نحن مقبلون على موسم من مواسم الطاعات، موسم من مواسم مضاعفة الحسنات، مقبلون على العشر الأُوَل مِنْ شهر ذي الحجة.
ولِعِظَم قدر هذه الأيام، قد أقسم الله تعالى بها، والله تعالى لا يُقسم إلا بعظيم؛ فقال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾ [الفجر: 1، 2].
أخرج الطبري في «تفسيره» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: إِنَّ اللَّيَالِي الْعَشْرَ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا، هِيَ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وكذلك قال كثير من أئمة السلف، كما أخرجه عنهم الإمام الطبري.
ولذلك قال الإمام الطبري رحمه الله: «وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنَّهَا عَشْرُ الْأَضْحَى، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَيْهِ»اهـ([1]).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «هو الصحيح».
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وبالجملة، فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، ففضله كثيرٌ على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما لا يشرع في ذلك، من صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه.
وقيل: ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر.
وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل؛ وبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم»اهـ([2]).
وقد بيَّن النبي ﷺ أن العمل الصالح أفضل وأحب إلى الله تعالى في هذه الأيام من غيرها.
ففي «صحيح البخاري»، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ»؛ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»([3]).
فعلى الإنسان أن يكثر في هذه الأيام من العبادات؛ مثل:
* الصوم:
ففي «الصحيحين»، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»([4]).
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ﭬ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: مُرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ»، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لِي: «عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ»([5]).
* وقراءة القرآن:
ففي «الصحيحين»، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ»([6]).
* والذِّكْر:
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)﴾ [الأنفال: 45].
وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152].
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾ [الرعد: 28].
وفي «الصحيحن» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﭬ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»([7]).
وفي «صحيح مسلم» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ » قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ»([8]).
وفي «الصحيحين»، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»([9]).
* وقيام الليل:
فقد مدح الله تعالى أهل الإيمان والتقوى, بجميل الخصال وجليل الأعمال؛ ومن أخص ذلك قيام الليل، فقال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾ [السجدة: 17].
وروى أحمد والترمذي وغيرهما، وحسنه الألباني، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى بُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا» فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ هِيَ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»([10]).
* والصدقة:
فقد قال النبي ﷺ: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ».
وفي «الصحيحين»، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ، أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهُمَّ، أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»([11]).
وهذه الأيام فيها يوم عرفة.
ففي «صحيح مسلم»، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ»([12]).
وفي «صحيح مسلم» أيضًا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟»([13]).


[1])) «تفسير الطبري» (24/ 348).

[2])) «تفسير ابن كثير» (5/ 416)، طـ دار طيبة.

[3])) أخرجه البخاري (969).

[4])) متفق عليه: أخرجه البخاري (2840)، ومسلم (1153).

[5])) أخرجه أحمد (22149)، والنسائي (2220)، وغيرهما، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (4044).

[6])) متفق عليه: أخرجه البخاري (4937)، ومسلم (798).

[7])) متفق عليه: أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).

[8])) أخرجه مسلم (2676).

[9])) متفق عليه: أخرجه البخاري (6407)، ومسلم (779).

[10])) أخرجه أحمد (1338)، والترمذي (1984)، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» (2123).

[11])) متفق عليه: أخرجه البخاري (1442)، ومسلم (1010).

[12])) أخرجه مسلم (1162).

[13])) أخرجه مسلم (1348).