التجديد الأصولي: نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه
هذا الكتاب يحسن القول أنّه خلاصة أصولية عصريّة قدّمها فريق جماعي من خبراء وأكاديمي بلاد المغرب العربي بإشراف (د. أحمد الريسوني)، ومراجعة وتصحيح (أ. الناجي لمين) لمعظم فصول الكتاب، وهو من إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي ويقع الكتاب في قرابة (850) صفحة.
يمتاز الكتاب بعرضٍ مختصر مُسلسلٍ لأبرز القضايا الأصولية التي يُنّظّرُ لها علماء أصول الفقه.
كما أنّ مباحثه قام بكتابتها أهل كفاءة وخبرة بعلم الأصول، وبلغة سهلة سلسة مُيسرة، يستطيع أن يفهمها طالب العلم المتخصص، ويستفيد منها العالِم، وتُعطي إضاءات مسلكيّة منهجيّة لكل مُثقف يرتجي فهم العقلية الأصولية بمنهجية يغلب عليها الاعتدال والتوسط دون تعصُّب لمنهج أصولي ضدّ آخر.
وقد عُني أصحاب الكتاب بذكر عدد من القضايا كخطوة ارتيادية للتجديد الأصولي؛ وبعث الهمة لدى عموم المتخصصين في القراءات الشرعية بالاهتمام بهذا العلم إذ له دوره في الأثر القيادي لمنهجية التفكير والبحث في العلوم الشرعية، وللانتقال من القول للفعل أو من المناقشة النظرية إلى الممارسة الفعلية على حدّ وصف الباحثين.
وهُم بهذا يحاولون تقديم ما بإمكانهم تقديمه من محاولات لتجديد وإحياء وإعادة قضايا ذات بُعدٍ أصولي ربّما كانت الحاجة لها أكثر مسيساً من قضايا أصولية تُذكر وليس من ورائها طائل عمل، حتى أنهم ذكروا أنّ علم أصول الفقه مع أنّه وقت الجمود والركود لم يخل من مبادرات تجديدية لهذا العلم كما نقلوا عن الزركشي رغبته في زيادة مباحث في علم الأصول.
وقد قسّم الباحثون كتابهم إلى عدّة أبواب، وداخل كلّ باب بعض الفصول.
فالباب الأول تحدثوا فيه عن مصادر الأحكام الشرعية، وهي المصادر التي عبر عنها الفقهاء والأصوليون باسم الأدلة الشرعية، ويوجد منها مصدران أصليان وهما: الكتاب والسنة، ثم مصادر تبعية وهي: الاجماع والقياس والمصلحة .
وارتأوا أن سائر ما دأب عليه الأصوليون على اعتباره أدلة تبعية أو مختلفاً فيها كشرع من قبلنا وقول الصحابي وعمل أهل المدينة والاستحسان والعرف وسد الذرائع والاستقراء والاستصحاب، أنّ بعضها مسائل ومباحث تدخل ضمن الأصول الخمسة السابقة أصلية كانت أو تبعية.
فشرع من قبلنا متعلق بالآيات والأحاديث فالنظر إليه من مباحث القرآن والسنة.
وقول الصحابي وعمل أهل المدينة من لواحق السنة وتوابعها لأن من يقول بهما إنما مستنده وملحظه أنهما متضمنان للسنة ودالات عليها ففي مباحث السنة .
وبعضها مجرد قواعد أصولية أو فقهية كالعرف وسد الذرائع والاستحسان.
فالاستحسان شكل من أشكال المصلحة أو مراعاة العرف ورفع الحرج، وتارة يكون من أشكال الترجيح بين الأقيسة، أو بينها وبين بعض الأخبار والآثار بمعنى أنه تارة يكون قاعدة استصلاحية وتارة يكون قاعدة ترجيحية.
وأما سد الذرائع فهي قاعدة أصولية فقهية كبيرة لكنها مندرجة اندراجاً تاماً في أصل المصلحة وكذلك العرف.
وأما الاستقراء فهو مسلك من مسالك البحث والتقصي والاستنتاج
والاستصحاب كما يدل عليه اسمه معناه استصحاب شيء معلوم مقرر سلفاً والتمسك به ما دام لم يثبت تغييره
يقول الباحثون أنّهم بهذا لا يبقى أمامهم سوى خمسة مصادر للأحكام الشرعية اثنان منها أصلية وهي المنشئة للأحكام والمتضمنة لها ابتداء واستقلالاً، وثلاثة تبعية وهي كاشفة ومثبتة للأحكام لا منشئة لها.
نشأة علم أصول الفقه وتطوره
في هذا الفصل استعرض ( د. عبد السلام بلاجي ) تاريخ علم أصول الفقه من ولادته حتى اليوم، وكيفية استنباط الصحابة للأحكام للنوازل والوقائع بناء على قواعد أصولية لم تكن مسطرة لهم بل كانت كامنة في نفوسهم، وأنّ عصر الخلافة كان كثير من اجتهاد الصحابة والتابعين جماعياً تشاورياً.
ثم بدأت الأمور تتجه لاتجاهين اتجاه أهل الرأي وأهل الحديث.
فأهل الحديث هم فقهاء الحجاز، وإذا لم يعرفوا نصاً في مسألة سكتوا ولم يُفتوا وكان رأسهم سعيد بن المسيب.
وأمّا فقهاء أهل الرأي فهم غالب فقهاء أهل الكوفة واشتهر عنهم القول بأن أحكام الشريعة معقولة المعنى ومعللة، ولذلك أكثروا من القياس، وإمامهم الصحابي الجليل ابن مسعود.
ثم جرت توجهات كلامية ومذهبية في الأصول فتحدث عنها وعن التداخل بين علم الأصول وعلم الكلام، وكان للمعتزلة قصب السبق في ذلك حيث ذكروا جملاً مدونة في أصول الفقه، وبنوا مسائله على أصول المعت، وتؤكد بحوث معاصرة أن بداية القرن الرابع الهجري شهدت توطد العلاقة بين علمي الأصول والكلام، بواسطة إسهامات أبي الحسن الأشعري وكبار المعتزلة أمثال أبي علي وأبي هاشم الجبائيين.
وذكر المؤلف أنّ من آثار هذه المباحث على أصول الفقه، مجانبة المنهج للعملي، حيث رصد الإمام الشاطبي الآثار السلبية للمسائل التي لا يترتب عليها عمل وذكر أن ” تتبع النظر في كل شيء وتطلب علمه من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم ” غير أن مؤلف الكتاب يرى أنه وإن وافق الشاطبي في هذه التوجه العملي؛ فإنه لا يُجاروه في ذمه تتبع النظر في كل شيء بهذا التعميم؛ لأن الإسلام يدعو للنظر المفيد في كل شيء.
ومن آثار هذا التوجه نقل الخلاف الكلامي إلى أصول الفقه، وكثرة الافتراضات الوهمية، والترف الفكري والجدل العقيم.
وخلافاً لما يُظن في جميع المعتزلة فقد ذكر أن أبا الحسين البصري المتكلم المعتزلي كان ضد إقحام المباحث الكلامي في أصول الفقه، ونص في كتابه المعتمد على حذف هذه المباحث التي لا صلة لها بأصول الفقه.
ثم ولج المؤلف في كتابه للحديث عن التصنيف الأصولي للمذاهب الفقهية فكتاب (الفصول في الأصول) للجصاص كان الأبرز في التأصيل المبكر للمذهب الحنفي، ومن أوائل الكتب التي تطرقت للحديث عن حكم الأشياء قبل مجيء السمع، وشرائع من قبلنا.
وكان من أوائل الإسهامات الأصولية لأهل الظاهر كتابات ابن حزم الأندلسي كما في موسوعته الإحكام في أصول الأحكام، ومن أبرز أصوله نفي القياس، والاعتماد على المنهج الظاهري، ويحسم الخلاف في بداية المباحث ولا يبسط رأي المخالفين وحججهم بل يشير لها إشارة عابرة ثم يذكر القول الصحيح ويطيل فيه.
وقد تطرق المؤلف لجهود التجديد في علم أصول الفقه من القرن السابع فتطرق لجهد العز بن عبد السلام في عنايته البالغة بالمصالح والمفاسد.
وجهود الشاطبي حيث جعل المقاصد باباً أساسياً في علم الأصول .
وجهود الشوكاني إلى نبذ التقليد والحث على الاجتهاد فقد عاش في ظروف زمانية ومكانية شديد الجمود ولقي عسراً وعنتاً كبيراً في دعوته لنبذ التقليد.
واختتم القول أن علم الأصول شهد منذ نشأته إلى عصرنا تطورات بالغة الأهمية من حيث المضامين أو المناهج أو أسلوب العرض وهذا فيه دلالة على قدرة علم أصول الفقه على القيام بوظيفته التشريعية.
يجدر القول أنّ الباحث لو زاد مبحثه الحديث عن المباحث الأصوليّة التي كُتبت قبل ثلاثة قرون، فقد أشار إشارة لجهود الشوكاني، ولو أنّه أبرز من كتب في هذه الحِقب الزمنيّة سواء أكان ذلك على سبيل التفصيل في مسألة أصولية أو ممن كانت له إسهامات في هذا المجال وإضافات يسيرة؛ لكان ممن أعطى بحثه رونقاً خاصاً في مجال التسلسل التاريخي منذ النشأة وحتّى القرن الأخير.
وظائف علم أصول الفقه.
وهو فصل كتبه ( د. محمد عوام) وقصد الإجابة عن سؤال: لماذا علم أصول الفقه. وما الغرض منه؟
ولعلنا نُجمل الوظائف والأغراض التي ذكرها حيث بيّن أنّ منها:
1. الوظيفة التفسيرية من حيث فهم نصوص الشريعة وبيانها، فعلم الأصول يضبط قواعد الاستنباط، فهو آلة للمفسر.
2. الوظيفة الاستنباطية ولأجله كان من أبرز تعريفاته: العلم بالقواعد التي تختص بالاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
3. الوظيفة الترشيدية في علم أصول الفقه.
4. الوظيفة المنهجية التي تضبط المنهجية العقلية .
ومن هنا استحق هذا العلم أن يُصبح هو المنهج العام للعلوم الإسلامية وللتفكير الإسلامي، فله مجاله في التفكير العلمي الاستدلالي من حيث مسالك التعليل والاستقراء
وأوضح أن معالم المنج العلمي لدى الأصوليين يقوم على عدة نقاط:
1. ترتيب الأدلة .
2. استثمار المنهج الأصولي في بعض العلوم حيث ينكشف به التأثير منهجي بتوظيف علم العمران البشري عند ابن خلدون.
3. توحيد المرجعية وتضييق شقة الخلاف ، ومن ذلك ما قام به الشافعي في التقريب وتضييق الخلاف وانتهاج التوسط بين الآراء والمذاهب.
4. ضمور وظيفة التقريب وتضيق الخلاف في علم أصول الفقه بالتدريج.
القواعد المنهجية عند الأصوليين
وقد تفرّد بكتابة هذا الفصل (الأستاذ مصطفى حسنين عبد الهادي) وبيّن أنّه لا يعتني باستقصاء القواعد المنهجية في البحث الأصولي، ومراحلها التاريخية، بل الذي يعنيه تلمس المعالم المنهجية الأصيلة واستشراف الأفكار النافعة والخادمة لتجديد علم أصول الفقه، ومدّه بالمقومات المنهجية الضرورية؛ ليكون هذا العلم منهجاً يرسم للمسلمين طريقة التفكير، وخطوة في سبيل منهج معرفي شامل يضبط طريقة التصور، ويقنن عملية التفكير العلمي والاستدلال المنهجي، ليخلص إلى أنّ علم أصول الفقه بوصفه علماً منهجياً يقدم للمشتغلين بعلوم الشريعة قواعد لا غنى عنها في مختلف خطوات التفكير والنظر.
وقد بيّن أنّ هذا المنهج الأصولي في بناء التصورات وتحديد المفاهيم جاء في مقابلة المنهج الصوري المبني على التجريد والفرض الذهني؛ فإن بناء التصورات في نظرية المعرفة الأرسطية قائم على التفريق بين الصفات الذاتية المقوِّمة الداخلية في الماهية، والصفات الخارجية اللازمة.
ثم تطرق للحديث عن القواعد المنهجية في اكتساب القضايا والأحكام، والقواعد المرتبطة بخصائص الشريعة، والقواعد المتعلقة بخصائص الدليل الأصولي، وقواعد مصادر الأدلة الأصولية ومنهج الاستدلال، وقواعد ترتيب الأدلة الأصولية والترجيح بينها، وقواعد العلاقة بين الدليل والمدلول.
[ مصادر الأحكام الشرعية ]
المصدر الأول: القرآن الكريم
وكان هذا المصدر هو الفصل الأول من الكتاب، وتطرق فيه كاتبه ( د. الحسين آيت سعيد) للحديث عن المسائل التي لها صلة وثيقة باستنباط الأحكام من القرآن وما يؤدي إليها ولم يُعرج على بعض المسائل الافتراضية المولدة مثل ترجمة القرآن ، وهل الإعجاز وقع باللفظ أو بالصرفة.
وقد نبّه فيه إلى مقاصد القرآن وهي: إصلاح الاعتقاد، وتهذيب الأخلاق، والتشريع، وسياسة الأمة، والقصص وأخبار الأمم السالفة، والتعليم بما يُناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم لتلقي الشريعة ونشرها، والمواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، والإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول، وفهم مقصودة ومدلوله.
ثم تحدث عن التفسير الموضوعي وهو جمع الكلمات والآيات التي تتناول موضوعاً واحداً ليفسر بعضها بعضاً، وميزته كما يرى الباحث أنه تفسير للقرآن بالقرآن ، ويعطي صورة شاملة عن الموضوع المدروس وأجناسه وأنواعه، ويطلع القارئ على وجه جديد من إعجاز القرآن المتنوع، ويوصل هذا اللون لاستنتاج قواعد عامة تحكم هذه الجزئيات، واستنباط فقه قرآني مبني على استقراء أدلته، فالاستقصاء والاستقراء أساس اليقين الفقهي القاطع للشبه والاستدراكات والإيرادات.
ثم تطرق المؤلف للحديث عن آيات الأحكام فمنهم من اعتبرها ( 500) آية ومنهم من زاد ومنهم من نقص، وهذا الصنيع أدى إلى هيئات غير مقصودة كما يذكر الباحث، ويُمكن تلخيصها فيما يأتي:
1. الإيهام بأن ما ذكروه من الآيات هي وحدها التي تتضمن الأحكام وما سواها ليس كذلك.
2. تقليص مفهوم أحكام القرآن وقصرها على الأحكام الجزئية المباشرة.
3. التساهل في حق الأحكام التي ذكرت في الآي الأخرى التي لم يعدوها من آي الأحكام، بكونها مجرد آداب أو مباحات لا حرج على من أتاها أو تركها والأمر ليس كذلك.
4. البحث عن أحكام ما لم يذكروه في مظان أخر غير القرآن، مع وجود ذلك فيه تصريحاً أو تلويحاً.
ثم تطرقوا إلى قضية مهمة وهي الذي عليه الأمر علماً وحقيقة وواقعاً أن آي القرآن الكريم برمتها هي آيات أحكام؛ فلا توجد آية إلا وفيها شيء من الأحكام الشرعية.
ونبّه إلى أنّ الآيات التي قل الاهتمام بها ما يتعلق بسنن الله في خلقه وشرعه وصيرورات الأشياء والمرتبطة بتقويم النفس وإصلاحها من الداخل قبل إصلاحها من الخارج كآيات التزكية والتربية وآيات الاجتماع البشري العمراني وما ينتج عن تفاعله وتدافعه والآيات التي تتضمن أسباب الانحراف والسقوط الاجتماعي، كيف يبدأ على غفلة من الناس، ثم ينمو حتى يطغى، فيصبح عندهم قاعدة تؤول إلى تدمير المجتمع.
بعد ذلك نبّه على كليات القرآن الكريم وذكر أنّها لم تحظَ عند الأئمة الأصوليين والمفسرين اهتماماً بالغاً سوى إفادات شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الشاطبي وغيرهما مع النزر اليسير؛ وهو يرى أنّ كليات القرآن من الأولويات المقدمة على كثير من القواعد التي أصّلت وفصّلت في الفقه وأصوله، وهذه الكليات معينة على فهم نصوص الشريعة ، فكم من نازلة سُئل عنها النبي صلى الله عليها وسلم فأحال بيانها على عموم القرآن وكلياته العامة المطردة، ومن ذلك أنه لما سئل عن حكم الخمر قال: ” ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة : {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره } .
أمّا فوائد الكليات القرآنية فكثيرة ومن أبرز ما ذكره الباحث:
1. إيضاح ما يُشكل من جزئيات كثيرة بحملها على كلياتها.
2. دفع ما يناقض عمومها وشمولها مما يُعارضه كلية.
3. سهولة التناول في قطاع الخصام والتشغيب الواقع من المخالف.
4. توسيع مجال الاجتهاد ومداركه؛ ليُقام في كل زمان ومكان.
5. إجراء الأحكام على وتيرة مُطّردة معقولة من المصالح والمفاسد.
بعد ذلك تطرق المؤلف إلى أسباب النزول ، وذكر أنّ هذه المسألة لم تنل من الأصوليين ما يكفي من التحرير، مع أهميتها وجدارتها، مع أنها مضمنة في قاعدة لا اعتراض عليها وهي قولهم : ” العلم بالسبب يُورث العلم بالمسبب “.
وإن كان الحديث عن سبب النزول يحتوشه كثير من مشكلات الأحاديث الضعيفة والمنكرة التي قد تورد لذكره؛ فضلاً عن تعدد أقوال سبب النزول فيحتاج كثير منها للتمحيص والتحقيق؛ لأن كثرة الجمع بينها قد يكون خلاف القول الدقيق الذي نزلت الآية لأجله.
ثم ناقش قضية العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب وذكر الأقوال فيها ، ورجّح مذهب الجمهور القائلين أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثم تطرق للحديث عن الناسخ والمنسوخ فهو من المباحث الأصولية المهمة، وأنه مر بمرحلتين فالأولى كان مدلوله واسعاً فيستعمل في رفع الحكم كله أو بعضه، ويدخل فيه تخصيص العام وتقييد المطلق، والمرحلة الثانية وهي تخصيص هذا المصطلح بالرفع الكلي للحكم الشرعي.
وأوضح أنّ الشافعي كان يحتاط كثيراً في قضية النسخ وأن مجاله ضيق إلى حد أن كل ما فيه احتمال ولم يأت دليل قاطع على نسخه فلا يجوز القول به فيه، وعلى هذا يجري عنده نسخ القرآن بالقرآن وحده، ونسخ السنة بالسنة وحدها، دون نسخ أحدهما بالآخر.
ويذكر المؤلف أنّ دعاوى النسخ لعدد كثير من الآيات القرآنية والسنن النبوية، مبالغ فيها ولا يثبت أكثرها وفق المعايير والشروط العلمية كما أن جانباً من هذه الكثرة يرجع إلى المفهوم الموسع للنسخ عند السلف.
المصدر الثاني : السنة النبوية
في مقدمة هذا الفصل ذكر( د. الناجي لمين) أنّه يروم استبعاد القضايا التي ليست من الوظيفة الأصولية والأجدر أن تعالج في كتب العقيدة أو مؤلفات مصطلح الحديث، مثل عصمته صلى الله عليه وسلم، ومباحث في الجرح والتعديل، وطرق التحمل والأداء.
وهذا الكلام الذي ذكره المؤلف يُمكن أن يُناقش إذ القضايا المتعلقة بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم تشتبك مع أفعاله، وهل أفعاله كلها تشريع أو ليست كذلك؟ وأما قضايا الجرح والتعديل فإنّ علماء الأصول لم يخوضوا في دقائق علم الحديث وأصوله بل تطرقوا للقضايا التي ينبني عليها عمل متعلق بالاحتجاج بحديث الواحد، وزيادة الثقة، وجرح الرجال وتعديلهم وأثره في الدراسة للأثر الفقهي.
وقد أدرج في هذا المفهوم قول الصحابي، وعمل أهل المدينة؛ لكونهما برأي المؤلف إنما يستمدان مشروعية تناولهما ضمن الأدلة الشرعية من ارتباطهما بالسنة وتبعيتهما لها.
وفيما يخص كيفية التعامل مع السنة فانطلق من مُسلّمة وهي أنّ السنة إن ثبت كونها من التشريع العام فإنها تابعة للقرآن وحائمة حوله تبينه ولا تخالفه وتزيد عليه ولا تعارضه.
وقد جعل في هذا الفصل ثلاثة مباحث وهي: مفهوم السنة، وحجية السنة وطرق إثباتها، وكيفية التعامل مع السنة.
ومن المطالب المهمة حديثه تمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومن يقرأ أخبار النبي مع الصحابة في كتب السير والمغازي يجد من ذلك أمثلة كثيرة مما هو من قبيل التشريع العام وما ليس كذلك.
لكن هذا يُمكن لفت الانتباه إليه أنّ التشريع بمعناه العام يُمكن أن يدخل فيه أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على وجه المباح فهو من هذا القبيل مأذون به مشروع جائز؛ فالقول أنّ من أفعاله ما هو تشريع وما ليس كذلك يوجب بيان ما معنى هذا القول؟
فإن كان المراد أنّ بعض أفعال النبي تشريعاً وبعض أفعاله ليست كذلك فهذا غير دقيق؛ لأن أفعاله كلها مشروعة.
وإن قيل أن أفعاله التشريعية التي تكون من قبيل العادات والأعراف الاجتماعية وتختلف فيها الظروف والأحوال ولا يُقصد فيها التشريع فهذا لا إشكال فيه.
وقد تطرق لجهود العلماء في تمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كجهود القرافي والدهلوي وابن عاشور.
ثم تطرق لضوابط تمييز أحوال النبي وذكروا أن الأصل في أفعاله التشريع العام لأنه الغالب على أقواله، ولا يكدا يوجد حديث يحتمل أن لا يقصد به التشريع العام إلا تجد علماء الصحابة ومن أتى بعدهم قد تكلموا فيه بالاختلاف أو الاتفاق.
وبيّن ضوابط السنة التي من قبيل التشريع العام والضوابط التي ليست من قبيل التشريع العام .
ثم عرّج الباحث للحديث عن قول الصحابة وأن منه ما لا يكون من قبيل الرأي ومنه ما يكون فيه مجال للرأي وهو ما جرى فيه خلاف بين العلماء ، وذكر أن المتفحص في الأدلة التي ذكرها الفريق الذي يعد قول الصحابة حجة يرى أنها لا تدل دلالة صريحة على المطلوب، وأي نص هذه مرتبته لا ينهض دليلا لحسم قضية خطيرة، وهي حجية قول الصحابي، بل الشافعي جزم بأنه لا يوجد دليل من كتاب ولا سنة على حجية قول الصحابي.
لكن ذكر الباحث أنه في هذا المقام قصد التنبيه على أهمية قول الصحابي الذي لزم رسول الله مدة طويلة باعتبار آخر، وهو أن مطلق قوله قد يؤول إلى السنة أو يتضمنها أو هو فهم منها، أو من القرآن الذي شهد تنزيله، واستمع إلى بيانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر أن قول الصحابة ليس حجة، ولكن بالنظر لعلاقة الصحابي بالرسول واختصاصه بالتلقي المباشر منه مشافهة ومشاركة ومشاهدة، فلابد أن يكون لفهمه وقوله مزية اعتبار خاص عند النظر في آحاد الأدلة، أو فيما لا نص فيه عن رسول الله من غير أن يكون ذلك حجة بنفسه.
ثم تطرق لعمل أهل المدينة، فإن كان المقصود به ما عملت به الأمة، فيلزم لدى المالكية، وما مجاله الاجتهاد فهذا لم يعتبره حجة محصلو المذهب من المالكية، وقد نبّه الباحث على أمر مهم وهو أنّ العمل الذي كان يأخذ به مالك قد يكون فتيا التزمت بها العامة أو ألزمهم بها ولاة الأمر فجاء مالك فوجد الناس عليها فاختار أن لا يُخالفها.
ثم تحدث عن طرق الأئمة في التعامل مع السنة فأبي حنيفة كان بحسب رأي الحنفية كان خبيراً بالحديث غير أنه احتاط وتشدد في قبول الأخبار والآثار اتباعاً لمنهج النخعي وابن مسعود، وتطرق للحديث عن تقديم القياس على خبر الواحد وذكر أن أبا حنيفة لا يقدم القياس على الحديث المرفوع إذا ثبت عنده ولا على آثار الصحابة والتابعين من فقهاء بلده.
ثم تطرق لطريقة الإمام مالك في التعامل مع السنة، حث يرى أن الحديث المتواتر مثل القرآن في الاحتجاج، وينسخه، ويخصص عامه، ويقيد مطلقه، أما خبر الواحد فإنه يأخذ بالمرسل إذا اطمأن إلى صحته، وقد يرد المتصل الصحيح السند إذا لم يطمئن إلى سلامة متنه من الشذوذ والعلة.
وأوضح قضية ما إذا تعارض الخبر والقياس فالإمام مالك يرى أنّه إذا عارض مصلحة قطعية أو قاعدة شرعية عامة ثابتة بأكثر من نص من نصوص الشريعة، وإذا كان معارضاً بقاعدة شرعية أخرى تعد دليلاً صالحاً للاستحسان والاستثناء من النظائر، أما إذا عاضد الخبر قاعدة شرعية فإن مالكاً يأخذ به.
ثم طريقة الإمام الشافعي في التعامل مع السنة فهي قسماه سنة مجتمع عليها وسنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد.
وقد ذكر المؤلف أنّه حري بمن درس مناهج الأئمة الفقهاء قبل الشافعي أن يأسف غاية الأسف لأن منهج الإمام الشافعي الذي كاد يحصر صحة الحديث في صحة سنده، أصبح هو الرائد لمن أتى بعده من المؤلفين في الأصول، وفي مصطلح الحديث، وهو الذي أضحى الحكم في أصول الجدل والمناظرة، وبقي منهجاً الإمامين مالك وأبي حنيفة محصورين في كتب الفروع، وما يتعلق بالفروع، ككتب القواعد الفقهية والأشباه والنظائر.
لكن الغريب هنا أنه لم يذكر منهج الإمام أحمد في التعامل مع السنة وهذا من تقصير الباحث في النظر في منهجية الإمام أحمد في التعامل مع السنة، فله منهجية خاصة تختلف عن مناهج من تقدمه يُدركها أهل النظر ومن جمع بين الفقه المذهبي على أصول أحمد وخبرته بأصول الحديث التي يجري عليها.
وقد ارتأى المؤلف أنّ التعامل مع السنة تنبني على أربع قواعد:
1. الاعتناء بما عرف من الأحاديث وعمل به في الصدر الأول، وليس معنى هذا أن عمل الناس حَكَمٌ على كلام رسول الله فهذا لا يقول به مسلم فضلاً عن العلماء.
2. ليس كل حديث صحيح الإسناد يُعمل به، وليس كل حديث ضعيف الإسناد يُرد.
3. اجتناب التحكيم الحرفي لقواعد التحديث.
4. تصحيح المتقدمين وتضعيفهم أولى من تصحيح من أتى بعدهم.
ثم ذكر أن السنة عند فقهاء الأمصار ما عدا الإمام الشافعي ومن سار على نهجه لا تقتصر على المرفوع من حديث رسول الله بل تشمل ما كان عليه عمل الناس، ولو لم يوجد ما يدل على رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
واختتم بذكر الشروط الخمسة التي حددها علماء مصطلح لحديث للحكم على الحديث بالصحة أو الضعف إنما هو اختيار الإمام الشافعي سطره في كتاب الرسالة وبعض كتبه الأصولية الأخرى، وليس منهجاً عاماً لدى جميع الفقهاء في الحكم على صحة الحديث أو ضعفه، فأبو حنيفة ومالك مثلا لهما معاييرهما الخاصة في قبول الحديث أو رده ومن منهجهما أنهما يفهمنا السنة المرفوعة على ضوء الآثار الموقوفة وعمل الناس، ومثلهما عدد من فقهاء الأمصار كالأوزاعي وابن أبي ليلي.
المصدر الثالث الإجماع
وهو الفصل الثالث الذي قام بكتابته ( د. أحمد السنوسي) ويعد الإجماع أحد أدلة الشريعة الرئيسة المتفق عليها عند أهل السنة على وجه الخصوص، بل هو معدود من الأدلة النقلية عندهم.
وذهب بعض الأصوليين إلى أن أول ما ينبغي أن يبحث عنه المجتهد في مسألة ما – قبل النظر في نصوص الشرع – التأكد من عدم وجود إجماع فيها.
وقد بيّن قول الفقهاء في خطر إنكار الإجماع، ولكن كثيراً مما قيل عنه أنه أمر مجمع عليه حصل فيه نزاع، ولذلك قال أبو حامد الغزالي : ( فإن قيل : فهل تكفرون خارق الإجماع؟ قلنا: لا؛ لأنّ النزاع قد كثر في أصل الإجماع).
ثم تحدث الباحث عن بدايات الإجماع باجتماع الصحابة ومناقشة بعض النوازل، وأنّ هذا ينطبق على ما يُمكن تسميته ” إجماعات محلية “؛ أي أنّ أئمة كل بلد كانوا حريصين على اتباع ما اتفق عليه أسلافهم كراهة للشذوذ وإيثاراُ لما اجتمع عليه الناس.
وقد أوضح المؤلف أنه قد اجتمع للإجماع ما يكفي لتصبح حجيته عند أهل السنة مقررة نصوص الوحي الداعية إلى التمسك بالجماعة ونبذ الفرقة والشذوذ، وسنة الخلفاء الراشدين، وعمل العلماء المجتهدين، ولكن التنظير للإجماع بكونه دليلاً أصولياً يحتاج إلى أكثر من ذلك بحسب كلام الباحث.
ويرى أن التنظير للإجماع موجود، ولكنه عملياً يصعب على الأمة الإسلامية استثماره والاستفادة منه بسبب تشعب الخلاف فيها؛ فأول خطوة في اتجاه إعادة الاعتبار عملياً للإجماع وتخليص مباحثه من جدل لا ينتهي تكمن في تحرير محال النزاع في مباحثه.
وقد ذكر خلاف العلماء في تعريف حد الإجماع، وأن بعض القيود التي يُضيفها عدد من الأصوليين شروط تشترط للحجية، ولا تتعلق بحقيقة الإجماع بوصفه اتفاقاً لا أكثر، لأننا لو اقتصرنا على أقصر تعريف سيبقى الخلاف في شرح مكوناته.
ثم أوضح مفاهيم الإجماع والوظائف المناطة بها، وأنّ قول الفقهاء عن الإجماع أنه اتفاق مجتهدي عصر من عصور الإسلام على حكم لدليل، فإنّه يرى أنّ وظيفة هذا المفهوم للإجماع كانت ضعيفة للغاية في تراثنا الأصولي.
ورأى أن الإجماع السكوتي صيغة إذ تحققت فيها بعض الشروط من صيغ الإجماع التي تقترب في قوتها من الإجماع الصريح.
ومن وظائف الإجماع : نقل الحكم من الظنيّة إلى القطعية. فحديث : ( كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا) مثلاً ليس له إسناد صحيح، لكن الصحابة أجمعوا على معناه لتلقيهم له بالقبول.
ثم تحدث عن حجية الإجماع وخلص إلى القول أن الخلاف في أصل حجية الإجماع لم يثبت عن أحد من علماء أهل السنة، وإنما وقع الخلاف في حجية صور من الإجماع تبعاً للخلاف في مفهوم بعض أركانه أو تحقق بعض شروطه.
ومما تطرق له أنّ الإجماع له حجة مستندية فلا يذكر العلماء شيئاً إجماعياً إلا يذكرون قبله أدلة ومستندات.
بعد ذلك عرّج بنا الباحث إلى أركان الإجماع وشروطه، وإذا وقفنا إزاء معيار ما يتوقف عليه وجود الإجماع فإننا نكون إزاء ثلاثة عناصر هي : المجمعون، والمجمع عليه ( أي الواقعة المجمع على حكمها الشرعي) والاتفاق على الحكم.
وقد خلص الباحث أن الإجماع بمفهومه الأول وهو المعلوم من الدين بالضرورة هو الضامن لهوية هذا الدين وثوابته، وأما بمفهومه الثاني وهو تصريح كل المجتهدين بالحكم الشرعي أقرب إلى الخيال، وهو بمفهومه الثالث وهو انتشار القول دون مخالف مصدر لا يستغني عنه من مصادر التشريع الإسلامي، وعامل من عوامل غناه وقوته.
وتطرق للقول أنّ قدراً من المسائل المختلف فيها مما له أثر عملي على تطبيق الإجماع لا يزال بحاجة إلى دراسات علمية باعتماد ما قوي دليله، وأن يتحرر فيه من ضغوط ظرفية ربما فرضت على الأصوليين قدراً زائداً من الاحتياط.
وتطرق إلى أنه حري بعلماء الأمة أن يصرفوا جهدهم إلى المسألة المدعى فيها الإجماع ويحققوا القول فيها، ما دام الأمر تجاوز مناقشة الإمكان إلى ادعاء الوقوع.
يتبع