المرأة الرّاعية، وصلاح الرّعيّة


نور الجندلي


علمت أن الأمر يتعدَّى كونه خدماتُ تنظيفٍ وطهي، وحملٍ وإنجاب، ليصل إلى مهمة بالغة الأهمية، وليتوقف عند مسألة الراعي والرَّعية.
ارتقت بتفكيرها حول أسس المسؤولية، وفكرت؛ كيف للمرء أن يرعى بنزاهة، وكيف له أن يحكم بعدالة، وكيف يربّي الجيل الصالح، ويصنع النواة الفضلى للمجتمع الصحيح. فعادت إلى نقطة البداية، لتكون على بينة، ولترى حطام الأيام، كيف عبث بأسرتها الصغيرة، فأحالها دماراً.
الخطوة الأولى التي مشتها في حياتها، كلمة الموافقة التي صرَّحت بها حين أتاها خاطباً. مازالت تجهل سبب الموافقة، لقد أرادت أن تعيش الحلم الأبيض بتفاصيله، أن تكون أميرة الحفلة، وترتدي ثوب الزفاف المزين بالورود، ثم ارتقى أكثر فأكثر، فتمنت أن تعيش تجربة حياة مثلى، مفعمة بالأحداث الجديدة المتلاحقة، مع زوج يحبها، بعيداً عن رتابة واقعها وملله ثم ارتقى تفكيرها أكثر، فحلمت بأن تكون أماً طيبة، لأطفالٍ رائعين.
في تلك اللحظة تبدت ملامح الأسى والندم على وجهها، وقالت بلوعة: ( لقد كان قراراً طائشاً، يا إلهي... كم كنتُ سخيفة آنذاك) !
لم تصدق أن سنوات العمر قد ضاعت منها، وهي فارغة من الهدف، أو بالأحرى؛ حاملة لهدفٍ هلامي، لا شكل له، ولا بيان لحقيقته.
ثم عادت وقدمت كومة من الأعذار لنفسها قائلة: ( لستُ الوحيدة في ذلك؛ كل النساء مثلي، يحلمن بليلة الزفاف والورود والفرح) !
ثم غشيتها غيمة ضبابية ثانية، وتراجعت قائلة : ( كفّي عن البحث عن الأعذار الواهية، انظري إلى نفسكِ، وإليهن، إنهن مثلكِ، يعشن على هامش الحياة، ويودعنها دون أدنى أثر ) !
قررت مصارحة نفسها أكثر...
( ثمّة نساء بأهداف... ابنة خالتي هدى مثلاً، قلّبت مسألة الزواج بعقلانية، أرادت الزوج الصالح قبل النسب والمال، قبل البيت والسّيّارة، وقبل الوسامة والجمال، فوهبها الله رجلاً يحمل معظم الصفات التي لم تضعها ضمن الأولويات، أرادت رضوان الله، فأعطاها الله أكثر مما تتمنى، انظري إلى أولادها؛ نبوغهم، تفوقهم، حفظهم للقرآن، لماذا هم يختلفون عن البقية، وكيف نجحت بتأسيسهم بهذا التميز؟!)
وتذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)). رواه مسلم
شعرت بالصدمة، وكأنها تتأمل الحديث للمرة الأولى، وترن في أذنها كلمة ( المرأة- بيتها- زوجها- رعيتها)، يا لها من مهام جسيمة أهملتها!
حدثت نفسها بألم، وجلست تراجع حساباتِ عمرٍ مضى، ولكن هذه المرّة بدقة أكبر. وفهمت معنى الخسارة الحقيقية التي تكبدتها، بإهمالها الرعيّة.
مازال الزوج محتفظاً بعاداته، لم يتغير للأفضل كما تريده، وهي أيضاً، بقيت كما هي، لم تتأقلم، أو تتجاوب، واستمرَّ الصراع...
والجيلُ الصاعد لم يصعد، بل ازداد هبوطاً، لقد وصلت إلى الحضيض، وقد اكتشفت ذلكَ مؤخراً.
سمعت ابنتها بالأمس تحادثُ زميلها في الجامعة، وتشاجرتا حتى الصباح. وولدها لم يتوقف عن التدخين منذ سن الخامسة عشرة، وطفلها الصغير أحمد أدمن الفضائيات، وحفظ ألواناً من الرقص والغناء، وتراجع كثيراً في دراسته، رغم طاقم المدرسين الذين عبروا عن انزعاجهم من حالته!
أغمضت عينيها، ثم فتحتهما فجأة، وكأن العمر كالحلم مرَّ سريعاً وانتهى، لتصحو على واقع مرير...
نظرت حولها، فوجدت بيتها نظيفاً مرتباً، وقد قضت يومها تعتني به، لكن القلوب ملوثة.
كان الطعام معدّاً شهياً على مائدة متميزة، لكن النفوس جوعى، نظرت إلى المدفأة، والنارُ تتأجج فيها، وقد عملت على أن تبقيها مشتعلة لكي لا يتعرض أحد من أسرتها للبرد، لكنه في الحقيقة كان يعصف بالأرواح.
خشيت أن الأوان قد فات، لكنها تفاءلت برحمة الله تعالى، فعقدت العزم على التغيير، وقررت فتح صفحة جديدة، تقيم فيها العدل في مملكتها، وتعمل على ترميم صدوع أخطائها، وتبذل ما بوسعها لصناعة المجد. علمت أن الأمر على درجة كبيرة من الصعوبة، وبأن النحت في الصخور والحجارة القاسية، قد يكون أهون من إعادة معالجة القلوب النازفة، والعقول المدمرة، والنفوس الجريحة، لكن مهمة الراعي تملكت وجدانها، والخوف على الرعية بدد رهبة المغامرة، فانطلقت بنيّة مخلصة جديدة، ورغبة بالنجاح أكيدة.