ثقافة الرأي في علاقاتنا الاجتماعية



هناء الحمراني



إن الإنسان مخلوق اجتماعي يتفاعل مع محيطه.. بحواسه.. وفكره.. وهو عادة ما يكوّن رأيا حول ما يشاهده ويمسه.. فإما يسره..أو يؤلمه..أو يثير إعجابه أو استياءه.

وقد تتدخل تجاربه.. وخبراته في رأيه الذي يكونه.. فإذا سلمنا بأن لكل إنسان رأيه فأقترح أن ننتقل إلى النقطة الأهم - بعد تكوين الرأي – وهي: كيف نعبر عن آرائنا؟

إن كيفية التعبير عن الرأي ثقافة.. وهي تدل بشكل جلي على التنشئة الاجتماعية التي تلقيناها حول مفهوم حقوقنا وما لنا وما علينا.. وهي كذلك تنبئ عن المستوى الأخلاقي الذي نقف فيه.. وعن مروءتنا من عدمها.. وهي بكل تأكيد قابلة للتطوير والصقل وسبب قوي لنهضة الأفراد والأسر والمجتمعات على السواء.

إن الطفل الذي ينشأ على أن (التعبير عن الرأي) يعد فظاظة وسوء أدب وخارم من خوارم المروءة.. قد يعاني من صعوبة في إبداء رأيه حول ما يمسه من قضايا قد تكون مؤلمة ومزعجة له.. فإما أن يصمت ويتحمل الأذى.. أو أن يعبر عن رأيه.. وبما أنه لم ينشأ على ذلك فهو لا يعرف (كيف) يفعل ذلك.. فتظهر آراؤه ممزوجة بالعصبية.. وقد يحمل بغضبه الأمور والمواقف أكثر مما تحتمل.. لينتهي به الأمر ليصبح مخطئا بعد أن كان صاحب حق.

بعض الأسر تنشِّئ أطفالها على أن التعبير عن الرأي حق لا جدال فيه.. ولا خيار لهم سوى إبدائه بعنف وفظاظة.. وهذا مما لا شك فيه ينزل بأصحابه إلى دركات التعامل الاخلاقي مع الآخرين بما فيه من إيذاء وتعدي على حقوقهم.

وهناك أسر أخرى تدرب أبناءها على التعبير عن آرائهم من خلال سؤالهم عما يزعجهم.. وما يرونه رائعا.. وما يرونه مقلقا.. ويطلبون منهم عدم السكوت عن إبداء آرائهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك وبأدب.. فما دام أنه حق مشروع.. فلم الغضب؟

وما أحوجنا اليوم إلى تنشئة أنفسنا وأبنائنا على "تكوين الرأي السليم" و"التعبير عنه بطريقة ملائمة" و"معرفة صلاحياتنا وحدودنا عند ممارسة حقنا في التعبير"، لكن ما هي الطريقة المثلى للتعبير عن آرائنا؟، أو ما هي "ثقافة التعبير عن الرأي" لتقوية العلاقات الاجتماعية ودعم التغيير والرقي بالفكر؟

إن هذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر.. وهو: ما الذي يحدث كل يوم؟

في اجتماعنا مع بعضنا على مائدة الطعام..وفي اجتماعنا كزملاء في العمل.. وكاجتماعنا في زياراتنا للأقارب والأصدقاء والجيران.. بل وفي المقاهي.. وعلى أرصفة الشوارع.. كيف نعبر عن آرائنا؟

تدمير بلا أسلحة

يستخدم البعض طريقة "التلميح" في التعبير عن رأيه.. ولأن "التلميحات" في الكلام كثيرة.. فإنني سأوضح مقصودي.. وهو التلميح الذي يعبر عن رأي الشخص.. ويسيء إلى صاحب الموقف.. وهو تلميح يفهمه الجميع.. وفي الوقت ذاته يحتاج إلى سرعة بديهة حتى يتمكن الذي هوجم من رد الهجمة إلى صاحبها.. وقد يستخدمون في التلميح أسرارا قديمة أو مواقف سابقة للشخص المعني بهدف استغلالها ضده.. وهم مستعدون كأي صحيفة فضائحية للاستفادة من أي معلومة مسيئة ولو كانت مجرد إشاعة.

وهؤلاء الأشخاص يستخدمون التلميح للإساءة بالدرجة الأولى.. ولفت أنظار الآخرين.. وعادة ما يحظون بتأييد الحضور لما في ردهم من إشباع بعض الميول الانتقامية لديهم.. وليس من السهل أن يتحرر المستمع من "سحرهم" إلا إذا امتلك قوة لا أجد لها تسمية مناسبة غير"المروءة".

على كل حال.. فإن هذا الصنف لا صاحب له.. ولا عدو محدد.. فهو يسعى إلى الإساءة للإساءة وحسب.. وهو يرى أن التعبير عن رأيه حول الأشخاص حق لا يمكنه العيش بدونه.

هل جربت أن تتعامل مع شخص كهذا؟.. أليس كابوسا مريعا خاصة عندما تكون أنت "الهدف" الذي يقصده بشكل أساسي؟

هناك العديد من الكتب التي ألفت لمواجهة هؤلاء المسيئين.. وجميعها تركز على سرعة البديهة للرد عليهم وإلجامهم.. مثل: كتاب: "براعة التخلص من كل إحراج" للمؤلفة كريستيانا آيزلر.. وكتاب: "لا تقع فريسة لزلة لسانك" للمؤلف ماتياس بوم.. والحق أن مثل هذا الصنف لا تجدي معه قصائد الشافعي في الإعراض عن السفيه.. ولن تجدي معه المواجهة.. لأن المواجهة ستجعل من المجلس حلبة صراع الرابح فيها هو أوقحهم!

على كل حال فإن حديثي هنا ليس عن كيفية التعامل معه.. بل لأحذرك كي لا تكوني مثله.. ونتائج مثل هذه الكيفية في التعبير عن آرائنا تتمثل في إحساس المعني بالدونية وتعرضه للأذى.. وشغله بالتفكير في الرد الذي كان من المفترض أن يرد به.. وكيف يمكنه أن يرد عليه في مرة قادمة يسيء فيها إليه.

وهؤلاء لا يستغنون عن التلميحات الجسدية بالعين أو الفم.. وإخراج اللسان لإيصال رسائل "فورية" قادرة على تهشيم الطرف الآخر واستفزازه.. وفي الوقت ذاته حرمانه من فرصة الرد والدفاع عن نفسه، يقول تعالى:{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} (الهمزة: 1).

والمؤسف إذا استخدم من يشتغل بالدعوة إلى الله سلوك الهمز والتلميح لكي يرد به على من يجاهر بالمعصية مما يزيد من تمسكه بخطئه وإصراره على معصيته كوسيلة للرد والانتقام.

الدمار الشامل

كمرب له سلطة القوة على من هم أصغر سنا.. يستخدم الآباء والمعلمون الصراحة المفرطة.. والقسوة الشديدة في إبداء رأيهم ووجهات نظرهم حول ما يتعلق بالأبناء والطلبة.. وكذلك يفعل الأقارب مع من هم أضعف منهم أو من يلجمهم الأدب الاجتماعي من الرد عليهم كأم الزوج مع زوجة ابنها.. وأخت الزوج مع زوجة أخيها أو العكس.. وكالخالة مع بنات أختها وغير ذلك.

وكما أسلفنا.. فإن لكل إنسان حقه في "تكوين الرأي"، لكن ليس لنا حق في "التعبير عن كل رأي" خاصة إذا كان ذلك "تهميشا" للآخرين ولأفكارهم حتى ولو كانوا أبناءنا.

ويتجلى انتقاص الآخرين في استخدام هذه الطريقة "المفتوحة" في إبداء آرائنا.. كانتقاد كل ثوب لا يروق لأمزجتنا.. والامتعاض من خط الطالب الرديء.. وهو كالطريقة السابقة يثير الرغبة في الانتقام.. ويشغل التفكير بكيفية الرد عليه في مرات قادمة.. لكنه لا يساعد أبدا في السعي إلى تطوير الخط.. أو تحسين الذائقة.. بل وأيضا قد يجعل من يخضع إلى مثل هذه الانتقادات صورة طبق الأصل من المنتقدين مما يقتل الإبداع في نفس الشخص.. وكما نعلم فإن التنوع جزء من النهضة الحضارية.

ولعلنا نتعجب أو نستاء من تمرد بعض الطلبة على معلميهم.. أو نشوب معركة كلامية بين الزوجة وأهل زوجها.. وما ذلك إلا بسبب غياب الاحترام بين الأطراف.. أو أن يستأثر طرف دون الآخر بحرية الرأي وبحق الاحترام.

فحق التعبير يسمح له بإهانة من هو أضعف منه.. وحق الاحترام يحميه من أن يدافع الآخرون عن حقوقهم.. لكن هذا القانون لا يمشي على الجميع.. ولا بد أن يظهر من يكسره "وإن" تحمل بعد ذلك العديد من العقوبات بسبب "سوء أدبه"، وأذكر هنا قاعدة جميلة هي: "أعط أفضل ما لديك كي ترى أفضل ما لدى الآخرين.. ولا تستفز طبائعهم العدوانية فتوقظها".

نشرة سرية

بعض الأشخاص يفضلون إبداء آرائهم بعيدا عن المعني بالرأي.. وهم في ذلك لا يسعون إلى تعديل سلوكه أو إلى تغيير فكرة يعتنقها.. بل هي انتقامية أو تهدف للنيل منه في الخفاء بحيث يتمكن من تشويه صورته سواء كان المغتاب يعي ذلك أم لا.

وعادة لا يعدم المغتاب "فاعل شر" يمشي بين الناس بالنميمة.. وإشعال الفتنة.

ما العمل إذن؟

هل نكمم أفواهنا ونحن نطالب بحرية التعبير؟

كلا.. بل إننا نشدد على حرية التعبير دون أن نحرم الآخرين من حقهم في هذه الحرية.. فمن حق الشخص أن يتحدث عن مواقف يومية دون أن يأتي أحدهم ليلقي عليه رأيا قاسيا سريعا موجزا وفي الصميم ليحقق من ذلك مآرب دونية.

وأيضا.. من حق الآخرين أن يجدوا مساحات واسعة لتكوين شخصيتهم وأفكارهم وطموحاتهم وأحلامهم دون أن نخضعها لآرائنا وتقييماتنا الشخصية.. فما الذي نزيد به عليهم؟، أو ما الذي ينقصهم حتى نتعامل معهم بفوقية؟

علينا أن ندرك أن بعض الأبناء أذكى من آبائهم.. وأن بعض المدرسين قد يكونون بجهلهم وقلة خبرتهم أقل جدارة من بعض طلابهم.. وأن القوة والصلاحيات لا تسوغ لنا السيطرة والتنمر وفرض آرائنا على من هم تحت أيدينا.. وإن التحدث من وراء الأبواب.. وتسديد الطعنات في الظهور لن يساعد في تحقيق التغيير الذي ننشده ونرجوه.

إذا كنا نرغب في فتح آفاق أوسع للتفكير والإبداع.. فعلينا أن نقوم بفلترة آرائنا.. وتضييق مساحة ما يتم التعبير عنه ما دام أنه لا يسعى إلى إنكار منكر..أو دفع ضرر.. وما دام الأمر يحتمل أكثر من رأي.. وهذا لا يتأتى لنا إلا إذا استطعنا توسيع مساحة التفكير لدينا.. ورفعنا سقف وعينا حتى يستوعب أكبر قدر ممكن من التغيرات.. والأفكار المختلفة والمتنوعة.

والحل لفتح مساحة الرأي وتفعيله.. هو تحويله إلى حوار متبادل يشارك ويتساوى فيه الجميع ويسمح لهم بالتفكير في الموضوع نفسه من خلال مناقشته بإيجابية واحترام الآخر؛ وبذلك نأخذ ونعطي، ونستفيد ونفيد، ونرقى ونرتقي بأمتنا.