المنهج الإسلامي في معالجة الاختلالات التربوية




د. عبد الملك أحمادي




المراد بالخلل التربوي هو كل ما يتعلق بمظاهر الضعف في الالتزام بالإسلام عقيدة وأحكاماً وأخلاقاً، سواء على مستوى الفرد أو الأمة وليس ما ينتابهما من ضعف وقتي يمكن تداركه.
فالضعف في الجانب العقدي قد يكون ظاهرا في ضعف علاقة الأمة مع الله عز وجل وضعف توكلها عليه، قال سبحانه (وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ) (التغابن: 32)، وقال سبحانه أيضاً (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وأَنَّ الكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد: 12).
وقد يكون الضعف في جانب الأحكام الشرعية في عدم الالتزام بها كمنهج حياة، ذلك أن الله عز وجل أنزل شرعه ليحكم وليتبع قال سبحانه (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (الأعراف: 2)، فكل تقصير في عدم الالتزام بشرع الله، سواء في العبادات أو المعاملات يعتبر خللا تربوياً يجب علاجه.
وقد يكون الضعف في الجانب الأخلاقي بممارسات أخلاقية تغضب الخالق سبحانه وتعالى، وما مظاهر الانحلال والتفسخ في المجتمع إلا أثر من آثار الضعف الأخلاقي ينبغي على الأمة علاجه.
بهذه الأساليب الثلاثة يكون الإسلام سبق القوانين الوضعية في وضع التشريعات للحفاظ على الأمن العام
وقد قعد الإسلام ثلاثة أساليب علمية لمعالجة الاختلالات التربوية وهي:
1- الأسلوب الوقائي الاستباقي: ويهدف إلى تحصين الفرد والجماعة والأمة من الوقوع في الاختلالات بغرس أصول الإيمان في العقول والقلوب، ومعانيه ومشاعره في النفوس، وآدابه وأخلاقه في السلوك.

وهذا الأسلوب منهج القرآن الكريم والسنة النبوية في معظم تشريعاتهما، فالإسلام وقائي في مجال العقيدة، فاطمئنان القلوب ثمرة من ثمرات معرفة الله تعالى وذكره، والقلوب المتصلة بالله الذاكرة له لا تعرف القلق الذي تعيشه المجتمعات غير الإسلامية، والذي أورثها الأمراض العصبية المختلفة، ووضعها في طريق الجريمة والانتحار، وصدق الله تعالى حيث قال (الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ) (الرعد: 28).
وهو وقائي في مجال العبادة إذ أن الاستقامة والبعد عن الفحشاء والمنكر ثمرة من ثمرات الصلاة والصوم وغيرها، فالوقائية تبدو جلية في قول الله تعالى (إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ) (العنكبوت: 45)، وفي قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).
كما أن الإسلام وقائي في مجال التشريع الجنائي إذ أن الأحكام الجنائية من شأنها تنظيف المجتمع من الموبقات، والحفاظ على المجتمع سليما معافى، إذ لا شك "أن المجتمع الطاهر العفيف سيساعد كثيراً على منع الإجرام وقمع المجرمين، وسيقوي جانب الخير في النفوس ويسد منافذ الشر التي تطل منها النفوس الضعيفة، وفي هذا ضمان أيضاً لتقوية النفوس وإعطائها مناعة ضد الإجرام"(1).
وقد كان الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان يستحضر هذا الأسلوب- الأسلوب الوقائي- فقد قال رضي الله عنه "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله، إننا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال نعم، قلت وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال نعم وفيه دخن، قلت وما دخنه؟ قال قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت فهل بعد ذلك الخير من الشر؟ قال نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت صفهم لنا؟ قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" (البخاري).
2- الأسلوب العلاجي الإصلاحي: ويكون عند ظهور الخلل حيث تكون النفوس أكثر قابلية للتفاعل مع التوجيه التربوي المباشر بعد حدوث الخلل.

وقد يمثل لهذا الأسلوب من السيرة بما حدث في صلح الحديبية من عدم طاعة الصحابة رضوان الله عليهم للرسول صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بنحر الهدي والحلق، حيث أحصروا عن العمرة، فقد قال لهم صلى الله عليه وسلم "قوموا فانحروا" فما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غما..." (البخاري).
كما يمثل له بما حدث في غزوة بدر، معركة النصر والفرقان التي كان لها مالم يكن لغيرها من المعارك والانتصارات، ومنح أصحابها ما لم يمنحه أحد من المسلمين(2).
فقد ظن بعض الصحابة من الشباب أن النصر كان بمهارتهم وشجاعتهم، وبعض الصحابة من الشيوخ أنه كان بخطتهم وحكمتهم، فأنزل الله آياته تبين لهم أن النصر من عند الله(3)، (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ومَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: 17)، (ومَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ) (الأنفال: 10).
أليس هذا أرقى أسلوب (العلاجي الإصلاحي) وأقوى أنواع التقويم ووضع الضوابط وتقويم النفوس والعقول وتعميرها بالإيمان في حالات الظفر ونشوة الانتصار والحفاظ على قيم الإسلام الأصلية حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها.
لهذا فالنقد والمراجعة والتقويم تكليف شرعي لجميع المؤسسات والمجتمعات وقد استفادت الحضارة الغربية من هذا الأسلوب، حتى أصبح من أهم الخصائص التي تتمتع بها أنها تحاول أن تكشف أخطاءها بنفسها وتعالج نفسها بنفسها، وأن صيحات التحذير التي تبين الانحراف وتحذر منه لا تتوقف، وأن دراسة الظواهر الاجتماعية والتوجهات الاجتماعية في مراكز البحوث وإصدار الدراسات، التي تحاول معالجة الخطأ وتسديد المسيرة مستمرة ودائبة، بل هي اليوم جزء من جسم الأمة حتى إنها في كثير من الأحيان تتمتع بالاستقلالية الكاملة عن جسم مؤسسات المجتمع العاملة، حتى لا تتأثر بأخطائها وتمتلك القدرة على الرؤية من خارج النسق اليومي(4).
3- الأسلوب التأديبي في مواجهة الخلل: ببعض العقوبات الزجرية، وتتماشى هذه المعالجة مع موقع ومقاصد نظام العقوبات في مجمل النظام الإسلامي الذي لم يشرع إلا لمعالجة الحالة الشاذة في المجتمع أي عند الإصرار على تحدي النظام العام.

والعقوبات في الإسلام جاءت للحفاظ على الأنفس والأموال والاعراض قال سبحانه (ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179).
فقد لا تنفع المواعظ والخطب في معالجة بعض الظواهر الاجتماعية لذا شرع لها العقوبات الزجرية للردع والزجر، ولهذا قيل "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" وفي هذا استقرار للمجتمع وإشاعة للطمأنينة فيه، وأظهر نموذج في السيرة النبوية للتمثيل لهذا الأسلوب التأديبي ما حدث في غزة تبوك لأولئك الثلاثة المخلفين هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، فبعدما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين علانيتهم في أمر التخلف عن الجهاد ووكل سرائرهم إلى الله جاء النفر الثلاثة من المؤمنين، فاختاروا الصدق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة ألا يكلموهم، وجر ضدهم المقاطعة الشديدة، وتغير لهم الناس حتى تنكرت لهم الأرض وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم وبلغت بهم الشدة أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة ثم أنزل الله توبتهم في قوله تعالى (وعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 118-119). قال كعب "فوالله ما أنعم الله علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا"(5).
وبهذه الأساليب الثلاثة لمعالجة الاختلالات التربوية عند الفرد والمجتمع يكون الإسلام قد سبق القوانين الوضعية في وضع هذه الأساليب وتشريعها للحفاظ على الأمن العام.
والملاحظ أن الإسلام قد اهتم بالجانب الوقائي أكثر من اهتمامه بالجانب العلاجي، وهذا ما يجعل المنهج الإسلامي متفرداً على سائر المناهج الوضعية.
الهوامش

1- انظر أصول الدعوة لعبد الكريم زيدان، ص: 271، عن كتاب التربية الوقائية في الإسلام لفتحي يكن 14-51.
2- فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر عن حاطب بن أبي بلتعة: "ما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". السيرة النبوية لابن هشام 47/4، دار إحياء التراث العربي، ط2.

4- تقديم عمر عبيد حسنة لكتاب الأمة، قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي، ص 32.

5- سيرة ابن هشام، 190/4- 191، وانظر الرحيق المختوم، ص: 473.