أثر اتساع النطاق العمراني بمكة المكرمة في فتوى قصر المكي للصلاة بمنى (1)
د. عبد الله بن حمد الغطيمل
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، لا إله غيره، ولا معبود بحق سواه، شرع لنا الإسلام، ورضيه لنا ديناًن وأكمله فتمت نعمته علينا، نحمده حمداً يوازي نعمه، ونشكره شكراً يكافئ آلاءه، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، بشر وأنذر، وبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأزال الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين وسلم تسليماً كثيراً ثم أما بعد:
إن أهمية البحث في مسألة – ما – تكمن في حفظها لأصل من أصول الشريعة وليس ثمة أصل بعد الشهادتين، أهم من الصلاة فهي عماد الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام العناية بفقهها من أوجب الواجبات، والسعي إلى تعلمه من أنبل الغايات، مسائلها دقها وجلها قد درسها أسلافنا – رحمهم الله – لا ريب في ذلك فقرروا وحرروا ودونوا، فأراحوا من بعدهم، حتى يقول القائل: ما ترك الأول للآخر، ومما تناولوا بالتقرير والتحرير مسائل القصر، ومنها قصر المكي في منى، والذي قام بتحرير هذه المسألة، هو من لا يرى أن السفر محدود بزمن أو مسافة، بل يرجع ذلك إلى العرف، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقبله ابن قدامة المقدسي رحمه الله، ونسبه شيخ الإسلام إلى طائفة من أصحاب أحمد والشافعي(1)، لكن من حرر وقرر أن المكي يقصر في منى، بناه على مدرك كان موجوداً في عصره، وبقي هذا الحكم مسطوراً في كتابه، إلى عصرنا هذا، وبين عصرنا وعصره فيافي قفار، ومهامه فيحاء، تغيرت فيه أحوال البلاد في عصرنا عن عصره، فاتسعت رقعتها، واتصلت قراها، فاختلف مدرك الحكم المسطور، وما زال الخلف ينقل عن السلف رحمهم الله على الرغم من تغير المدرك، ولو سبرنا كلام الفقهاء في ذلك وتأملناه وأمعنا فيه النظر لوجدنا فيه الاحتياط لما كان.
ولقد راودني بحث هذه المسألة وتحرير القول فيها سنين عديدة، ويشتد الداعي عندما أشارك في أعمال التوعية الإسلامية في الحج، فيكثر السؤال عن هذه المسألة من العامة، ويكثر النقاش فيها بين طلبة العلم، وهذا مؤشر قوي على أهمية هذه المسألة، وأنها بحاجة إلى إعادة نظر وتحرير فاستخرت الله واستعنت به وحده على بحث هذه المسألة فجعلت أساس البحث فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بجواز قصر المكي في منى كغيره من الآفاقيين، وهذا جهدي أضعه بين يدي القارئ، إن كان قولي صواباً فمن الله وحده لا شريك له، أحمده وأشكره أنعم عليَّ بهذه النعمة، من نعم كثيرة لا تُعد ولا تحصى، وإن تكن الأخرى فمن نفسي والشيطان، أستغفر الله وأتوب إليه، والله ورسوله وشرعهما بريء منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا وقد جعلت البحث في هذه المسألة في ثماني وقفات، اتبعت في عرضي للموضوع قواعد البحث العلمي ومناهجه، من الرجوع للكتب المعتمدة، والمناقشة، والتنظير، والترجيح، كما قمت بتخريج الأحاديث الواردة، وذلك بعزوها إلى مصادرها، فإن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما، ذكرت أقوال أهل الصنعة حول الحديث صحة وضعفاً، كما قمت بجهد سيلمسه القارئ بإذن الله تعالى وذلك بقياس المسافات بين مكة ومنى، وبين منى وأول المنازل في مكة، وأثبتها بالمقاييس المعاصرة المعروفة لدى عامة الناس اليوم، كما جعلت ملحقاً لخرائط تبين تطور حدود النطاق العمراني بمكة المكرمة، وهذا يعطي القارئ بعداً أكبر في تصور الموضوع خصوصاً من ليس لديه المعرفة التامة بمكة المكرمة، ومن ثم يتمكن من تطبيق المسطور على الواقع المنظور، فتتم له المعرفة، وتحصل القناعة ويزول الإشكال بإذن الله تعالى، والله الهادي إلى سواء السبيل.
الوقفة الأولى: السبب الموجب لقصر الصلاة:
الصلاة أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، نؤديها كما شرعها لنا ربنا؛ إذ شرط القبول مع الإخلاص المتابعة، فلا يقبل الله عمل عبد حتى يكون خالصاً صواباً، وحينما شرع ربنا الصلاة أرشدنا إلى أسباب توجب التخفيف فيها، ومن التخفيفات قصر الرباعية إلى ركعتين وذلك في السفر، قال تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101).
ومعنى قوله: "ضربتم" سافترم، وقيد (إن خفتم) خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له؛ إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار(2)، ولهذا قال يعلى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"(3).
الوقفة الثانية: حد السفر المبيح للقصر:
اختلف الفقهاء في حد السفر المبيح للقصر على قولين:
(القول الأول) اتفقت المذاهب الأربعة الحنفي، والمالكي، والشافعي والحنبلي، على جعل حد السفر يكون فاصلاً بين من يجوز له الترخص برخص السفر ومن لا يجوز له ذلك، ثم اختلفوا(4) في ماهية الحد؛ فمنهم من حده بالسير زمناً معيناً كثلاثة أيام، ومنهم من حده بمسافة معينة كثمانية وأربعين ميلاً ونحوها.
فالحنفية جعلوا الضابط مسيرة ثلاثة أيام، قالوا: سير الإبل ومشي الأقدام(5) أما جمهور الفقهاء المالكية، والشافعية والحنابلة فقد ضبطوا ذلك بالزمان والمسافة معاً.
جاء في مختصر خليل وشرحه للدردير: (أربعة برد) معمول مسافر بيان لمسافة القصر كل بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال، فهي ثمانية وأربعون مثلاً، والمشهور أن الميل ألفا ذراع، والصحيح أنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، وهي باعتبار الزمان مرحلتان أي سير يومين معتدلين، أو يوم وليلة بسير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد"(6).
وجاء في المجموع: "للشافعي – رحمه الله – سبعة نصوص في مسافة القصر، قال في موضع ثمانية وأربعون ميلاً، وفي موضع ستة وأربعون، وفي موضع أكثر من أربعين، وفي موضع أربعون، وفي موضع يومان، وفي موضع ليلتان، وفي موضع يوم وليلة، قالوا (أي من نقل عنهم النووي)، قال أصحابنا: المراد بهذه النصوص كلها شيء واحد وهي ثمانية وأربعون ميلاً هاشمية.
وحيث قال: ستة وأربعون، أراد: سوى ميل الابتداء، وميل الانتهاء وحيث قال: أكثر من أربعين، أراد: أكثر بثمانية، وحيث قال: أربعون، أراد: أربعين أموية وهي ثمانية وأربعون هاشمية، فإن أميال بني أمية أكبر من الهاشمية كل خمسة ستة، وحيث قال: يومان أي بلا ليلة، وحيث قال: ليلتان، أي بلا يوم، وحيث قال: يوم وليلة، أرادهما معاً فلا اختلاف بين نصوصه"(7).
لكن الشافعية يرون أن الأفضل أن لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام خروجاً من خلاف أبي حنيفة(8).
وجاء في المنتهى وشرحه: "(يبلغ) أي السفر (ستة عشر فرسخاً تقريباً) لا تحديداً (براً وبحراً) للعمومات (وهي) أي الستة عشر فرسخاً (يومان قاصدان) أي مسيرة يومين معتدلين بسير الأثقال ودبيب الأقدام.. (والفرسخ ثلاثة أميال هاشمية)(9).
ويظهر أثر تحديد السفر المبيح للقصر بالزمان أو بالمسافة أو بهما معاً عند المذاهب الأربعة في مسألة قصر المكي في منى، فلا يجوز له القصر عندهم وذلك لقصر المسافة بين مكة ومنى(10).
والمسافة عندهم غاية، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "ومن كان من أهل مكة فحج أتم الصلاة بمنى وعرفة، وكذلك أهل عرفة ومنى ومن قارب مكة ممن لا يكون سفره إلى عرفة مما تقصر فيه الصلاة، وسواء فيما تقصر فيه الصلاة السفر المتعب والمتراخي، والخوف في السفر بطلب أو هرب والأمن؛ لأن القصر إنما هو في غاية لا في تعب ولا في رفاهية"(11).
القول الثاني: لبعض المحققين من العلماء كابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن المعاصرين الشيخ الشنقيطي رحمه الله، فهؤلاء قد ذهبوا إلى أن السفر المبيح لا يحد بزمان ولا مسافة، حيث لم يحدد ذلك كتاب ولا سنة وكل ما جاء في الكتاب والسنة مطلقاً من غير تحديد فالمرجع فيه إلى العرف، يقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله: "ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة؛ لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف... وإذا لم تثبت أقوالهم، امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه من وجهين:
(أحدهما) أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي رويناها، ولظاهر القرآن؛ لأن ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض لقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (النساء: من الآية101)، وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية(12)، فيبقى ظاهر الآية متناولاً كل ضرب في الأرض.
(والثاني) أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا أصل يقاس عليه، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه"(13).
وقد أيد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما ذهب إليه ابن قدامة فقال: : لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهاً، وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتاً بنص، ولا إجماع، ولا قياس، وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير، ويجعلون ذلك حداً للسفر الطويل، ومنهم من لا يسمي سفراً إلا ما بلغ هذا الحد وما دون ذلك لا يسميه سفراً"(14).
وقال في موضع آخر: "الفرق بين السفر الطويل والقصير: فيقال: هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقاً)(15)، ثم سرد أمثلة من الكتاب والسنة على ذلك وقال: فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير، فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقاً لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله"(16).
وقال في موضع آخر: "فالتجديد بالأميال والفراسخ، يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض، وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس، ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليداً وليس هو مما يقطع به، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً، فكيف يقدر الشارع لأمته حداً لم يجر له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس، فلا بد أن يكون مقدار السفر معلوماً علماً عاماً، وذرع الأرض مما لا يمكن، بل هو إما متعذر أو متعسر؛ لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح الطريق فإنما يمسحون على خط مستو، أو خطوط منحنية انحناءً مضبوطاً، ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق، وقد يسلكون غيرها، وقد يكون في المسافة صعود، وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته، ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته، والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض"(17) إلى أن قال: "وإذا كان كذلك فنقول: كل اسم ليس له حد في اللغة، ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفراً في عرف الناس، فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم"(18).
ويقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: "والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، فكل ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه؛ لأنه ظاهر النصوص، ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح"(19).
وبناء على هذا الرأي الذي أخذ به جماعة من العلماء، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أفتى شيخ الإسلام بأن المكي يقصر الصلاة في منى، ولعل العرف الذي جعله هو المرجع في تحديد السفر المبيح، يقضي في عصره بأن من خرج من مكة إلى منى عد مسافراً، خصوصاً إذا علمنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عاش في النصف الثاني من القرن السابع وأوائل القرن الثامن أي ما بين عام (661هـ) وعام (728هـ)، وهذا العصر لا يتجاوز النطاق العمراني لمكة المكرمة منطقة الحرم وكان بين عامر مكة ومنى، جبال وأودية وشعاب وهو ما سنوضحه في وقفة تالية بإذن الله تعالى.
الوقفة الثالثة: ذكر من قال بأن المكي يقصر الصلاة في منى وأدلته:
ذكرنا أن المالكية قد اتفقوا مع بقية المذاهب على تحديد السفر المبيح للقصر بمسافة معينة، إلا أن المالكية قد استثنوا المتلبس بالنسك، ولو كان دون مسافة القصر التي حددوها، وذلك كأهل مكة وعرفة ومزدلفة ومنى، فالحاج من هذه الأماكن يجوز له القصر في حال خروجه من بلده وفي حال رجوعه منه.
واشترط الدردير في جواز القصر في رجوعه إلى بلده: أن يكون قد بقي عليه شيء من النسك في غير بلده، لكن تعقبه البناني وبين أن هذا خلاف المعتمد، وأن الشارح تبع فيه غيره، وأن الصواب إبقاء المصنف على إطلاقه نقل ذلك عنه الدسوقي في حاشيته(20)، جاء في مختصر خليل وشرحه للدردير: "(إلا كمكي) ومنوي ومزدلفي، ومحصبي فإنه يسن له القصر (في خروجه) من محله (لعرفة) للحج (و) وفي (رجوعه) لبلده حيث بقي عليه عمل من النسك بغيرها وإلا أتم حال رجوعه كمنوي راجع من مكة بعد الإفاضة لمنى؛ لأن ما عليه من الرمي إنما هو في محله، وفهم من قوله في خروجه ورجوعه أن كلاً من أهل هذه الأمكنة يتم مكانه، ولو كان يعمل بغيره عملاً، كمكي رجع يوم النحر لمكة للإفاضة، ويقصر بغيره، ولم يعلم من كلامه حكم العرفي لقوله: (في خروجه لعرفة)، والمعتمد أنه كالمكي، فيقصر في خروجه منها للنسك من إفاضة وغيرها ويتم بها"(21).
قال الدسوقي ناقلاً تعقيب البناني على الدردير: "وما ذكر الشارح من التقييد تبعاً لغيره، ففيه نظر، بل يقصر في رجوعه لبلده مطلقاً، وإن لم يبق عليه شيء من النسك لا بها ولا بغيرها على ما رجع إليه مالك كما في (ح)(22) فالصواب إبقاء المصنف على إطلاقه.ا.هـ(23). وعلى هذا فكل من المحصبي، والمزدلفي يقصر في حال رجوعه من منى لبلده"(24).
وخلاصة القول: إن المالكية قد انفردوا بالقول بأن المكي يقصر في منى، وعرفة ومزدلقة مع قصر المسافة إذا كان متلبساً بالحج ليس لكونه مسافراً بل استناناً بفعل الرسول صلى ال
وأصحابه في حجة الوداع يقول الدريدير: "ثم سن القصر لمن ذكر مع قصر المسافة للسنة"(25).
وقد اتفق شيخ الإسلام ابن تيمية مع المالكية في جواز قصر المكي الصلاة بمنى لكن خالفهم في السبب الموجب للقصر فقرر أن سبب قصرهم هو السفر، ولم يرتض ما ذكر المالكية فقال: "وأما القصر فقرر أن سبب قصرهم هو السفر، ولم يرتض ما ذكر المالكية فقال: "وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر، ولا تعلق له بالنسك، ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنهم بسفر"(26)، قال في موضع آخر: "ولهذا لم يكونوا يقصرون بمكة وكانوا محرمين، والقصر معلق بالسفر وجوداً وعدماً، فلا يصلي ركعتين إلا مسافر"(27).
ولا يفهم من قول شيخ الإسلام هذا أن المالكية هم الذين جعلوا قصر الصلاة بالمشاعر نسكاً من مناسك الحج، بل لم أقف على من قال إنه من المناسك، وقد أشار إلى هذا القول غير شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى حيث قال: "وبعضهم يقول: القصر في مزدلفة، ومنى وعرفات من مناسك الحج والله تعالى أعلم"(28).
لكن ظاهر نصوصهم أن قصر المكي في منى، وكذلك العرفي، والمزدلفي، والمنوي والمحصبي في غير محله إنما جاز مع قصر المسافة استناناً، فالعلة عندهم المتابعة فقط، ولا دخل له بالنسك؛ إذ لو كان القصر في المشاعر عند المالكية نسكاً لما قالوا: (يقصر إذا خرج من محله وإذا رجع إليه، ويتم فيه)(29)، بل كانوا يقولون بقصر مطلقاً من حين تلبس بالنسك حتى يفرغ من أعمال الحج وهم لا يقولوا بذلك.
والذي أراه أنه يلزم المالكية بناءً على قولهم: "يقصر استناناً" أن لا يستثنوا أبداً فلا يقولون: يتم في بلده؛ لأنه إن كان حجتهم فعل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فهو حجة عليهم، حيث لم ينقل أن أهل عرفة أتموا بعرفة، وكذلك أهل مزدلفة ومنى، وغيرها، وهو ما استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية على جواز قصر المكي في منى ومزدلفة وعرفة وهو ما نذكره مفصلاً على النحو التالي:
استدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بما يأتي:
أولاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في حجة الوداع وقصر وكان معه أهل مكة وغيرهم، ولم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، كما قال لهم وهو في مكة عام الفتح(30).
ثانياً: من المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعاً، وفعلوا ذلك بعرفة، ومزدلفة، وبمنى أيام منى، لكان مما توفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة، بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوا قصراً لنقل ذلك فكيف إذا أتموا الظهر أربعاً دون سائر المسلمين؟
ثالثاً: أنهم إذا أخذوا في إتمام الظهر والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرع في العصر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام، وإما أن يفوتهم معه بعض العصر بل أكثرها، فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات؟ وهذا حجة على كل أحد(31).
يتبع