب البرادة هي التسمية القديمة للبوابة الرئيسية المنفذة من صحن الجامع إلى حرمه، أما السنجق أو الصنجق فهي الأحدث، وتنسب إلى الراية التي تحمل مع المحمل عند أداء فريضة الحج.
باب مقصورة الخطابة: الباب المؤدي إلى مقصورة الخطابة داخل الحرم.
باب الخطابة: انظر باب مقصورة الخطابة.
باب السر «باب الخضراء»: ذكره ابن قاضي شهبة ولم يحدد موقعه، ويعتقد بأنه الباب المفضي إلى قصر الخضراء والذي يدخل منه الخلفاء الأمويون من وإلى الجامع دون أن يراهم أحد.
باب الخضراء: انظر باب السر.
واكتشف في الجدار الجنوبي للجامع الأموي باب من العهد البيزنطي كان مختفياً خلف النسق الشمالي لسوق القباقبية، وتعلوه كتابات كنسيّة يونانية تعود إلى أيام كنيسة يوحنا المعمدان، وقد أزيل هذا النسق في بداية الثمانينيات من القرن الماضي لحماية الجامع من الحريق، ولكشف جداره الأثري كما مر معنا في بحث أبواب الجامع الخارجية.
صحن الجامع:

لقد ظهر الجامع الأموي بانطلاقة جديدة في الفن والعمارة الإسلامية، ولقد كان الجامع في هندسته مرآة للعصر الأموي بكل ما فيه من عناصر القوة والازدهار والتقدم، فقد وضع الفن الإسلامي والعمارة الإسلامية مبادئها الأولى فيه، يقول عنه العالم الفرنسي «سوفاجيه»: وروعة زخارفه، قرابة ثلاثة قرون ونصف، كان خلالها مثار إعجاب ودهشة كل من زاره وشاهد معالمه. وتذكر كتب التاريخ أن الخليفة العباسي المأمون زاره برفقة المعتصم، ويحي بن أكثم، فقال لهما:
ما أعجب ما في هذا المسجد ؟
قال المعتصم: ذهبه وبقاؤه، فإنا نجعله في قصورنا فلا تمضي عليه عشرون سنة حتى يتغير.
قال المأمون: ما ذاك الذي أعجبني منه.
قال يحيى: تأليف رخامه، فإني رأيت شيئاً ما رأيت مثله.
قال المأمون: ما ذاك الذي أعجبني منه ؟
قالا: وما الذي أعجبك ؟
قال: بنيانه على غير مثال متقدم.
وفي عام (432 هـــ) زاره أحد المؤرخين فقال عنه: إنه بكر الدهر ونادرة الوقت، وإن أمية أبقت به ذكراً لا ينقطع.
القباب:

وفي الصحن ثلاث قباب، أولاها: القبة الغربية (قبة المال)، أنشأها الفضل بن صالح بن علي العباسي (ابن عم المنصور) لما كان أمير دمشق سنة 171 أيام المهدي، ويظهر أنها كانت مغلقة، والناس يتوهمون أن فيها مالاً، ولم أجد خبراً لفتحها إلا ما كان سنة 922 هــ، إذ فتحها «سيباي» فلم يجد فيها إلا أوراقاً، ومصاحف بالخط الكوفي، وقد فتحت في سنة 1306 فوجدت فيها مصاحف ومخطوطات نقلت إلى إسطنبول.
قبة الخزنة: وهي ما تعرف بقبة المال، أوبيت المال، وتقع في الجزء الغربي من الصحن، ويعود إنشاؤها إلى عام «171هـــ» في عهد الخليفة العباسي المهدي، وبانيها هو الأمير فضل بن صالح بن على وهى عبارة عن هيكل مثمن الشكل مغطى بالفسيفساء، يقوم على ثمانية أعمدة ذات تيجان من النمط الكرونثي، تقوم على تلك الأعمدة قبة رصاصية، ويبلغ ارتفاع القبة عن أرض الصحن 20 متراً وقطرها نحو 6 أمتار.
ثانيتهما: القبة الشرقية، بنيت كذلك أيام المهدي سنة 160 وتعرف بقبة زين العابدين، وكانت تسمى قبة يزيد، وتُسمى الآن قبة الساعات إذا كانت فيها ساعات المسجد.
والثالثة: القبة التي على بركة الماء، وقد كانت من الرخام، وأقيمت سنة 369.
الأروقة والفسيفساء:

ومن الروائع التي ينفرد بها المسجد الأموي الكبير هو الذهب والعقود، وبه الفسيفساء الزجاجي المغطى بالرقائق الذهبية والفضية الشفافة، والتي ما زالت أقسام منه في الدهليز الغربي ونهاية الدهليز الشرقي وواجهة المجاز المطلة على صحن المسجد وبعض تحف موزعة في داخل الحرم فوق الباب الشمالي.
وقد أكدت الدراسات الأثرية وعمليات المسح والتنقيب أن أكثر من أثني عشر ألف عامل قد اشتغلوا مدة سبعة عشر عاماً في الأموي، وبلغت ساحة لوحات الفسيفساء ثلاثين ألف متر مربع، كما بلغت زينة الفسيفساء ثلاثمائة طن، ويكاد يجمع الباحثون في تاريخ الأموي الكبير بدمشق وجمالاته أن أعمال الفسيفساء هي تحفة وأرفع ما فيه من إبداع في كل العصور وفي جميع أصقاع الدنيا.
ولقد أمكن من تعداد تسعة وثلاثين لوناً مختلفاً بين مكعبات الفسيفساء، بما فيها ثلاث عشرة درجة من ظلال ودرجات اللون الأخضر وحده، وأربع درجات من اللون الأزرق والذهبي، وثلاث درجات من اللون الفضي.
وكانت لوحات الفسيفساء تغطى مصلى الجامع ودهاليز صحنه وواجهاته المطلة على الصحن وأرضياته، وكان يعلوها ألواح الرخام التي لا تزيد عن قامتين، وينهض نطاق الفسيفساء حتى يبلغ أربعة عشر متراً.
المآذن:

بنى الوليد المنارة التي يقال لها «العروس» وجعل عدة من المصابيح توقد عليها في كل ليلة، ورتب لها ثلاث نوب، كل نوبة أربعون مؤذناً، وهي باقية إلى يومنا هذا، وأما «الغربية» و «الشرقية» فهما على ما كانتا عليه من غير أدوار ودرابزين، وهما من بناء اليونان كالصوامع لضرب النواقيس والرصد، وقال بعض المؤرخين إن الشرقية احترقت في سنة أربعين وسبعمائة فنقضت وجددت من أموال النصارى لكونهم أتهموا بحرقها، وأقر بعضهم بذلك، فقامت على أحسن الأشكال، وقال بعض العلماء في المنارة الشرقية البيضاء أنها التي ينزل عليها بن مريم عليه السلام في آخر الزمان بعد خروج الدجال كما ثبت في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان، والله أعلم.
ويقال إنه كان في الركنين الشماليين صومعتان كالمقابلة، فهدمهما الوليد، وجعل من بعض آلتهما قبتان على أعمدة في صحن الجامع، وجُعل فيهما خلوتان من فوق الأعمدة، وأودع بها كتب أوقاف هذا الجامع ومصاريفه، ويقفل عليهما بالأقفال الحديدية المانعة.
مركز العلم والتعليم:

والمسجد أيضاً مقر لأهل العلم يدرسون فيه ويدرسون، وفيه اعتكف الغزالي وكتب بعض كتبه وقام بالتدريس، ويقول ابن جبير: وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم، كل يوم إثر صلاة الصبح لقراءة سبع من القرآن دائماً، ومثله إثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرأون فيها سورة الكوثر إلى الخاتمة، ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لا يجيد حفظ القرآن، وللمجتمعين على ذلك إجراء كل يوم يعيش منه أزيد من خمسمائة إنسان.

وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم، فلا تخلو القراءة منه صباحاً ولا مساء، وفيه حلقات التدريس للطلبة، وللمدرسين فيها إجراء واسع، وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي، يجتمع فيها طلبة المغاربة، ولهم إجراء معلوم.
ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة، وأغرب ما يحدث به أن سارية من سواريه، هي بين المقصورتين القديمة والحديثة ، لها وقف معلوم يأخذه المستند إليها للمذاكرة والتدريس، أبصرنا بها فقيهاً من أهل أشبيلية يعرف بالمرادي، وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحاً يستند كل إنسان منهم إلى سارية ويجلس أمامه صبي يلقنه القرآن.
وقبة النسر في جامع بني أمية في دمشق الشام درّس تحتها جملة من العلماء الأفاضل، وجم من الأعيان الأماثل قبل صيرورة درسها وظيفة رسمية مرتباً من الدولة بأجرة عملية، وأبرزهم العلامة محمد الميداني ، والشيخ نجم الدين الغزى ، والشيخ البطنيني، والعلامة العجلوني، والعلامة الداغستاني، والمحدث الكزبري.
المصادر:

الجامع الأموي درة دمشق، إعداد وترتيب: حسن زكي الصواف.
قبة النسر: العلامة عبد الرازق البيطار، تحقيق: محمد بن ناصر العجمي.

منقول