مستجدات الحج الفقهية ( النوازل في الحج ) (12من16)
الدكتور محمد بن هائل المدحجي

ما زال الحديث متصلاً عن نوازل الحج المتعلقة بالإحرام ومحظوراته ، فمن نوازل الحج المتعلقة بمحظورات الإحرام : المسائل المستجدة المتعلقة باستعمال الطيب ولبس المخيط ، والتي يمكن توضيحها فيما يلي :
فمن النوازل المتعلقة باستعمال الطيب : استخدام المحرم للصابون المعطر : وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على تحريم استخدام المحرم للطيب ؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم- في الذي وقصته ناقته فمات وهو محرم : " لا تمسوه بطيب" (متفق عليه) ، واتفاقهم هذا منصب على ما يتخذه الناس طيباً يتطيب به ، وليس على كل ما فيه راحة طيبة ؛ لذلك لا يدخل في هذا رائحة أنواع الفواكه ، وكذا الريحان عند جمهور الفقهاء خلافاً للشافعية ؛ ومن ثمّ اختلف المعاصرون في حكم الصابون المعطر ، فمنهم من أجازه بالنظر إلى أنه اتخذ للتنظف وليس للتطيب ، ومنهم من منعه لأن المستعمل له هو في الحقيقة مستعمل للطيب الذي أضيف إليها ودخل في تركيبها ، وهذا القول أصح _ كما أنه أحوط _ ، لكن بشرط أن تكون الرائحة المضافة إلى الصابون من جنس ما يتطيب الناس به : كالعود ، أو الياسمين ، أو المسك ، أما إذا كانت الرائحة المضافة ليست من جنس ما يتطيب الناس به : كرائحة الليمون ، أو البرتقال ، أو النعناع ونحو ذلك ، فهذا ليس استعمالاً للطيب ، وأظنه الغالب في أنواع المنظفات التي يستخدمها الناس اليوم ، والله أعلم .
ومما يتعلق بلبس المخيط : اتفق الفقهاء رحمهم الله على تحريم لبس المخيط على المحرم الذكر ؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث ابن عمر " لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف " ، والمقصود بالمخيط ما حيك على قدر العضو ، كالمخيط على قدر اليد أو الرجل ، ونحو ذلك ، وليس المقصود مجرد وجود الخيوط فيه .
وعليه فيجوز للمحرم بعد إحرامه إن ركب السيارة ، أن يربط حزام الأمان ، لأنه ليس بمخيط على قدر العضو ، ولا مانع منه شرعا ، كما لا يحرم على الصحيح لبس رباط طبي يلفه المحرم على يده أو ركبته أو قدمه ، ولا في لبس الحزام الطبي الذي يلفه على ظهره ، ويربطه بلاصق أو نحوه .
والإزار ليس مخيطاً ؛ فهو لا يفصل على قدر عضو في الجسد ، وقد أحرم فيه النبي –صلى الله عليه وسلم- وصحابته رضوان الله عليهم ، وفي الحديث الذي رواه البخاري: " من لم يجد الإزار فليلبس السراويل " ، ومن يستقرئ النصوص النبوية يرى أن الإزار يوصف بالعقد ويوصف بالانحلال ، ومن ثمّ فيجوز الإزار الذي فيه لاصق، وكان هذا اللاصق يشبه الهِميان _ الذي يعرف بالكَمر _ الذي أجازه فقهاء المذاهب الأربعة ويشد به أعلى الإزار ، فهو إزار لغة وعرفا ، فيكون إزارا شرعا ، وليس هو محيكا على قدر العضو ، فهو خارج عن حد المخيط عند العلماء ، أما إن كان هذا اللاصق يمسك أطراف الإزار بعضها ببعض من أعلاه إلى أسفله ، فهذا يجعل هذا الإزار مفصلاً على قدر أسفل البدن فيحرم ، ومثل ذلك في التحريم: الإزار الذي فصل على قدر وسط الرجـل ، والمتصلة أطرافه بالمغاط المطاطي ، وهذا وإن كان بعض الفقهاء المعاصرين أجازه _ وعلى رأسهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله _ ؛ بالنظر إلى أنه يسمى إزاراً ، لكن الصحيح أنه ليس كذلك ، بل هو خارج عن حقيقة الإزار ، فهو أشبه ما يكون بالتنورة التي يلبسها النساء ، ولعله يسمى لغة النُّقْبةُ جاء في لسان العرب (1/768 ) : " والنقبة: خرقة يجعل أعلاها كالسراويل، وأسفلها كالإزار"اهـ ، وعليه فالصحيح عدم جواز لبس هذا النوع من الإزار للمحرم ،والله أعلم .
وأما لبس الساعة فالظاهر أنه كلبس الخاتم ، وهو جائز عند جمهور الفقهاء إلا المالكية بالنسبة للرجل ؛ والصحيح جوازه ؛ إذ لم ينقل أن النبي–صلى الله عليه وسلم-خلع خاتمه في إحرامه .
وأما وضع الكمامة الطبية على الفم والأنف فحكمها حكم تغطية الوجه ، فلا يجوز للمرأة استعمالها ؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري _ : " ولا تنتقب المرأة المحرمة " ، وإحرام المرأة في وجهها فلا تغطيه إلا بغشوة تطرحها على وجهها كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه"(رواه أبو داود وابن ماجه) ، لكن إن احتاجت المرأة للبسها لدواعٍ صحية أو وقائية فلا بأس بلبسها ، لكن عليها فدية تخير فيها بين ذبح شاة ، أو صوم ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، على أنه يقوى إذا كانت الحاجة عامة للبس هذه الكمامات _ كما حدث عند انتشار وباء إنفلونزا الخنازير _ أن لا توجب الكفارة على أحد ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وما احتاج إليه العموم لم يحظر عليهم ، ولم يكن عليهم فيه فدية ، بخلاف ما احتيج إليه لمرض أو برْد ، ومن ذلك حاجةٌ لعارض ... والله لم يحرم على الناس في الإحرام ولا غيرِه ما يحتاجون إليه حاجة عامة "[ مجموع الفتاوى 21/197-198 ] .وأما لبس الكمامة للرجل فينبني على خلاف الفقهاء في جواز تغطية المحرم لوجهه ، فالحنفية والمالكية يمنعون ذلك ، والشافعية والحنابلة يجيزونه ، ومستند من منع ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس { في قصة الرجل الذي وقصته دابته فمات فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: " لا تخمروا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " . زاد مسلم " ولا تخمروا رأسه ولا وجهه " ، لكن الأقرب أن زيادة " ولا وجهه " غير محفوظة في الحديث ، وعلى تقدير صحتها يكون النهي عن تغطية وجهه إنما كان لصيانة رأسه، لا لقصد كشف وجهه ، والآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم دالة على جواز تغطية الرجل وجهه وهو محرم ، قال ابن القيم رحمه الله : " وبإباحته قال ستة من الصحابة عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وجابر - رضي الله عنهم – "[ زاد المعاد 2/225] ، وعليه فلا حرج على المحرم في استعمال الكمامات الطبية لحاجة أو لغير حاجة ، وإن كان الأولى ألا يستخدمها من غير حاجة خروجاً من الخلاف ، والله أعلم .
وتظليل الحاج رأسه بغير ملاصق له : كالشمسية وسقف السيارة لا بأسَ به ؛لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- إنما نهى عن تغطية الرأس لا عن تظليل الرأس، والشيء البائن عن الرأس المبتعد عنه لا يقال: إنه غطى الرأس ، بل ظلل الرأس، ولهذا قالت أم الحصين رضي الله عنها : " حجَجنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلالٌ وأسامة ، أحدُهما يقود راحلته والآخر رافعٌ ثوبه على رأس النبي –صلى الله عليه وسلم- يُظلله من الشمس" رواه مسلم ، ونصوص الحنفية والشافعية دالة بوضوح على هذا الحكم ، يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: " وأما استظلاله بسقف السيارة أو الشمسية أو نحوهما فلا بأس به، كالاستظلال بالخيمة والشجرة؛ لما ثبت في الصحيح، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ظلل عليه بثوب حين رمى جمرة العقبة، وصح عنه –صلى الله عليه وسلم- أنه ضربت له قبة بنمرة، فنزل تحتها حتى زالت الشمس يوم عرفة ."اهـ [التحقيق والإيضاح ص18].
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.