الثوابت.. بين التضخيم والتحجيم
الكاتب: فارس بن محمد الكثيري.
موضوع الثوابت هو حديث الزمن المتجدد، فما من خلاف يقوم أو قضية تُثار إلا ويكون موضوع الثوابت حاضراً. والإشكال الكبير أن المختلفين يتذرعون بتلك الثوابت حجة لهم. وتجد هذه الكلمة «الثوابت» منتشرة في كل ميدان، في الصحف والمجلات والقنوات والمنتديات، ومع انتشارها وظهورها إلا أن التقصير جلي وواضح في ضبط مفهوم تلك الكلمة ونطاقها ورسم حدودها ومعالمها.
وفي هذه المقالة أكتب شيئاً عن هذا الموضوع «الثوابت» من خلال تلك العناصر الثلاثة:
مقدمة.
نطاق الثوابت.
الخارمون للثوابت.
مقدمة
إن من خصائص هذا الدين بناءه على أساس متين وواضح، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]. وشجرة الإسلام نمت ونبتت على أصل طيب ثابت، فلا تهزها ريح التفرّق ولا تغيّرها عوامل الفساد. وقيمة وجود تصوّر لثبات هذا الدين بمقوماته وقيمه، هي "ضبط الحركة البشرية، والتطورات الحيوية، فلا تمضي شاردة على غير هدى -كما وقع في الحياة الأوروبية عندما أفلتت من عروة العقيدة، فانتهت إلى تلك النهاية البائسة-. وقيمته هي وجود الميزان الثابت الذي يرجع إليه الإنسان بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجدّ له في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات، فيزنها بهذا الميزان الثابت ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب، ومن ثم يظل دائماً في الدائرة المأمونة، لا يشرد إلى التيه، الذي لا دليل فيه من نجم ثابت، ولا من معالم هادية في الطريق" [1].
والثبات على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة منّة عظيمة يمنّ بها الله تعالى على عباده المؤمنين، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
"فيثبّتهم الله في الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها" [2]. وكيف يستطيع المؤمن أن يثبت دون ثوابت يحيا بها وعليها، وعلى أي شيء يكون الثبات إذا لم يكن ثمة أصول وقواعد ينطلق منها المسلم في حياته.
فمن خصائص الفكر الإسلامي ثبات الشريعة التي يقوم عليها، "فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نَسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها... فلا زوال لها ولا تبدّل، ولو فُرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك" [3].
وهي -أي الشريعة الإسلامية- مع كونها تقوم على أساس ثابت، فهي صالحة لكل زمان ومكان "وصلاحية الأحكام الشرعية هي نتاج التفاعل التشريعي للمعايير والقواعد الشرعية الثابتة في ظل الظروف المتجددة في الخلق زماناً ومكاناً" [4].
وقد ذكر ابن عاشور أن هذه الصلوحية تحتمل أن تتصوّر بكيفيّتين، هما:
الأولى: أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال، بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.
الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكيل وَفق أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر [5].
ثم ذكر أنه "لا يجدر بحال أن يكون معنى صلوحية الشريعة للبشر أن الناس يُحملون على اتباع أحوال أمة خاصة مثل أحوال العرب في زمان التشريع، ولا على اتباع تفريعات الأحكام وجزئيات الأقضية المُراعى فيها صلاح خاص لمن كان التشريع بين ظهرانيهم، سواء لاءم ذلك أحوال بقية الأمم والعصور أم لم يلائم... فتعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملة على حِكم ومصالح، صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد. ولذلك كانت أصول التشريع تتجنب التفريع والتحديد" [6].
ومما يميز الفكر الإسلامي توازنه بين الثبات والصلوحية أو الثبات والمرونة، ويدل على هذا التوازن جواب النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه حين سأله: إنك تبعثني في أمر أفأكون فيه كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب» [7].
ومعرفة الثابت في الشريعة الإسلامية والحفاظ عليه، هو صيانة للأمة من التفرق والاختلاف، قال ابن تيمية: "فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجُمل الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً"، إلى أن قال: "والواجب أمر العامة بالجُمل الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفاصيل الذي يوقع بينهم الفُرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله" [8].
ولهذا أمرنا الله جلَّ وعلا حين التنازع بالرد إلى الله والرسول، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء من الآية:59]. والأمر بالرد إلى الله والرسول دليل على أن كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أصل ثابت يُرجع إليه حين التنازع.
لذا؛ فإن تجلية ثوابت الدين هي حفظ للأمة وهويتها وقيمها في ظل تلك العولمة التي ألقت بثقلها في واقع الأمة الإسلامية وظلت تؤثر على الأفكار والعقول والمبادئ والقيم، فكان من الواجب على العلماء والمفكرين والمثقفين أن يولوا موضوع الثوابت اهتماماً بالغاً؛ حمايةً لحماها، ورسماً لحدودها، وإيضاحاً لمعالمها، حتى يدرؤوا بذلك تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين.
تعريف الثوابت ونطاقها
الثوابت هي: الأحكام الشرعية الدائمة التي لا تتغير بتغير الزمان.
والمراد بـ (الأحكام)[9]: عموم الأحكام المتضمنة نص الشارع، وكذلك الأثر المتعلق بهذا النص.
نطاق الثوابت:
وأعني بذلك معرفة مساحة الثوابت وحدودها؛ لأن معرفة ذلك "كفيل بحثّ النفوس على احترامها، وكما أن لله في كونه سنناً لا تتبدل، فإن له في شرعه ثوابت لا تتغير، ورعاية هذه الثوابت صيانة للفتوى من التخبط والاضطراب، وللبشرية من الزيغ والانحراف" [10].
وبالنظر إلى عموم الثوابت نجد أن هناك قسمين لها [11]:
الأول: الأحكام الثابتة في جميع الشرائع، وهي مما لا يَختلف حكمها باختلاف الأحوال والأزمان، ولم يجر فيها النّسخ والتبديل أبداً، فهي ثابتة قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في جميع الشرائع، وقد مَثّل على هذا النوع ابن تيمية حيث يقول: "ما يُقطع بأن الشرع لم يُبح منه شيئاً لا لضرورة ولا لغير ضرورة، كالشرك والفواحش والقول على الله بغير علم والظلم المحض، وهي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]؛ فهذه الأشياء محرمة في جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل" [12].
الثاني: الثوابت في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت أصول تلك الثوابت وبعض فروعها، داخلةً في القسم الأول، أي أنها من الثوابت في جميع الشرائع.
وهذه الثوابت هي ما عبّر عنها ابن تيمية بالشرع المُنزّل، حيث ذكر أن لفظ الشرع يقال في عرف الناس على ثلاثة معانٍ: «الشرع المنزل»، وهو "ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة، وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه، وأفضل أولياء الله أكملهم اتباعاً له.. وأما «المؤوّل»، فهو ما اجتهد فيه العلماء من الأحكام، فهذا من قلّد فيه إماماً من الأئمة ساغ ذلك له، ولا يجب على الناس التزام قول إمام معين.. وأما «الشرع المُبدّل»، فهو الأحاديث المكذوبة والتفاسير المقلوبة والبدع المضِلّة التي أُدخلت في الشرع وليست منه.. والحكم بغير ما أنزل الله، فهذا ونحوه لا يحل لأحد اتباعه..." [13].
وهي أيضاً ما عبّر عنه الشاطبي بـ «صُلْب العلم»، حيث ذكر أنّ من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من ملح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا من ملحه.
وذكر أن «صلب العلم» (القسم الأول) هو الأصل والمُعتمد، وهو ما كان قطعياً أو راجعاً إلى أصل قطعي، وأن الشريعة المباركة المحمدية مُنزّلة على هذا الوجه؛ ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وذكر أن لهذا القسم خواص ثلاث، وهي: العموم والاطراد، والثبوت من غير زوال، وكونه حاكماً لا محكوماً عليه.
القسم الثاني: وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه ما لم يكن قطعياً، ولا راجعاً إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعاً إلى قطعي، إلّا أنّه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة.
القسم الثالث: وهو ما ليس من الصلب ولا من الملح، وهو ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يرجع على أصله أو على غيره بالإبطال، ثم ذكر أنّ هذا القسم ليس بعلم، لأنه يرجع على أصله بالإبطال، فهو غير ثابت، ولا حاكم، ولا مطرد أيضاً [14].
وما عناه ابن تيمية والشاطبي بالقسم الأول نجد أنه هي الثوابت، وأما القسم الثاني فيقصد به ما يسوغ فيه الاجتهاد، ولذلك نجد أن كثيراً من المتقدمين والمتأخرين قد قسّموا الأحكام الشرعية إلى قسمين: قسم لا يسوغ فيه الاجتهاد، وقسم يسوغ فيه الاجتهاد، يقول الشيرازي [15]: "وأما الشرعية فضربان: ضرب يسوغ فيه الاجتهاد، وضرب لا يسوغ فيه الاجتهاد، فأما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فعلى ضربين:
أحدهما: ما عُلم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورةً، كالصلوات المفروضة والزكوات الواجبة وتحريم الزنى واللواط وشرب الخمر وغير ذلك.
والثاني: ما لم يُعلم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة، كالأحكام التي تثبت بإجماع الصحابة وفقهاء الأمصار، لكنها لم تعلم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة. وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد فهو المسائل التي اختلفَ فيها فقهاء الأمصار على قولين وأكثر" [16].
ولذا يعدون من شروط تسويغ الاجتهاد والاختلاف: أن لا يكون القول مخالفاً لدليل ثابت واضح القطعية في دلالته، كالنصوص الثابتة القطعية الواضحة في قطعيتها [17].
فالثوابت إذاً هي الشرع المنزل، وهي صلب العلم، ولا يسوغ فيها الاجتهاد، وقد اختلفت أيضاً أساليب المتأخرين في عدّها وتحديدها، وإن كانوا يتفقون في الجملة على مضمونها ونطاقها، يقول الصاوي: "ومجال هذه الثوابت إنما يكون في كليات الشريعة، وأغلب مسائل الاعتقاد، وأصول الفرائض، وأصول المحرمات، وأصول الفضائل والأخلاق، وأبرز ميادينها العقائد والعبادات والأخلاق وأصول المعاملات" [18].
ويذكر الخادمي أن الثوابت تشمل: "جملة القواطع المضمونية، والتي هي العقائد والعبادات والمقدرات وأصول المعاملات والفضائل وكيفيات بعض المعاملات. وتشمل كذلك القواطع المنهجية، وذلك على نحو الجمع بين الكليات والجزئيات والنظرة الشمولية ومراعاة التدرج والأولويات في معالجة الأمور، وغير ذلك" [19]. وقد جعل أيضاً الوسائل نوعين: الوسائل الثابتة والوسائل المتغيرة، ويمثل على الوسائل الثابتة باشتراط الطهارة والنية، وستر العورة، واشتراط النصاب وحولان الحول [20].
ويمكن إجمال نطاق الثوابت وحدودها على النحو التالي [21]:
أولاً: النصوص الشرعية القطعية [22]: فهذه ثابتة بوعد الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فالنص الشرعي إما أن يكون قطعياً، وإما أن يكون ظنياً، "فإن كان قطعياً فلا إشكال في اعتباره، كأدلة وجوب الطهارة من الحدث، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتماع الكلمة، والعدل، وأشباه ذلك. وإن كان ظنياً فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاً، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله..." [23]. وكذلك الظني الراجع إلى أصل قطعي إعماله أيضاً ظاهر، وعليه عامة أخبار الآحاد، فإنها بيان للكتاب، لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل من الآية:44].
ومثال ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى، والصلاة والحج، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب... إلخ [24]. بل جعل بعضهم قطعية الدليل وظنيته ضابطاً للتفريق بين الأصول والفروع، وأن ما دل عليه دليل قطعي فهو أمر ثابت راسخ بخلاف ما دل عليه دليل ظني، وتكون الأمور الراسخة أصولاً وتكون الأمور المظنونة فروعاً [25].
ويدخل في هذا القسم ما دلت عليه النصوص من جملة القضايا والتصورات التي يجب أن يؤمن بها الإنسان على سبيل القطع والتسليم، ومثالها الإيمان بالله تعالى، وبجميع أسمائه وصفاته وأفعاله، والتصديق بجميع الرسل والأنبياء، وكتبهم ورسالاتهم، والإيمان بالبعث والجزاء، وغير ذلك من مسلّمات العقيدة المبسوطة في النصوص الصحيحة.
ثانياً: الإجماع القطعي: فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبداً» [26].
والإجماع القطعي قسمان [27]:
الأول: الذي يُعلم وقوعه من الأمة ضرورة، وهو ما كان من قبيل نقل العامة عن العامة.
الثاني: الإجماع السكوتي الذي لا يسوغ خلافه، وهو البيّن القطعية، لظهور قرائنه الدالة على القطع.
وقد نص ابن تيمية على أن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصاً عليه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، وأنه لا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، لكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، وأن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة [28].
فما اجتمع عليه علماء الأمة فإنه يعتبر من الثوابت [29]، وتحرم مخالفته، وهذا مذهب الأئمة الأعلام، قال الفتوحي [30]: "وَتَحرمُ مُخَالَفَتُه أَي مُخَالَفَة الإجْماعِ الواقِع عَن اجتِهَاد أَو قِيَاسٍ عِندَ الأَئِمةِ الأَربَعَةِ وغَيرِهم".
وبالجملة، فإن القرآن والسنة هما أصل الثوابت ومردها، والإجماع وسيلة ثابتة تابعة لهما، قال الجويني [31]: "فالمتبع في حق المتعبدين الشريعة، ومستندها القرآن، ثم الإيضاح من رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيان، ثم الإجماع المنعقد من حملة الشريعة من أهل الثقة والإيمان؛ فهذه القواعد، وما عداها من مستمسكات الدين كالفروع والأفنان" [32].
وعلى التفصيل نقول إن نطاق الثوابت يشمل:
أولاً: الأحكام والمقدرات الثابتة، وهذه قسمان:
الأول: أصول الدين وقواعده ومقاصده؛ كمسائل الاعتقاد، وكليات الشريعة، والقيم والمبادئ الأخلاقية.
الثاني: ما شرع من الأحكام لعلل ثابتة؛ كأحكام العبادات، وأصول المحرمات، والمقدرات الشرعية.
فالأول أصول الدين وقواعده ومقاصده، ويدخل في هذا النوع أربعة أمور:
أ - مسائل الاعتقاد والإيمان: فهذا بابه الإخبار، وتغيير خبر الشارع تكذيب له، فكل ما جاءت به النصوص الصحيحة الصريحة في باب الاعتقاد أو في باب الإيمان، هو حق ثابت لا شك فيه.
ب - أدلة الأحكام، ودلالات الألفاظ الشرعية، والأحكام الوضعية: كأسباب الأحكام، وشروطها، وموانعها، فالأصل في الأحكام الوضعية الثبات والدوام؛ لأنها من باب الأخبار كذلك، لكن قد يرد التغيّر لا على ذواتها، بل على سبيل تنزيلها على المكلفين، وذلك بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
ج - كليات الفقه وقواعده، ومقاصد الشريعة القطعية: فأصول الفقه في الدين قطعية، والدليل على ذلك رجوعها إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي [33]، و"كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائماً لتصرفات الشرع مأخوذاً من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه، إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به" [34].
وأما مقاصد الشريعة فهي مرتبتان: قطعية وظنية - كما ذكر ابن عاشور -، وقد مثّل للمقاصد القطعية بما يؤخذ من متكرر القرآن تكرراً ينفي احتمال قصد المجاز والمبالغة، نحو كون مقصد الشارع التيسير.
ثم ذكر الأدلة على هذا المقصد نحو قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة من الآية:185]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ} [الحج من الآية:78]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم مُيسّرين» [35].. فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول: إن من مقاصد الشريعة التيسير؛ لأن الأدلة المستقرأة في ذلك كله عمومات متكررة، وكلها قطعية النسبة إلى الشارع، لأنها من القرآن، وهو قطعي المتن [36].
ومن ذلك المحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والمال، والعقل، والعرض، "فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة عليها، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد" [37].
ثم إن الأساس الضروري لنشوء علم المقاصد هو تعليل الأحكام الشرعية، ودراسة أسرار ومعاني وعلل الأحكام[38]، والعلة المنصوص عليها ثابتة لا تتبدل.
وقد جعل بعض المتأخرين العلل الشرعية ضابط الثبات في تطبيق الأحكام في الوقائع، وذلك أن الشارع قد اطردت عادته بإجراء الأحكام محالة على العلل الشرعية مطلقاً [39].
د - القيم والمبادئ الأخلاقية: فإن القيم والمبادئ الأخلاقية في الإسلام لا تتغير ولا تتبدل، "والمقصود بالثبات في الأخلاق هو استمرار الفضيلة الخلقية المستحسنة، والتسليم بها مثالاً للسلوك المحمود، فالصدق في المعاملة، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد؛ كلها فضائل خلقية ثابتة مستقرة ومحمودة في كل زمان ومع كل أحد، لما لها من الآثار الخيرة والثمار الكريمة" [40].
وخصيصة الثبات في الأخلاق من أبرز الخصائص وأهمها؛ لأن القول بثبات الأخلاق يجعل طريق الإنسان واضحاً مستقيماً، ويعني أيضاً أن هناك أخلاقاً رفيعة ينبغي أن ينطلق إليها الفرد، ويسمو إليها المجتمع، ثم إن ذلك يضمن أيضاً وجود مبادئ مستقرة يحكم بها على سلوك الأفراد ومواقف المجتمعات، وحين تغيب هذه الخصيصة فإن المعيار يرتد للحكم على الأفعال بالحسن والقبح إلى اللذة والمنفعة والنسبية، وإلى الأهواء والرغبات، فما هو خير اليوم قد يكون شراً في الغد، وما هو حسن عند فرد قد يكون سيئاً عند آخر، وحين تُفتقد المعايير الخلقية الثابتة يفقد الناس كل باعث على الارتقاء بأخلاقهم، والسمو بأنفسهم، وتشيع الفوضى، ويتسلط الأقوياء على الضعفاء، فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم [41].
ومع كون القيم الإسلامية ثابتة لا تتغيّر، إلّا أنها صالحة لكل زمان ومكان، وتتسم بالمرونة في وسائلها وتطبيقاتها، من دون أن تفقد جوهرها وأصالتها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٩٠﴾ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّـهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّـهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل:90-91].
يتبع