حكم استعمال الحيلة في استجواب المتهم
أ.د. حسن عبد الغني أبوغدة


تمهيد :
يمثل إحقاق الحق مقصدا مهما من المقاصد التي جاء الإسـلام لتحقيقها ورعايتها ، وهو ركن مكين في مسـار التحقيق والادعاء في النظام القضائي الإسلامي ، وله مزيد ارتباط بالحريات الخاصة ؛ لأن ممارسة الحريات محوطة بسياج الحقوق .
ومما له علاقة بحماية الحقوق ورعاية الحريات موضوع استعمال الحيلة والإيهام مع المتهم أثناء استجوابه للكشف عن الحقيقة .
مشروعية توقيف المتهم :
اتجهت الشرائع والأنظمة منذ القديم إلى مشروعية توقيف المتهم والتحفظ عليه حال وجود قرينة جدية في موضوع اتهامه ، وذلك لاستكشاف الحقيقة ، وفي القرآن الكريم قصة صاحبَيْ النبي يوسف عليه السلام ، اللذَيْن احتُجِزا بتهمة دَسِّ السُّم في طعام ملك مصـر ومحاولة قتله ، كمـا يذكر كثير من المفسـرين في قوله تعالى :{ ودخل معه السجن فتيان} . سورة يوسف / 36 .
وقد أيد الإسلام موضوع توقيف المتهم واعتبره أصلا من أصول السياسة الشرعية ومَعْلَما من معالم الحكمة ، لرعاية الحقوق وصيانة الأرواح والأعراض والأموال ، وفي مشروعية توقيف المتهم للتحقيق معه وللكشف عن مبهمات أحواله نزل قوله تعالى في بعض المتهمين :{تحبسونهما من بعد الصلاة} . سورة المائدة / 106 .
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس بتهمة بدم ( أي : في جريمة قتل ) ثم خلى عن المحبوس . رواه أبو داوود والترمذي والنسائي وهو حسن السند .
مشروعية استجواب المتهم :
من الأمور العادية المتوقعة أن يمتنع المتهم من الإدلاء بأية أقوال أو اعترافات ضد نفسه ، وهذا يتفق مع الطبيعة البشرية التي تجعل الإنسان يمسك لساته عن أن يُقِرَّ على نفسه أو يعترف على ذاته ليدين نفسه بلسانه . بل إن المتهم في حالة إدلائه بالاعتراف يجعله في الغالب مقتضبا شحيحا ، يحتاج إلى مزيد من التفصيل والبيان والشرح والتوضيح ...
ومن هنا قامت الشريعة الإسلامية بالموازنة الدقيقة بين رعاية حقوق المتهم وحقوق الآخرين من أفراد المجتمع ، فهي لا تقبل إطلاقا محاسبة المتهم ومعاقبته دون إتاحة الفرصة له ليدافع عن نفسه ويبرئ ساحته ، ويعبِّر عن موقفه بحرية ورضا ، ويدلي بأقواله عن طواعية واختيار من غير إكراه . وفي الوقت نفسه منحت الشريعة جهاتِ التحقيق المختصة الحقَّ في استجواب المتهم واستيضاح موقفه لجمع الأدلة الأولية للوصول إلى الجاني الحقيقي .
هذا ، ومما يمكن الاستدلال به عموما على مشروعية التحقيق والاستجواب لإبراز الحق وإظهاره ، ولسماع أقوال المدعى عليه أو المنسوب إليه الفعل ما يلي :
1ـ قول الله تعالى : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) سورة المائدة / 116 . ففي هذه الآية يستجوب الله تعالى عيسى عليه السلام فيما ادُّعِي عليه ونُسِب إليه ، وذلك بهدف تقرير الحقيقة التي عبث بها النصارى فزعموا أنه وأمه إلهان معبودان مع الله تعالى .
ثم كان أن دَفَع عيسـى عليه السلام عن نفسه تلك الفرية المنسوبة إليه في قوله : { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ْ ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ...} . سورة المائدة / 116 .
2ـ الحديث الذي أخرجه البخاري وأصحاب السيَِر: في قصة حاطب ابن أبي بلتعة الصحابي الذي كتب إلى جماعته في قريش يعلمهم بتحرك جيش المسلمين لفتح مكة ، ويحذرهم من أن يصيبهم منـه بأس ، وينصحهم بالخـروج منها . وحينما أُمسِك بكتابه ـ قبل وصوله إلى قريش ـ وأُتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحقق معه ، ترك له فرصة للدفاع عن نفسه ، وكان مما قاله : يا رسول الله ، لا تعْجَل عليَّ ، والله ما فعلت هذا كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولكن أردت أن اصطنع معروفا أحمي به قرابتي ... فقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم اعتذاره وعفا عنه .
وهكذا وُجِّه الاتهام إلى حاطب بعد قيام الدليل على فعلته والإمساك بالكتاب ، لكنه مُنِح الفرصة الكاملة لتقديم دفاعاته والتعبير عن حقيقة الموقف المشتبه فيه ، ثم ما لبث أن توضح الأمر وتبين أنه أخطأ في تأَوُّلِه واجتهاده ولم يُرد إفشاء السر ، وشفع له في ذلك سبقه إلى الإسلام وبلاؤه وتضحياته في سبيل الله .
التحايل في استجواب المتهم :
إذا كان توقيف المتهم وتوجيه التهمة إليه واستجوابه ومحاورته والاستماع إليه من الأمور المشروعة ، فما هو موقف الإسلام من استخدام وسائل التحايل والمداورة والتنزُّل معه ليُقرَّ على نفسه ويعترف بما جنت يداه ؟ .
للعلماء اتجاهان في هذا الصدد :
الاتجاه الأول : يمنع استعمال الحيلة والمداورة مع المتهم ليقر على نفسه ويعترف بالحقيقة ، وإلى هذا ذهب الإمام مالك رحمه الله . فقد نقل عنه ابن فرحون وغيره أنه سئل : أيُكَرَه للحاكم أن يأخذ الناس بالتهمة فيخلو ببعضهم فيقول : لك الأمان وأخبرني ، فيخبره ؟. فقال : إي والله ، إني لأكـره ذلك ، وأن يقول له ويغويه ، وهو وجه من وجوه الخديعة .
ولعل الدليل الذي اعتُمِد عليه في هذا الصدد الحديث النبوي :"المسلم أخو المسلم ، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله ..." . رواه الترمذي وقال : حديث حسن
الاتجاه الثاني : يجوز التحايل على المتهم حال استجوابه للوصول إلى الحقيقة ومعرفة الواقع ، وإلى هذا ذهب آخرون من الفقهاء ، واعتبروه من القضاء بالفِراسـة ، ولا يعدو كونه إيهاما للمتهم ، وهو بعيد عن الإكراه أو الضرب ، وهو من الحيل الجائزة المشروعة ، كما ذكر ابن حزم والماوردي وابن القيم وغيرهم .
واستدل أصحاب هذا الاتجاه القائلون بالجواز بما يلي :
1ـ حديث البخاري : أن يهوديا رَضَّ رأس جارية ( فتاة ) بين حجرين ، فقيل لها وهي في النزْع : من فعل بك هذا ؟. أفلان أو فلان ؟. حتى سُمِّي لها اليهودي فأومأت برأسها ، فأُتِي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقر بما فعل ، فاقتص منه .
وجه الاستدلال : أن المتهم كان ينكر التهمة ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ظل يحاوره ويتحدث معه ويداوره حتى اعترف على نفسه بما فعل بالفتاة .
2ـ حديث النسائي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك . فتحاكما إلى النبي داوود عليه السلام فقضى للكبرى ، فخرجتا إلى سليمان بن داوود عليهما السلام فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقُّه بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله ، هو ابنها ، فقضى به للصغرى " .
وجه الاستدلال : سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن طريقة استجواب النبي سليمان وتصرفه ، بل إقراره للحيلة التي لجأ إليها ليعرف الأم الحقيقية ، وهي التي أبت أن يقطع ابنها نصفين ، بينما سكتت الأم الأخرى الدَّعِيَّة ولم تتحرك عاطفتها خوف ذبح الطفل لأنه ليس ابنها .
هذا ، وقد ذكر العلماء : أن حكم النبي داوود عليه السلام مبني على أصل قضائي مقرر منذ القديم وهو : ثبوت الملكية لصاحب الحيازة وواضع اليد على الشيء المختلف فيه ، إلا إذا عارضته البينة . ولما كانت المرأة الكبرى هـي صاحبة اليد هنا وليس للصغرى بينة ولا شـهود في القضية ، حُكِم للكبرى ولم يُحكَم للصغرى . أما النبي سليمان عليه السلام فقد اعتمد على أصل قضائي آخر مبني على القرينة الراجحة والفراسة الواضحة والفطرة الناطقة .
الاختيار والترجيح :
من خلال التأمل في القولين السابقين واستحضار حرص الشريعة الإسلامية على تحقيق العدل في المجتمع ، وملاحقة الجناة والوصول إليهم والحد من نشاطاتهم الإجرامية أو التقليل منها ، تتجه النفس إلى اختيار وترجيح القول الثاني في مشروعية التحايل على المتهم والتنزُّل معه ومداورته للوصول إلى الحقيقة ، ويؤيد هذا العديد من الأحاديث الأخرى والآثار والوقائع المروية عن بعض الصحابة والتابعين وغيرهم من الفقهاء والقضاة .
ومما روي في هذا الصدد ما يلي :
1ـ حديث أبي داوود : أن بعض الصحابة أمسكوا على ماء بدر غلامين لقريش يستقيان ، فأتوا بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألهما عن عدد الجيش ، فقالا : لا ندري ، هم كثير . فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : كم ينحرون كل يوم ؟. قالا : يوما تسعة ، ويوما عشرة . فقال لأصحابه : القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف .
وهكذا اسـتطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف ما خفي عليه بطريقة غير مباشرة ، فيها وجه من المداورة والمغايرة . والقصة معروفة ومفصلة في كتب السيرة النبوية .
2ـ ذكر ابن القيم وابن فرحون وغيرهما : أنه أُتِي إلى علي رضي الله عنه بأناس اتهموا في قتل رجل في سفر وسلب ماله ، وهم ينكرون هذا ويزعمون أنه مات وأنهم دفنوه ولم يكن معه مال . فأمر عليٌّ أن يُعزَل بعضهم عن بعض ، ثم دعا أحدَهم على مسمع من أصحابه ليحقق معه ، وخلا به وقال له : أخبرني عما وقع للرجل الذي مات ، وأين مات ومن غسله وكفنه ... ؟ . وأطال الحديث معه ، ثم كبَّر عليٌّ رافعا صوته وكبَّر الحاضرون معه ، فظن المتهمون الآخرون أن صاحبهم قد أقر عليهم . ثم أخرج هذا المتهم وعزله ، ودعا متهما آخر فسأله كما سأل الأول وأطال الحديث معه فاعترف ، ثم كبَّر عليٌّ رافعا صوته وكبر الحاضرون . ثم أُتِي بالبقية على هذا النحو ، ثم أعاد إليه المتهم الأول فاعترف بما اعترف أصحابه من أنهم قتلوا الرجل وأخذوا ماله ...
وهكذا استطاع علي رضي الله عنه أن يستعمل الحيلة والإيهام مع هؤلاء المتهمين حال استجوابهم ، حتى اسـتطاع الوصول إلى الحقيقة من خلال ما أوقع في رُوع كل منهم دون إكراه ، أن رفاقه قد أقروا عليه .
ضوابط ومعايير التحايل في استجواب المتهم :
لا ينبغي أن يفهم مما تقدم : أن الإسلام يبيح الوقوع في المحرمات واستخدام الكذب والخديعة وكافة الأساليب أيا كانت في استجواب المتهم ، بل إن هناك معايير وضوابط لا بد من مراعاتها في هذا المجال ، ومن ذلك ما يلي :
1ـ استبعاد التحايل في اسـتجواب المتهم بجرائم الحدود المتعلقة بحقوق تعالى ، وذلك لأن حقوقه سبحانه مبنية على التسامح ، أما الحدود المتعلقة بحقوق الأشخاص والمبنية على التشاحح فيمكن استعمال التحايل فيها للحصول على إقرار المتهم ، لا من أجل إقامة الحد عليه ، بل من أجل أخذ التعويض المالي للشخص المتضرر كما في جريمة السرقة ونحوها ، والأصل في هذا الحديث الصحيح الذي في سنن البيهقي والترمذي وغيرهما : "ادرؤوا الحدود بالشبهات" إضافة إلى ما هو مقرر في الشريعة من قبول رجوع المقر عن إقراره في غير الحقوق المالية التي أقر بها للناس . مع العلم أنه يستثنى من هذا الضابط جرائم القصاص والتعازير من ضرب وشتم وتزوير واختلاس ونحو ذلك مما ليس فيه عقوبة حدَِّيَة ، حيث يؤخذ به المقر .
2ـ استبعاد التحايل المشتمل على صريح الكذب والافتراء والخديعة ، ونحو ذلك مما لا يمت إلى التوريـة والمعاريض المباحـة ، ويدل على هذا عموم حديث : "إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب" . رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي والطبراني . والمعاريض : الكلام الذي له وجهان أو معنيان ، فيتبادر إلى ذهن السامع غير الذي يريده القائل .
وفضلا عن هذا ، فإن التحايل أصلا ليس كله مذموما ولا كله حراما ، فقد عرَّفه أهل اللغة بأنه : اتباع المسلك الحاذق في تصريف الأمور وبلوغ المأرب ، وقد يكون هذا حراما ، وقد يكون حلالا ، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع غلامَيْ قريش ، وفعله علي رضي الله عنه مع المتهمين كما سبق بيانه ، وعلى نحو هذا يحمل قوله تعالى : { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله ... } سورة يوسف / 76 . وذلك حين أخفى الصُواع الذي يُكال به في رحل أخيه ، والقصة معروفة في مواضعها من كتب التفسير
3ـ استعمال التحايل في استجواب أصحاب السوابق ونحوهم ممن يغلب على الظن عدم تورعهم عن أمثال هذه التهم ، بل ربما تشير الدلائل والقرائن إلى وجود علاقة ما لهم في موضوع الدعوى . أما غيرهم من ذوي المكانة والهيئة والسمعة الحسنة والسلوك النزيه فيستبعدون من هذا الأسلوب في الاستجواب ، والأصل في ذلك عمـوم حديث مسـلم وأبي داوود وغيرهما عن عائشـة رضي الله عنها قالت : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم"
الخاتمـة :
وهكذا يتضح مدى توسط الإسلام واعتداله وواقعيته في تشريعه ما يتصل بتوقيف المتهم واستجوابه ، وأنه لا حرج في استعمال الإيهام والتورية والحيلة والمداورة أثناء استجواب المظنون فيهم وأصحاب السوابق في غير جرائم الحدود، إذا لم يختلط هذا بصريح الكذب والافتراء ؛ لأن ذلك من المتطلبات الواقعية التي يُحتاج إليها في التعامل مع بعض الشرائح ذات السلوك المشبوه والسمعة المتردية .
هذا ، ولئن نصت بعض الأنظمة الوضعية في تشريعاتها الإجرائية على منع صور التحايل والمداورة والإيهام مطلقا حال استجواب المتهم ، فإن ذلك لا يجد له سبيلا إلى التطبيق والتنفيذ حتى مع من يغلب على الظن براءتهم ، ولا نزال نرى ونسمع اليوم في العديد من الدول بقضايا تُنْتَزَع فيها الاعترافات من الأبرياء ومن أقربائهم ظلما وعدوانا ، بالتخويف والتعذيب والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية .
بل قد حدث ويحدث في العديد من الدول ذات الصيت الذائع في حماية حقوق الإنسان !! احتجازُها للأبرياء سنين عديدة بعيدين عن أوطانهم وأهليهم في ظروف سيئة للغاية ، دون توجيه التهم إليهم ، ولا تورُّعٍ عن ممارسة الخداع والكذب معهم ومع غيرهم أمام سمع العالم وبصره !!. فضلا عما قد يسبق ذلك من تنصت على المحادثات الهاتفية وتسلل إلى الاتصالات الالكترونية ونحوها وتسجيلها ، واستراق للسمع بغير حق ...


*أستاذ الفقه المقارن والسياسة الشرعية بجامعة الملك سعود.