المناظرات(*)


أول مناظرة جرت في العالم بين الملائكة- عليهم السلام- وإبليس- لعنه الله، لما طرده الله عن بابه..، فأمره مع جملة الملائكة بالسجود لآدم:{فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس... }
فجمع اللعين ثلاث قواعد، قاعدتين لأهل العصيان والمخالفات، وقاعدة لأهل الكفر والضلالات، قال تعالى:{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 34(، فالإباء والاستكبار هما قاعدتا أهل العصيان، تبع فيهما هواه بغير هداية، وكفر في الثالثة، حيث قام في مقام الاعتراض مجاهرًا، ولم يعقل الحقيقة في الأمر.
وخص َّالله سبحانه الملائكة بالعلم، فعلموا أن المجد الذاتي والجمال ليسا إلا صفتين لذي العزة والجلال، وأن ذلك في حق المخلوق محال، وتحققوا أن العلم الأزلي والخبر الرباني لا تتطرق إليهما الأضداد، فلا يتصف القديم بصفة الحوادث، ولا الحوادث بصفة القديم، فافترق الحكمان عندهم لعلمهم، فخرَّوا له ساجدين كلهم، والتبس الأمر على اللعين لجهله، فبقي قائمًا وحده، منازعًا في صفة الربوبية، فعوقب بنقيض قصده، فطرد طرد الأبد، وسجل عليه بالشقوة الدائمة.
وتشعبت ضلالته إلى سبع في العقد، هي أصل أصناف الكفر والضلالات في سائر فرق الخلق في العالم إلى قيام الساعة، وإلى سبع في المعاملات، هي أصول المعاصي والمخالفات في الخلق أيضًا إلى قيام الساعة.
الانحرافات البشرية مردها أمور ثلاثة..أبى واستكبر وكان من الكافرين

فالسبع التي في العقد هي:

الأولى: اعتقاد صفة الكمال الذاتي للمخلوق، حيث افتخر بأصله الذي خلق منه وهو النار على أصل آدم الذي خلق منه وهو الطين، ولم يعلم أن الفضل للمخلوق إنما يحصل بفضل الخالق، بحكم الخالق، فوصف المخلوق بصفة الخالق فأشرك.
الثانية: اعتراض العلم الأزلي والحكمة الإلهية، فوصف الخالق بصفة المخلوق فشبه.
الثالث: تعرضه للقسمة الربانية.
الرابعة: تغليب حكم العقل بالتحسين والتقبيح على حكم الشرع.
الخامسة: طلب العلة في حكم العزيز وهو تحيير.
السادسة: تعطيل فضل الله عن أن يتناول آدم بالتفضيل، وهو تنقيص.
السابعة: قصْر حكمة الله تعالى على فهمه، ومن حكم الله تعالى ما لم تصل الأفكار إليه، والإيمان والإسلام يناقضان جميع ما تقدم؛ لأنهما تصديق وانقياد واستسلام.

وأما السبع التي في المعاملات:
فالأولى: الحسد لآدم.

الثانية: البخل عليه بالسجود.
الثالثة: عدم الرضا بالقضاء.

الرابعة: البغي على آدم.
الخامسة: الكذب والقسم عليه حانثا، فالكذب{هل أدلك على شجرة الخلد} (طه: 120).

السادسة: الخديعة.

السابعة: اتباع الهوى لغير هداية.
هذا والمجوس قد طلبوا العلة في أفعال العزيز، وهي الآلام والعاهات الصادرة في العالم، وقالوا لا نتقاد إلا لما نفهم علته، فلما حجبوا عن فهم الحقيقة في صدورها أشركوا بسبب ذلك فاتخذوا إلهين.
وألحد بسبب النكتة أيضًا البراهمة والتناسخية والدهرية والطبائعيون، وتبعهم في ذلك القدرية، وتفرقت بهم الطرق في أحكام الآلام والتعديل والتجويز والتحسين والتقبيح والأغراض، والصلاح والأصلح.
ووصف المجوس القديم- سبحانه وتعالى- بصفة الحوادث فيما ذهبوا به في السبب في خلق إبليس لعنه الله، وما وجب للرب تعالى من وصف الكمال والقدم يقضي باستحالة ما قالوه.
فهؤلاء اليهود قد شبهوا، فوصفوا القديم تعالى بصفة الحوادث، وكذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حسداً وتعطيلًا لفضل الله تعالى أن يتناول ذرية إسماعيل بالنبوة ، وقصرها على بني إسرائيل كما قصرها إبليس عن أن تتناول آدم عليه السلام.
أما النصارى فقد وصفوا المخلوق بصفة الخالق، والخالق بصفة المخلوق، فنظروا إلى ما ظهر على يدي عيسى عليه السلام فاعتقدوه له، ولم ينظروا إلى المظهر لذلك عليه، كما أن اللعين كذلك نظر إلى نفسه وإلى آدم عليه السلام، ولم ينظر إلى الآمر والحاكم بالفضل لمن شاء على ما شاء {والله يحكم لا معقب لحكمه..} (الرعد: 41 ).
أما المشركون من قريش فقد وصفوا الحوادث بصفة الربوبية فأشركوا، وحسدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وحجروا فضل الله سبحانه وتعالى، فقالوا:{وَقَالُو ا لَوْلَا نُزِّلَ َهذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} (الزخرف: 31)، واتهموا الحكم الأزلي بذلك تبعًا لإبليس لعنه الله تعالى.
والفلاسفة حكموا «العقل»، وأبطلوا الشرائع وأشركوا، حيث أثبتوا معه تعالى عقلًا وسموه فعالًا من غير برهان، ولا فعال إلا الله. وكذبوا الرسل عليهم الصلاة والسلام فأعملوا الرأي الفاسد في مقابلة النص والبرهان القاطع، ووصفوا الخالق بصفة المخلوق حيث قالوا: لا يعلم الجزئيات، تعالى عن قولهم، فاتهموا العلم الأزلي كما فعل إبليس لعنه الله، ووصفوا المخلوق بصفة الخالق، فاعتقدوا قدم الحوادث، وأن بعضها يؤثر في بعض، ورأوا لبعض جواهر العالم فضلًا ذاتيًّا كما اعتقد اللعين ذلك.
هذا، وكل من جادلوا المرسلين قالوا {أبشر يهدوننا} (التغابن: 6)، ولا فرق بين هذا وبين قول اللعين { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } (الإسراء: 61)، وقال تعالى:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }(البقرة: 118(، وقال تعالى:{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} (الأعراف: 101).
هذه فرق أمتنا، افترقت أولا إلى أربع فرق، ثم وصلت إلى اثنتين وسبعين فرقة كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم .
فمنهم من وصف المخلوق بصفة الخالق في قولهم بالحلول، والخالق بصفة المخلوق حيث جوزوا في حقه تعالى ذلك.
ومنهم من قال في قصة التحكيم: لا حكم إلا لله ولا يحكم الرجال، ولا فرق بين هذا وبين قول اللعين: لا أسجد إلا لك!{لم أكن لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ} (الحجر: 33).
ومنهم من طلب العلة، وحكَّم العقل على الرب، وعطَّل الفضل، وأوجب المصلحة على من لا يجب عليه شيء.
وأخرى تدعي لنفسها الاختراع، فتصف المخلوق بصفة الخالق تعالى، وتعترض على الحكم، وتنفي القدر فرارًا من أن يكون له تعالى حكم في الأزل بسعادة من يشاء، وأن يكون فعالًا لما يريد.. وهذه كلها قواعد إبليس لعنه الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرًا.
ومنهم من أخّر العمل، وقالوا لا يضر تركه، كما أخّر اللعين السجود.
ومنهم من قال: لا نعقل معنى للأوامر والنواهي مع أنَّا لا نفعل، فعطلوا الشرائع، وأبدوا الاعتراض في مقابلة النص، ولم يلتزموا العبودية كما فعل اللعين في قوله: لا أعقل معنى لأمر السجود مع أني أفضل.

ومنهم من قال بنوع من الحلول، فتبعوا النصارى في ذلك، وزاد عليهم الكفر، والكل منهم تبع لإبليس لعنه الله.
وبالجملة.. إذا تأملت كل ملة ونحلة مخالفة لدين الله تعالى، وكذلك كل مخالفة ومعصية وجدتها مبنية على ما قدمه اللعين، قال الله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة: 168).



[*] عيون المناظرات لأبي علي السكوني
منقول