قف هنا قليلا ثم تابع المسير


د. أسماء جابر العبد



قف هنا قليلًا ثم تابع المسير

تعيش مع نفسك ليلَ نهارَ، لكنك لا تعرفها حقَّ معرفتها، ولا تُدرِك أغوارَها، ولا تفهم احتياجاتها.هل ما يَصِفُك به الناس هي صفاتُكَ حقًّا أم فقط هذه الصفات تظهر أمامهم، ثم تختفي مع ذَهابهم؟إن نفسك متلوِّنة، وقادرة على التجمُّل حتى أمامك.امنح نفسك فُسحةً من الوقت للتفكير فيها في طبيعتها ورغباتها، وكيفية الوصول لاطمئنانها وذَهاب قلقها، وحاسِبها على تقصيرها، وعاقبها على تفريطها.لا تتركها هملًا فتجني بعد ذلك علقمًا، وحاسبها على حركاتها وسكناتها وكل خطواتها، بل أيضًا على خطراتها، إنها يا أخي جنةٌ أو نارٌ، ولا مصير ثالث.والنفس نزَّاعة لشهواتها، ميَّالة لرغباتها، ومنساقة بطبيعة الحال لنزواتها، فلا بد أن تُلجمها بلجامها، وتحاسبها وتكبح جماحها، وتُوقفها عند حدودها، لا تتركها لاستهتارها وتهاونها وغفلاتها وإهمالها.﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].ترصَّد أخطاءك وهفواتك وعيوبك وزلَّاتك، ولا تكن من الذين ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19] حين تركوا لها الحبل على الغارب!انظُر لنِعَم ربِّك، كم أنعم عليك! وكم عصيتَ! وكم حلُم عنك! وكم طغيت! وكم سترك وتماديتَ! ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [النحل: 33].قلوب طال عليها الأمدُ بلا ذكر ولا تذكير، فتبلَّدت، ثم قست وانطمَس ضوؤها، وأغطش ليلها، أقبل الناس على شهواتهم وملذَّاتهم، ورضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، فأظلمت القلوب بما تراكم عليها من ران الغفلة وصدأ المعصية، حين تركوا النفس تمضي قُدُمًا دون رقيب أو حسيب؛ فانطمس نورُ القلب، وعميت بصيرتُه.كم أخَّرنا الصلاةَ بحجَّة السعي لطلب الرزق! وكم تركنا الحج مع استطاعتنا لضيق الوقت! وكم كسلنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ خشية كلام الناس فاختَرنا الصمت!مهما كان الدواء مُرًّا، فلا بد من تناوله لتمتثل للشفاء، إن موازين الله دقيقة وشهوده عُدُول، انظُر طريق نجاتك فالزمه، وطريق هلاكك، فاقطع نفسك عنه، ما كان لله فأمْضِه وتَمِّمْه، وما كان لغيره فأوْقِفْه ولا تُكمِلْه.إن رأيت خيرًا فاحمد الله عليه، وإن رأيتَ نقصًا أو تقصيرًا، فاستغفره، وحاول أن تستدركه.إن النفس المطمئنة متوازنة، لا يغلب عليها الحس، ولا يطغى عليها القتل، ولا ترهقها الماديات، ولا تشغلها التفاهات، فلا تخبُّط ولا قَلَق، ولا حيرة ولا اضطراب، ولا اكتئاب ولا إحباط.قد اختفت من أذهانهم كل الشواغل وكل حُطام الحياة، ولم يشغلهم شيء عمَّا خُلِقوا له، وعن هدفهم من حياتهم، فتجد الأرواح الحائرة طريقها، ويجد القلب الْمُعَنَّى مُبْتغاه.كم في عصرنا من انتصارات علمية وتسهيلات حضارية وثورات مادية، ومع هذا نشكو خواءً معرفيًّا وشقاءً رُوحيًّا، فلا نحن حصَّلنا السعادة، ولا وجدنا راحة البال المزعومة.جرِّب أن تنعزل قليلًا عن الدنيا، وتفصِل نفسك وفكرك عن زخارفها الزائلة، وتخلو بربِّكَ في هدوء الليل وسكون الكون، ذُقْ لذة الطاعة وحلاوة المناجاة، ثم انظُر نفسك بعدها، وسترى النور يشعُّ من خلف الستور، حدائق غناء فاقتَطِف من زهورها ورياضها ما تشاء، تنشَّقْ عبقَها المنعش، وعبَّ من نسيمها العليل، وحلِّق برُوحك إلى آفاق الكون الفسيح، فهي اللائق بك وبكمال إنسانيتك.اقطَع نفسك عن سفاسف الحياة وعبثها، وتعرَّض لنفحات ربك وفُيُوضاته، واستقبل نوره وإشعاعاته، إنه زاد الرُّوح وواحتها، وأُنس النفس وراحتها، إنه الرفيق المشفق في الطريق الطويل الشاق، والعاصم من التيه في الظلمات، وازِن بين حاجات رُوحك ومطالب جسدك، بين العمل للدنيا والعمل للآخرة.لقد هذَّب الإسلام غرائز النفس ولم يَكبتها، ولم يُوغلها في عالم المادية المجرَّدة التي تُلبِّي مطالب الجسم نعم، ولكنها تترك الرُّوح في ظُلْمة قاحلة، فالفطرة لا تستقيم إذا لم تُشبِع النفس حاجاتها، أو تُقابل بما يتصادم معها، وكذا لا تستقيم حين تُفْرِط في إشباعها.لقد نهى الإسلام عن الرهبنة والاعتزال وتَرْك إعمار الأرض؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))؛ متفق عليه.اتِّساق عجيب، لا طغيان فيه لجانبٍ على حساب آخر، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا إهمال؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77] مادة مع عبادة، وجانب دنيوي مع جانب تعبُّدي أخلاقي.﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].لك حقوقٌ وعليك واجبات؛ فلا تُلْهِكَ هذه عن تلك فيختل الميزان، اهتمَّ بصحتك ورياضتك وبمأكلك ومشربك ودوائك؛ فلجسدك عليك حق.قدِّر ذاتك واعرِف مزاياها، واستثمرها وطوِّرها، واعرِف عيوبها، فأصلِحْها وقوِّمها، واحفظ كرامتك أن تُهانَ، وعِرضك أن يُمَسَّ، انتشل رُوحَك من بين براثن الضياع؛ فليست وحدها ترحل الأجساد؛ بل ترحل الأرواح وترحل الأخلاق الفاضلة، وترحل المعاني السامية.﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].http://www.alukah.net/sharia/0/129618/