مستجدات الحج الفقهية (النوازل في الحج) (9من16)

الدكتور محمد بن هائل المدحجي

ما زال الحديث متصلاً عن نوازل الحج المتعلقة بالاستطاعة ، ومن ذلك :
(حج من كان مصاباً بمرض من الأمراض المعدية ) :فمن كان مصاباً بمرض من الأمراض المعدية التي لا تمنع من إمكانية أداء مناسك الحج ، وأراد أن يحج فإنه لا يجوز له الذهاب للحج حتى يبلغ السلطات الصحية بمرضه وحالته الصحية لكي لا يتسبب في إلحاق ضرر لا يعلم مداه إلا الله بإخوانه ضيوف الرحمن ، فإن منعته السلطات من الحج ،وجب عليه القبول بذلك ، ويستنيب غيره ليحج عنه إن كان لا يرجو الشفاء من هذا المرض، وليصبر وليحتسب ، فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، ومصلحة الأمة بسلامة الحج من الأمراض الوبائية أهم من مصلحته الخاصة التي يستطيع تحصيلها ، بأداء غيره لها نيابة عنه ، قال r : " لا ضرر ولا ضرار" رواه ابن ماجه .
ومن نوازل الحج المتعلقة بالاستطاعة : المطالبة بتأجيل العمرة وإلغاء الحج لعام 1430 هـ بسبب إنفلونزا الخنازير (h1n1 ) : وهذه النازلة ظهرت قبل عامين لما اجتاح هذا المرض العالم ، ودعت بعض الجهات الصحية إلى تأجيل أداء العمرة والحج خوفاً من العدوى ، ومما لا شك فيه أن الإسلام يدعو إلى دفع الضرر واتخاذ الوسائل التي تمنعه عن الناس ، لكن هل من وسائل ذلك تأجيل الحج والعمرة ؟ بدأ الناس يطرحون هذا التساؤل ، وبدأ المفتون بالإجابة ، وفي ذلك يقول الدكتور عبد الله الفقيه مشرف الفتوى بالشبكة الإسلامية القطرية: "الذي يظهر والعلم عند الله تعالى هو أن الخوف من هذا الداء لا ينبغي أن يحول دون ما هو مطلوب من العبادات على وجه الاجتماع، وذلك ما لم يتطور الأمر إلى أن يكون وباءً، فإن تطور إلى أن يكون وباء، أو خشي ذلك خشية مستندة إلى أسباب موضوعية، ونصحت بذلك جهات الاختصاص في البلد ممن يوثق فيهم في جانب الشرع وفي جانب الطب، فالقول للأخذ بالاحتياط قولٌ له حظ كبير من النظر والعلم عند الله تعالى ، ويقول الدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر: " أدعو إلى ضرورة الاجتهاد الجماعي بين كل المجامع الفقهية المعترف بها على مستوى العالم الإسلامي، للخروج بفتوى موحدة توضح موقف الشريعة الإسلامية حول مدى جواز تأجيل أداء الحج والعمرة، بسبب انتشار فيروس أنفلونزا الخنازير، لأن الفتوى بتأجيل أداء الحج والعمرة لا ينبغي أن تصدر بصورة فردية، وإنما يجب أن تتم في صورة جماعية بحضور فقهاء الأمة الإسلامية، والتنسيق مع المجامع الفقهية المعتمدة في العالم الإسلامي.وتأجيل أداء الحج والعمرة في حالة انتشار الفيروس بصورة كبيرة له جانب فني تحدده الجهات المعنية مثل وزارات الصحة والبيئة والزراعة ، ثم تأتى بعد ذلك_ وبناء على تقارير هذه الوزارات _ اجتهادات علماء الأمة الإسلامية لتحديد موقف موحد من هذا الخطر؛ لأن حفظ حياة الإنسان ووقايته من الأمراض من مقاصد الشريعة الإسلامية" .
وفي تطور في المعطيات التي ينبني عليها حكم هذه النازلة اتفق وزراء الصحة العرب مع ممثلين من منظمة الصحة العالمية خلال اجتماع مشترك في القاهرة على منع الأشخاص فوق خمسة وستين عامًا ، ومن هم دون اثني عشر عامًا ، والحوامل ، والمصابين بأمراض مزمنة : كالسكر ، والضغط ، والقلب ، والكبد ، والكلى من أداء فريضة الحج تخوفاً من المضاعفات السريعة والخطيرة التي ستلم بصحتهم إذا ما تعرضوا للإصابة بفيروس إنفلونزا الخنازير.
على إثر ذلك صدرت دعوات من علماء بمصر والسعودية بتأجيل أداء الحج والعمرة للفئات المذكورة ، تبعه بيان من الدكتور عبد السلام العبادي، أمين مجمع الفقه الإسلامي بيّن فيه " أن المجمع لا يمانع من تأجيل الحج والعمرة للمرضى وكبار السن ... وعلى ضوء ما يستقر عليه الأطباء لا يمانع المجمع في إصدار فتوى بهذا الخصوص إذا اتفق العلماء والأطباء على ذلك" .وبالتزامن مع صدور بيان المجمع أعلن الدكتور علي جمعة مفتى الديار المصرية أن من يخالف تعليمات وزراء الصحة العرب الذين أوصوا بتأجيل الحج لهذه الفئات هذا العام "آثم"، فيما طالب عدد آخر من علماء الأزهر بإلغاء الحج لجميع الناس من خارج السعودية.
أعقب ذلك إعلان نقابة أطباء مصر في بيان لها أنه لا ضرورة علمية أو صحية لإلغاء رحلات الحج والعمرة بسبب فيروس إنفلونزا الخنازير‏، معتبرة أن الفيروس المسبب للمرض (إتش‏1‏ إن‏1‏) هو من نوع الأنفلونزا الموسمية نفسها‏,‏ وقالت النقابة‏:‏ إن الأطباء المتخصصين الذين استُطلعت آراؤهم أجمعوا على أن الاتجاه إلى إلغاء الحج والعمرة للمصريين يعتبر إجراءً علمياً غير صحيح‏,‏ واستشهدت النقابة بأن معظم المصابين المصريين الوافدين لمصر تماثلوا للشفاء‏ .
ثم بحث المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هذه النازلة ، دراسة متأنية وفق القواعد والضوابط الشرعية المقررة لدراسة القضايا المعاصرة، بعد استشارة أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم ، فجاء بما يشفي ويكفي ، حيث جاء في قراره ما نصه : " تلقى المجلس استفتاءً بخصوص السفر لأداء مناسك الحج أو العمرة في هذا العام في ضوء ما حدث أخيراً من انتشار أنفلونزا الخنازير في الكثير من بلدان العالم، ورفع درجة التحذير من الوباء إلى الدرجة السادسة، وقد قام المجلس بالاتصال بالمسؤولين في منظمة الصحة العالمية، فأفادوا أن هذه الدرجات المشار إليها هي درجات للانتشار الجغرافي، ولا علاقة لها على الإطلاق بدرجة الخطورة، وقد أُعلنت الدرجة السادسة لأن عدة حالات من المرض قد ظهرت في جميع قارات العالم، وقد أوضحت المديرة العامة للمنظمة - وهي المفوضة الوحيدة من قبل دول العالم بتطبيق وتفسير اللوائح الصحية الدولية – أن شدة المرض معتدلة، ولا تزيد عن شدة الأنفلونزا الموسمية المعهودة.
ولم يحدث أبداً من قبل أن أوبئة الأنفلونزا الموسمية قد دفعت إلى منع أو تحديد الحج أو العمرة، علماً بأن حكومة المملكة العربية السعودية قد تعهدت بتنفيذ الخطة المتكاملة لمكافحة الوباء، وباتخاذ الاستعدادات لمنع وقوع المزيد من الحالات. وقد أصدرت وزارة الصحة في المملكة الاشتراطات الصحية لأداء الحج والعمرة لهذا العام، واحتفظت بحقها باتخاذ أي إجراءات احترازية إضافية.وبناء على ما تقدم، لا يرى المجلس مسوغاً لأية فتوى يكون مفادها تثبيط همم من يعقد العزم على أداء الحج أو العمرة هذا العام.
على أنه من الضروري على كل حال اتخاذ التدابير الواقية من هذا المرض ومن غيره من الأوبئة، وتتلخص هذه التدابير بالدرجة الأولى في الامتناع عن العناق والقبلات والتقليل من المصافحة ما أمكن، وغسل اليدين بعد كل ملامسة لمريض، أو عقب تلوثهما، وستر الأنف والفم في حال العطاس والسعال بمنديل ورقي، والأفضل في أثناء التجمعات استعمال الأقنعة والكمامات، مع الانتباه إلى تبديل هذه الأقنعة أو الكمامات مراراً، والتخلص منها بطريقة صحية.
ومن وسائل الوقاية أيضاً الالتزام بالتوصيات الصادرة عن السلطات الصحية في السعودية أو في البلدان التي ينتمي إليها الحجاج والمعتمرون حول أخذ اللقاحات أو اصطحاب الأدوية اللازمة، علماً بأن هذه التوصيات قد يتم تخفيفها أو تشديدها بما يلائم الوضع الصحي السائد.كما يوصي المجلس بتأجيل القيام بأداء هذه المناسك للمسنين والمصابين بأمراض موهنة، أو المتعاطين لأدوية تخفف من المناعة، كما يوصي بذلك أولئك الذين حجوا أو اعتمروا من قبل تخفيفاً للزحام".
ثم حج الناس واعتمروا، وحفظ الله عباده، ولم يحصل إلا عدد قليل من الوفيات، والحمد لله رب العالمين .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.