العيوب الموجبة لفسخ عقد النكاح (1-2)
فضل ربي ممتاز زادة
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعـد:
فهذا بحث موجز عن العيوب الموجبة لفسخ عقد النكاح وهوموضوع مهم
وتظهر أهميته من خلال الأمرين الآتيين:
1- أن هذا من الموضوعات العملية التي تقع في المجتمع كثيراً ولاسيماً مع كثرة الأمراض المعدية، فهو من الموضوعات التي تشغل المحاكم كثيراً.
2- أن هناك أمراضاً قد ظهرت في العصر الحاضر وتؤثر في العلاقة الزوجية بشكل مباشر وتؤثر في النسل الذي هو من أهم مقاصد النكاح، مثل «الإيدز»، وغيرها من الأمراض التناسلية والجنسية التي ستأتي ذكرها في طيات هذا البحث.
ونظراً لهذه الأهمية الكبيرة أخترت الكتابة فيه.
ومنهج البحث يتلخص في العناصر الآتية:
1- الرجوع إلى المذاهب الأربعة والمذهب الظاهري والمقارنة بين آرائها.
2- الحرص على ذكر آراء الصحابة والتابعين.
3- الحرص على ذكر الدليل والمناقشة إن وجد.
4- تخريج الأحاديث النبوية الشريفة من مظانها والحكم عليها ما لم يكن في الصحيحين أو أحدهما.
5- الترجيح بعد ذكر الأدلة والمناقشات مع ذكر أسبابه.
6- ترجمة الأعلام إلا المشهورين جداً مثل الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم-، والأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى-، ونحوهم.
7- عزو الآيات إلى سورها وذكر رقمها.
8- الرجوع إلى الكتب الأصلية للمذاهب ونقل أرائها من كتبها المعتمدة.
هذا وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المطلب الأول: تعــريــف العـيـب
ويشتمل على فرعين:
الفرع الأول: تعريف العيب لغة:
العيب لغة الوصمة، والرداءة، وهي ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة مما يعد به ناقصاً، وجمعه عيوب[1].
الفرع الثاني: تعريف العيب اصطلاحاً:
للعيب في اصطلاح الفقهاء تعريفات عديدة، والسبب في ذلك اختلاف مجالات العيوب في الشرع بحسب نوع العقد الذي يبحث فيه، فالعقد قد يكون بيعاً وقد يكون نكاحاً، فيتخلف بناء على ذلك تعريف العيب، فقد عرف العيب في النكاح بأكثر من تعريف منها:
التعريف الأول:
ما يخل بمقصود النكاح الأصلي كالتنفير عن الوطء وكسر الشهوة[2].
ويؤخذ على هذا التعريف أنه أعم مما يريده الفقهاء في هذا المجال، فالتنفير وكسر الشهوة يشملان عدم جمال أحد الزوجين مثلاً، وهو ليس من العيوب الموجبة لفسخ عقد النكاح باتفاق العلماء.
التعريف الثاني:
وعرفه بعض الفقهاء المعاصرين بأنه: «نقصان بدني أو عقلي في أحد الزوجين يجعل الحياة الزوجية غير مثمرة أو قلقة لاستقرار فيها[3].
التعريف المختار:
ويمكن تعريفه بأنه: «وصف بدني أو عقلي مذموم اقتضى العرف سلامة الزوجين منه غالباً، يمنع من تحصيل مقاصد النكاح والتمتع بالحياة الزوجية».
وبناء على ما سبق من ذكر تعريفات العلماء يمكن القول أن العيوب في باب النكاح خاصة بالنقائص الخَلقية في أحد الزوجين، وإن كانت كلمة العيوب عامة تشمل غيرها من النقائض المالية والخُلقية والعَقَدِية من الكفر والردة، فلا تشمل كلمة العيوب في باب النكاح عند الفقهاء تلك النقائص وإن كان يفسخ بها عقد النكاح. فالفقهاء يفرقون بين النقائص الخَلقية والعقلية، فيسمونها عيبوبا في باب النكاح، وبين الأسباب الأخرى للفسخ مثل الإعسار بالنفقة وبالمهر، والردة ونحو ذلك فلا يسمونها عيوبا، وإن كانت هذه الأسباب نقائض يصح أن تسمى عيوبا لغة[4].
المطلب الثاني: تعريف الموجب
الموجب اسم فاعل من وجب، والوجوب في اللغة اللزوم والاستحقاق والسقوط[5].
ولفظ الموجب وإن كان يوحي باللزوم، إلا أن المراد به هنا ليس اللزوم، بل المراد بالموجب هنا ما يستحق به أحد الزوجين طلب التفريق بينهما على وجه الخيار لا على وجه اللزوم والوجوب، وإطلاق مثل هذا التعبير شائع عند الفقهاء.
المطلب الثالث: تعريف الفسخ والفرق بينه وبين الطلاق
ويشتمل على ثلاثة فروع:
الفرع الأول: تعريف الفسخ لغة:
يطلق الفسخ في اللغة على عدة معان، منها النقض والرفع والقطع والإزالة، يقال: فسخ العقد نقضه، ورفعه.
الفرع الثاني: تعريف الفسخ اصطلاحاً:
لا يخرج الاستعمال الفقهي لكلمة الفسخ عن مدلولها اللغوي عند الفقهاء وعلى ذلك عرفه ابن نجيم[6] بأنه «حل رابطة العقد»[7]، وعرفه الكاساني[8] بقوله: «فسخ العقد رفعه من الأصل وجعله كأن لم يكن»[9].
الفرع الثاني: الفرق بين الفسخ والطلاق:
يختلف الفسخ عن الطلاق من عدة وجوه:
1- من حيث الأسباب:
الطلاق لا يكون إلا في العقد الصحيح، فالصحة شرط فيه؛ لأن الطلاق أثر من آثار الزواج الصحيح، وهو من الحقوق التي يملكها الزوج على زوجته بموجب عقد صحيح.
وأما الفسخ فسببه إما حالات طارئة على العقد تمنع بقاء النكاح واستمراره، أو وجود حالات يتصل بإنشاء العقد، وهذا يعتبر نقضا للعقد من أصله بخلاف الأول فإنه لا يعتبر نقضا للعقد[10].
2- من حيث الآثـار:
أ- أن الفسخ لاينقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج، فلو فسخ مرة ثم جدد العقد ثم فسخ ثانياً وهكذا، لم تحرم عليه الحرمة الكبرى، بخلاف ما إذا طلق ثلاثا فإنها تحرم عليه حرمة كبرى ولا تحل له إلا أن تنكح زوجا غيره[11].
ب- أن في حالة الفسخ لا توارث بين الزوجين، بخلاف الطلاق، فإنهما يتوارثان مادامت في عصمته[12].
ج- أن الفرقة التي تكون طلاقا، إذا حصلت قبل الدخول، فللمرأة نصف المهر المسمى، وإن لم يكن هناك مهر مسمى استحقت المتعة، وأما الفرقة التي تكون فسخا إذا حصلت قبل الدخول فلا شيء لها من المهر[13].
المطلب الرابع: تـعـريـف الـعـقـــد
ويشتمل على فرعين:
الفرع الأول: تعريف العقد لغـةً:
العقد في اللغة يطلق على عدة معان، ومنها: الشد والربط والإحكام والتوثيق والعهد[14].
الفرع الثاني: تعريف العقد اصطلاحاً:
«إرتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محله»[15].
المطلب الخامس: تـعــريـف الـنـكاح
ويشتمل على فرعين:
الفرع الأول: تعريف النكاح لغة:
النكاح في اللغة الضم والجمع والوطء والتداخل[16]، قال الأزهري: «أصل النكاح في كلام العرب الوطء وقيل للتزوج النكاح؛ لأنه سبب للوطء المباح»[17].
الفرع الثاني: تعريف النكاح اصطلاحاً:
عرفه الحنفية بأنه: «عقد يرد على تمليك منفعة البضع قصداً»[18]، وعُرِّف عندهم أيضاً بأنه: «هو عقد وضع لتملك المتعة بالأنثى قصداً»[19]، وقولهم «قصداً» أرادوا به التحرز من شراء الأمة، فإنه وإن أفاد تملك المتعة، ولكنه ليس بالنكاح؛ لأن إفادته ملك المتعة جاء تبعاً لا قصداً، إذ المقصود منه ملك الرقبة[20].
ولغير الحنفية أيضاً عبارات متعددة في تعريف النكاح وهي قريبة من تعريف الحنفية ومنها:
تعريف الشافعية أنه: «عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمته»[21].
وتعريف الحنابلة: «عقد يعتبر فيه لفظ إنكاح أوتزويج»[22].
وهذه التعريفات متقاربة المعاني وإن اختلفت في الألفاظ.
المبحث الأول: مشروعية فسخ عقد النكاح بالعيب
إن عقد النكاح من عقود المعاوضات، ومن شروط لزوم عقود المعاوضات خلو المعقود عليه من العيوب، فهل يشترط هذا الشرط كذلك في عقد النكاح؟ وإذا كان أحد الزوجين فيه عيباً فهل يحق للآخر أن يطالب بفسخ العقد، أو أن هذا الحق لا يثبت في عقد النكاح؟
وإذا قلنا بثبوت هذا الحق في عقد النكاح فهل يثبت في حق الزوجين أو يثبت ذلك في حق الزوجة فقط دون الزوج لما يملك من حق الطلاق؟ وهذا السؤالان يشكلان مطلبين في هذا المبحث، وهما:
المطلب الأول: الخلاف في مشروعية فسخ عقد النكاح بالعيب.
المطلب الثاني: الخلاف في ثبوت ذلك في حق الزوج.
المطللب الأول: الخلاف في مشروعية فسخ عقد النكاح بالعيوب
لأهل العلم في مشروعية فسخ عقد النكاح بالعيوب قولان:
القول الأول: جواز فسخ عقد النكاح بالعيوب، وإلى هذا ذهب علماء المذاهب الأربع، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابنه[23]، وعثمان بن عفان، وعبدالله بن مسعود[24]، وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهو قول جابر[25] بن زيد ، وإسحاق[26]، وغيرهم من العلماء[27].
ثم إن القائلين بهذا القول اختلفوا في تفاصيل ذلك وفي تعيين العيوب التي يفسخ بها عقد النكاح، وستأتي تفاصيل ذلك في المباحث والمطالب القادمة بإذن الله تعالى.
القول الثاني: عدم جواز فسخ عقد النكاح بالعيب مطلقا إذا كان النكاح قد تم بعقد صحيح، وإلى هذا ذهب الظاهرية، وهو منقول عن النخعي[28]، والثوري[29]، وهو ظاهر قول الشوكاني[30] من المتأخرين[31].
قال ابن حزم[32] -رحمه الله تعالى-: «ومن تزوج امرأة فلم يقدر على وطئها مرة أو مرارا أو لم يطأها قط، فلا يجوز للحاكم ولا غيره أن يفرق بينهما أصلا، ولا أن يؤجل له أجلا وهي امرأته إن شاء طلق وإن شاء أمسك»[33].
الأدلـة:
استدل الجمهور لقولهم بأدلة من الكتاب والسنة والأثر والمعقول:
أ- من الكتاب:
قول الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[34].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر بإمساك الزوجة بمعروف أو تركها وطلاقها بإحسان، فاستبقاء الزوجة على قيد عقد النكاح مع تضررها بالعيوب الموجودة لدى الزوج التي لا تتحقق معها مقاصد النكاح ليس من الإمساك بالمعروف، فتعين التسريح بالإحسان إذا فعل الزوج ذلك، وإذا لم يفعل فيقوم القاضي مقامه في ذلك[35].
ب- من السنـة:
1- ما رواه الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله r تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها ووضع ثوبه وقعد على الفراش فأبصر بكشحها بياضا فانحاز عن الفراش، ثم قال: «خذي عليك ثيابك، ولم يأخذ مما آتاها شيئا»، وفي رواية: «ألحقي بأهلك»، وفي رواية أخرى: فلما أدخلت رأى بكشحها وضحا فردها إلى أهلها، وقال: «دلستم علي»[36].
وجه الاستدلال: أن فسخ عقد النكاح بالعيب مشروع؛ لأن النبي r ردها للعيب، وهو البياض الذي كان في جنبها[37].
يتبع