تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: قفي.. لنفكر قليلاً

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي قفي.. لنفكر قليلاً

    قفي.. لنفكر قليلاً

    سارة بنت عبدالمحسن بن عبدالله بن جلوي



    إذا أراد المسلمون استعادة دورهم الحضاري، وقيادة العالم من جديد فبم يكون ذلك؟
    إن لهذا المطلب شروطاً أساسية لابد من تحققها ليكون الأمل حقيقة، لا أحلام جميلة مجردة، تكتب حولها المقالات، وتؤلف الكتب، ويرويها الخطباء على المنابر، دون أن يكون لها في واقع الحياة رصيد من حقيقة يعين على وجودها.
    وفي مقدمة هذه الشروط إعادة تشكيل العقل المسلم بالصورة التي كانت عليها عقول الصدر الأول لهذه الأمة، وإعادة صياغة الفرد المسلم ليكون مسلماً ربانياً، ذلك أن "العقل المسلم قد أصيب بكسور خطيرة في العصر الراهن. ولما كان الإسلام نفسه قد أولى العقل تلك الأهمية القصوى التي تكاد تكون من البدهيات.. فإن النتيجة الطبيعية، غير المفتعلة، أن يكون (التأكيد) على إعادة التشكيل العقلي في إطار إسلامي، ضرورة ملحة وأمراً محتوماً.
    إن المسلم هو (نسيج وحده) عقلاً وروحاً وجسداً ووجداناً.. ولكن منطق الأولويات قد يقضي على هذا الجانب حيناً، وعلى ذلك حيناً آخر"[1].
    ويأتي السؤال لماذا التأكيد على دور العقل بالذات؟
    فتكون الإجابة: لما للعقل من دور مهم في قيام الحضارات.. ولنتحقق من هذا الدور، نعرض بإيجاز لتأريخ الحضارات.
    إن المتتبع لحركة التأريخ الإنساني، يجد أن الحضارات القديمة من يونانية، ورومانية، وغيرها من الحضارات القديمة نمت وتطورت وبنت لها أمجاداً كبيرة في مجالات شتى، يوم أفادت من عقول مفكريها، وقدمت علماءها، وشجعت البحث، والعلم، والمعرفة، وأنشأت إمبراطوريات سادت عصرها، وأثرت في الإنسانية حتى وقتنا الحاضر.
    لكنها حضارات ركزت على جوانب عديدة في الإنسان، واضطربت في الجانب المهم من حياته، إنه الجانب الروحي - لم تكن تلك الحضارات متوازنة في مقوماتها، وكذلك لم تستند إلى الوحي الإلهي في الجانب الروحي، واعتنت بالعقل الفلسفي، أو اللاهوتي، ونمت الغرائز المادية في الجسد.
    وإذا تركنا الحضارات القديمة، وانتقلنا إلى أوروبا العصور الوسطى، فإن المستعرض لتأريخ أوروبا في تلك الحقبة من الزمن، يجده حافلاً بمظاهر الانحطاط الفكري، والجمود الديني، الذي يرجع بأسبابه إلى طغيان الكنيسة، وتحكم رجال الدين؛ مما أدى إلى الحجر على العقول، وتحريم التفكير الحر، ورفض القوانين العلمية كلها، التي تعارض رؤية الكنيسة؛ فاضطهد العلماء وقتلوا، واحتدم الصراع العنيف بين الدين من جهة، والعلم والفكر الحر من جهة أخرى.
    فماذا كانت النتيجة؟
    انهيار حضارة، وقروناً مظلمة عاشتها أوروبا، وأخيراً انخلاع من الدين، ورفض للإيمان ولما هو سماوي كله. فلا خلاص إلا بالقضاء على كل ما يعوق العقل عن عمله، ويحجر على الفكر الحر، ثم اعتماد كلي على العقل ومعطياته، والعلم ونتائجه في بناء حضارة مادية شامخة تصدر بها قيادة العالم وتسيطر عليه.
    ومع هذا فقد بقيت حضارة بلا روح، فقد الإنسان فيها أهم مقومات وجوده.
    وبين الحضارات القديمة، والحضارات الأوروبية الحديثة.. أين يقف المسلمون؟
    بإلقاء نظرة سريعة على ماضي المسلمين وحاضرهم، نحد أن المسلمين الأوائل استطاعوا بفضل من الله، ثم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنوا لأنفسهم، وفي فترة قياسية مذهلة - إذا ما قيست بأعمار الأمم - حضارة رائعة استضاءت بنور الوحي، وأعملت ملكات العقل، فأضاءت بنورها العالم كله، ودانت بفضلها الشعوب والأمم، فهي حضارة شملت الحياة بمناحيها كلها، وقدمت للإنسان مناهل رائقة مازال العالم يستقي منها حتى وقتنا الحاضر[2].
    فكان لها الفضل على الحضارات قبلها، وبعدها..
    لكن ماذا حدث بعد ذلك؟
    بدأت قرون القحط الفكري، والوهن العقلي، وأتت عصور عجاف هوت بالمسلمين من قمة المجد إلى هاوية الانحطاط، ومن قيادة الأمم إلى آخر ركب الحضارة.. تخلف شنيع ضيع مجدهم، وأذل عزهم، وشتت شملهم، وجعلهم رغم كثرتهم كغثاء السيل، ليصبحوا أخيراً عالة على الأمم.
    فما السر في ذلك كله؟ وكتاب الله ما زال بين أيديهم، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مسطرة في كتبهم، وتأريخ أسلافهم تحفل به المكتبات ويتغنى به المغنون؟
    أسباب ذلك كثيرة متعددة، لكنا سنركز هنا على أحد جوانبها المهمة ألا وهو:
    الجمود الفكري، والتحجر العقلي.[3]
    إذا جمد الفكر، وتحجر العقل، اختلت البنية الفكرية، وتزعزعت الطروحات العقدية التي بُني عليها، وحدث الشرخ الذي يفقد الحياة توازنها، وبدأ الخلل يظهر في جوانبها المختلفة: العقدية، والعملية، والاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، وبدا الاهتمام بالجزئيات، والتركيز على صغائر الأمور، والاشتغال بالقضايا الجانبية، مما يستهلك الجهد ويبدد الطاقة، فتتعثر حركة المسيرة الحضارية، لغياب الوعي الصحيح، وانطفاء الفاعلية، وتوقف القدرة على استيعاب الظروف المحيطة، وحسن التعامل معها "وتختلط الأمنيات بالإمكانات، وتتراجع المبادئ، ويتقدم الأشخاص، وتنقلب الأمة إلى مجموعة من القطاعات البشرية الحزبية، أو الطائفية تختفي معها الوحدة الجامعة.. وتهتز المشروعية العليا، والأهداف الكبرى التي يجب أن تلتزم بها الأمة وتعمل لها، ويصبح الماضي بالنسبة للكثير من الأفراد والجماعات هو المستقبل الذي يعيشون عليه، ويقتاتون به، كما يصبح التأريخ الذي يجب أن تستلهم حقائقه، وتستقرأ حوادثه لتحقيق الاعتبار وإغناء التصور بالرؤية الضرورية التي تمكن من الإبصار والحكم على الأشياء المستجدة في ضوء السنن التي تحكم الحياة، والأحياء، والتي تملأ شواهدها صفحات التأريخ تصبح مهرباً ومخدراً، بدل أن تكون دليلاً ومرشداً..
    وتدخل الأمة [مرحلة القصعة] وتتداعى عليها الأمم،..
    ..وتبدأ سلسلة من الهزائم النفسية، العملية على مختلف الأصعدة.."[4].
    آثار الجمود الفكري على الفكر الإسلامي:
    للجمود الفكري آثار خطيرة تزعزع كيان أية أمة، لكننا سنقتصر هنا ـ لضيق المجال ـ على أهم هذه الآثار، والتي طغت على ما سواها، وظهرت واضحة جلية في واقع المسلمين المعاصر، وبخاصة على الصحوة الإسلامية التي كانت الأمل المنشود، مما بات يهددها بالخطر.
    الأثر الأول: الغلو والتطرف:
    الغلو: هو مجاوزة الحد في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، والأعمال.
    لذا، فإن الغلو والتطرف في كل شيء مذموم شرعاً وعقلاً، وهو في الدين أشد؛ ذلك أنه من العلل المفزعة التي تعمل على تشويه صورة الدين في أعين العامة، وتدفعهم للابتعاد عنه وكراهية الداعين إليه. وتشجيع أعدائه على النيل منه؛ فهو صورة سلبية خطيرة، وعلامة على السقوط في علل التدين، التي سقطت بها الأمم السابقة؛ فكانت السبب في هلاكها، قال تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}. [المائدة،77]. ولأضراره الكبيرة، ومفاسده الكثيرة، وأنه سبب في الهلاك فقد رفضه الشرع، ونهى عنه، قال صلى الله عليه وسلم "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين"[5]. "هلك المتنطعون"[6].
    فالغلو ينحرف بالدين عن وجهته الصحيحة، ويحمله ما ليس منه، ومن ثم يفقده أهم خصائصه ومميزاته. ألا وهي: التوازن، الوسطية، والاعتدال.
    مظاهر الغلو والتطرف، وأسبابها:
    للغلو والتطرف مظاهر كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر[7].
    المظهر الأول: التعصب للرأي:
    وهو التعصب الذي لا يعترف بوجود الرأي الآخر، ولا يقبل المناقشة ولا الحوار؛ لأن كل رأي فيما عدا رأيه هو رأي خاطئ؛ فرأيه صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ لا يحتمل الصواب، وهو وحده على الحق، ومن عداه على ضلال. وصاحب هذا الاتجاه يجيز لنفسه ما يحرمه على غيره.
    ويصل به تعصبه إلى الجمود على فهمه وإن كان قاصراً لا يعطي رؤية واضحة للمصالح، ومقاصد الشرع، وظروف العصر، وموازنة ما عنده بما عند الآخرين، من خلال الحوار البناء، الذي ينتهي إلى الوصول للبرهان الأوضح، والرأي الأرجح، والحجة الأقوى.
    أسباب التعصب للرأي:
    1. ضعف البصيرة بحقيقة الدين، وقلة البضاعة في الفقه، وضيق الأفق في التفكير، وخفة الموازين في العلم.. مما يجعل المتعصب يعتقد أنه حاز العلم بمقوماته كلها، حتى صار يظن نفسه من كبار العلماء العالمين، وهو لا يملك إلا شذرات متناثرة لا تسمن ولا تغني من جوع.
    2. عدم تلقي العلم من مظانه على يد شيوخه وأهله من العلماء المختصين، وإنما أخذ من كتاب، أو شريط، دون مراجعة، أو مناقشة، أو أخذٍ وردٍ، لكنه قرأ شيئاً أو سمعه ثم استنبط منه، وقد يكون أساء الفهم، أو أساء الاستنباط، دون أن يدري، ودون أن يملك المقومات التي تجعله يدري.
    فالعلوم الشرعية وفقهها لا تؤخذ مباشرة دون استيفاء شروط أخذها؛ فهي بحر زاخر لا يستطيع أن يخوضه الإنسان وحده، دون مرشد يأخذ بيده، ويدله على الطريق، فيفسر له الغامض، ويرد الفروع إلى أصولها، والنظائر إلى أشباهها.. وهكذا.
    3. قلة الخبرة بواقع الحياة، والعلم بالتأريخ، وسنن الله في خلقه، فتفهم الوقائع على غير حقيقتها، وتفسر وفق أوهام وخيالات لا أساس لها.
    4. الجهل بمراتب الأحكام الشرعية، وأنها ليست في درجة واحدة من حيث الثبوت، ومن ثم فالاختلاف فيها جائز، ولا خطر منه ولا ضرر فيه، إذا كان مبنياً على اجتهاد صحيح، مستوفياً لشروط الاجتهاد، بل هو رحمة للأمة، وإن ساحة ما يجوز الاختلاف فيه أوسع من ساحة مالا يجوز الاختلاف فيه.
    والاختلاف في الفروع أمر لا يمكن إنكاره، وهذا لحكمة اقتضاها الباري جل شأنه، وإلا لجعل الأحكام قطعية الثبوت والدلالة كلها. وقد اختلف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من المسائل الفرعية، والأحكام العملية، فلم يعب بعضهم على بعض؛ بل واختلفوا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأقر اختلافهم، ولم يوجه اللوم لأحد منهم، وذلك في حرب بني قريضة حين قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريضة". فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم[8].
    فالمتعصب لرأيه قد نسي أن رأيه ليس أكثر من رأي يحتمل الخطأ، كما يحتمل الصواب، وأن لا عصمة لبشر، وإن جمع شروط العلم والاجتهاد كلها. ولم يكن عدم وضوح الحق هو السبب في رفض الرأي الآخر لكنه الاستعلاء والكبر والتعصب الذي لا مسوغ له.
    المظهر الثاني: التشدد، وإلزام الناس بما لم يلزمهم الله به:
    فالمتشدد حين يختار لنفسه الرأي الأشد في بعض المسائل تورعاً واحتياطا، لا مانع في ذلك، ما لم يجعل هذا الطريق هو مسلكه الدائم، ويحاول إلزام الآخرين به، مع ما أتاحه الله من موجبات التيسير، مخالفاً بذلك إرادة الله في خلقه، ألم يقل الله تعالى {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. [البقرة،185].
    ومخالفاً أمر الرسول صلى الله عليه وسلم القائل لأبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما حين بعثهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسر، وبشرا ولا تنفرا"[9].
    وقوله صلى الله عليه وسلم "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"[10].
    وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"[11].
    وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً.
    هاهو ذا خير الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم يطيل الصلاة إذا صلى لنفسه حتى تتفطر قدماه، لكنه إذا صلى بالناس خفف، وأمر بذلك حين قال: "يا أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض، والضعيف، وذا الحاجة"[12].
    ومن مظاهر التشديد على الناس وإلزامهم بما يلزمهم به الله، محاسبتهم على السنن والنوافل، وكأنها فرائض، وعلى المكروهات وكأنها محرمات؛ بل قد يصل الأمر إلى المحاسبة على الحلال والمباح، واتهام العلماء إذا ما أفتوا بما ييسر على الناس، ويرفع الحرج عنهم في ضوء مقاصد الشريعة، وأحكامها.
    فالمسلمون ملزمون بما ألزمهم به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حسب الوسع والطاقة. أما ما دون ذلك فهم مخيرون فيه إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا تركوا ولا إثم عليهم. قال صلى الله عليه وسلم "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"[13].
    أسباب التشدد:
    1. التمسك بحرفية النصوص، دون تغلغل إلى فهم فحواها، ومعرفة مقاصدها، وإغفال علل الأحكام، ومراعاة المصالح.
    2. الوقوف عند فهم شخصي للإسلام، وإمكاناتهم، وتفاوت طاقاتهم، وقدراتهم على التحمل، وتجاهلهم أيضاً لقوله تعالى.. {ولا تكلف نفس إلا وسعها} [البقرة: 233]، {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286]، {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}. [المائدة: 6].
    وإذا كان الخالق وهو الشارع قد يسر على عباده ورفع عنهم الحرج، فهل يحق لمخلوق كائناً من كان أن يشدد عليهم؟ أو يجلب عليهم الحرج في دينهم؟ والعنت في دنياهم؟
    المظهر الثالث: الغلظة والخشونة:
    الغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب، والفظاظة في الدعوة، لا تفريق في ذلك بين كبير أو صغير، ولا بين من له حرمة كالأب والأم، ومن لا يصل إلى هذا المستوى من الحرمه، ولا بين من له حق التوقير كالعالم الفقيه، المعلم المربي، ولا من هو ليس كذلك، ولا بين من له عذره من عامة المسلمين، ومن لا عذر له ممن يحارب الإسلام.
    فخالفوا بذلك أمر الله تعالى، وهدي رسوله صلى الله وسلم، أليس الله تعالى هو القائل: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. [النحل: 125].
    وقوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}. [آل عمران: 159].
    ألم يأمر الله سبحانه وتعالى موسى وهارون عليهما السلام بالتلطف في دعوة فرعون فقال عز من قائل {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}؟!. [طه: 43،44]
    وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"[14].
    وقوله: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"[15].
    وقوله: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله"[16].
    وقوله: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه مالا يعطي على العنف"[17].
    ولا يفسد العنف أمراً من الأمور مثلما يفسد الدعوة إلى الله أو المناصحة، فالغلظة أو الشدة فيهما تؤدي إلى رفضهما، والوقوف منها موقفاً معانداً مكابراً، حتى وإن كان الحق فيهما واضحاً.
    فالحق إن لم يقدم بالأسلوب الحسن، فلن يجد له في النفوس قبولاً.
    ودوافع الغلظة والخشونة:

    1) الاستهانة بالناس، وبمشاعرهم وأحاسيسهم.
    2) المبالغة في الاعتداد بالنفس، وحب الظهور.
    3) ضعف الدليل والحجة،وتعويض ذلك بالعنف والشدة.
    4) قلة الفقه بأمور الدين، وأساليب الدعوة وآدابها.
    5) تأثير الظروف الشخصية والعائلية على النفس.
    6) الاندفاع والحماس غير المتبصر، وافتقاد الحكمة.
    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: قفي.. لنفكر قليلاً

    قفي.. لنفكر قليلاً

    سارة بنت عبدالمحسن بن عبدالله بن جلوي

    المظهر الرابع: سوء الظن بالآخرين:

    وذلك بحمل أقوالهم وأفعالهم على محمل سيء، بتضخيم السيئات، والنظر إليهم بمنظار الاتهام والإدانة، دون البحث عن الأسباب، أو التماس المعاذير، وتفسير كل قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير، ووجه شر، بوجه الشر.
    وقد اتسعت دائرة سوء الظن عند البعض حتى شملت العامة، والخاصة، الجهال والعلماء، والأحياء والأموات، ولم يسلم منها حتى كبار الأئمة، الذين اتهم عدد من كبارهم في دينه وعقيدته دون دليل، أو برهان.
    وقد تناسى هؤلاء أنهم بهذا يخالفون ما قرره الشرع وأمر به.
    قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}. [الحجرات: 12].
    وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"[18].
    ومن أسباب سوء الظن:
    1) تزكية النفس، والمبالغة في حسن الظن بها، مع نهيه تعالى عن ذلك في قوله عز من قائل {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. [النجم: 32].
    2) الغرور بالنفس والإعجاب بها، وازدراء الآخرين. فهو بهذا يتبع خطوات الشيطان الذي رفض السجود لآدم وعصى ربه كبراً وغروراً حين قال: {أنا خير منه}.
    وقد عد العلماء الإعجاب بالنفس من "معاصي القلوب" والمهلكات الأخلاقية التي تعمل على هدم بنيان المجتمع.
    المظهر الخامس: المسارعة إلى التكفير والتفسيق والاتهام بالعقيدة:
    وهو مظهر في غاية الخطورة؛ لأنه يسقط عصمة الآخرين، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ويلغي حرمتهم، ويخرجهم من الملة دون حجة ساطعة، أو برهان واضح، وهو منزع الخوارج حين كفروا جميع المسلمين.
    فنراهم يسارعون في تكفير أي مسلم ارتكب معصية، أو سكت عن حق، بل وقد يصل الأمر إلى تكفير كل من لم يقبل دعوتهم أو يدخل في جماعتهم، وهم يسرفون في ذلك إسرافاً شمل الأحياء والأموات على حد سواء، وقد نسي هؤلاء أو تناسوا أنه لا يجوز إسقاط اعتبار الآخرين ورميهم بالكفر أو الفسوق لإلمامهم بصغيرة، أو ما سوى ذلك مما لا يخرج عن الدين. وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد قتل الرجل في المعركة بعد أن نطق بالشهادة، وعندما أعتذر أسامة بأن الرجل قالها تعوذاً من السيف. قال له صلى الله عليه وسلم "هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا" قال أسامه: فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ. وفي حديث آخر "وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة"[19].
    فإذا قصر مسلم أو عصى فإنما ظلمه يقع على نفسه وأمره إلى الله ولا يملك كائناً من كان أن يخرجه من ربقة الإسلام؛ لأنه دخل الإسلام بيقين فلا يخرج منه إلا بيقين مثله، واليقين لا يزول بالشك.
    ودوافع ذلك:
    1) قلة الفقه بأحكام الكتاب والسنة.
    2) فساد الفكر، وفساد الضمير.
    3) التعصب الشديد للذات. وذلك أن المكفر والمفسق يعتقد دائماً أنه على صواب، واعتقاده هذا يحمله على التكفير أو التفسيق.
    4) الحرص على المنزلة الشعبية.
    5) الحقد أو الغيرة على بعض الشخصيات المرموقة في بعض المجالات التي لا يستطيع المكفر أو المفسق الوصول إليها.
    المظهر السادس: المبالغة في التحريم:
    إذا كانت القاعدة الشرعية تقول: إن الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما ورد نص على تحريمه، فإن هؤلاء يرون: أن الأصل في الأشياء التحريم إلا ما ورد نص صريح على إباحته.
    ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مجال تحريمهم يكون دائماً في الأمور التي لا تحملهم مشقة ولا عسراً، فهم مثلاً: يعلمون أن عدم القيام بواجبات العمل، وإهمال شؤون الوظيفة حرام، والنصوص في ذلك كثيرة، وكل مسلم يعلمها، ولكنهم يغضون النظر عن هذا الحكم، ويقعون في هذا المحذور؛ لأن الالتزام بواجبات الوظيفة أمر يشق عليهم وكذلك الأمر بالنسبة لطلب العلم، ولغيره من شؤون الحياة. في حين أنهم يتصدون لأمور لا معنى لها ولا تأثير، ولا يفرقون بين ما فيه نص صحيح صريح، ومالم يكن كذلك، مما لم يرد فيه نص. أو قال العلماء بكراهته، أو كان من المستجدات التي لا قياس لها في الشرع.
    وفي هذا مخالفة صريحة لأوامر الله، ونهيه، وقد حذر الله سبحانه وتعالى من ذلك فقال {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}. [النحل: 116].
    وقوله تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَات ِ مِنَ الرِّزْقِ}. [الأعراف: 32].
    فمثل هذا المسلك فيه تطاول على الله بتحريم ما أحل، وكأنهم يكلمون على الله ناقصاً بل إنهم يقدمون على ما نهاهم الله عنه في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. [المائدة: 87]
    لذا فإن السلف رضي الله عنهم، لم يكونوا يجزمون بتحريم أمر إلا ما علم تحريمه، وإنما كانوا يستعملون ألفاضاً مثل: نكره، أو لا نرى.
    وما أوقعهم في هذا الأمر إلا:
    1) ضحالة التفكير، وقلة الفقه، وقصور الإحاطة بعلوم الشريعة، وسوء الفهم لأحكام الآيات والأحاديث، ومعرفة ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، ومطلقها ومقيدها، ومثبتها ومنفيها، وخاصها وعامها.
    2) قلة العلم باللغة العربية، وما فيها من أحكام وأسرار بلاغية.
    3) الرغبة في التضييق، والتشديد، وتوسيع دائرة الحرام باسم الورع والاحتياط.
    الأثر الثاني: التعصب لشخص أو جماعة:
    وهو من العلل التي تسللت إلى الحياة الإسلامية بعد العدول عن المقاييس الإسلامية الصحيحة التي أعطت لكل إنسان حقه ومكانه الذي يستحقه.
    ويظهر ذلك واضحاً حين لا يكون الالتزام بمنهاج الإسلام ولا بفكره ولا بما شرعه الله، لكنه التزام بأشخاص محددين، أو تنظيمات خاصة، أو جماعات معينة تُعطى العصمة، وتوصف بالكمال، وتصبح هي مقياس الدين، فيكون الانقياد لها بلا تعقل أو تبصر أو روية. فالإسلام لا يكون أبداً حكراً على جماعة بعينها يعلن معه أنها جماعة المسلمين، وأن لها الحق ومن سواها على باطل.
    فنرى كثيراً منهم يعيبون على المتصوفة اتخاذ الشيخ، وهم يمارسون ذلك دون أن يشعروا، فما الفرق بين تعصب المريد لشيخه؟ وتعصب هؤلاء لأئمتهم وروادهم وجماعاتهم، يحاربون أتباع المذاهب الأربعة ويحرمون ذلك، ثم نجد كلاً منهم يتعصب لجماعته ويلتزم مذهبها.
    ويدل أن يتبع المسلمون مذاهب أربعة، أصبح لكل جماعة مذهبها، وعمقت فرقة المسلمون، وكثرت الشروخ في بنيان مجتمعهم، وزادت الهوة بينهم، فاستغلوا بمحاربة بعضهم البعض، وتخطيء بعضهم البعض، فشغلوا بأنفسهم عن أعدائهم.
    ويرد تساؤل: هل الانتماء للإسلام أو للجماعات والأشخاص؟
    وهل الالتزام بالأفكار، أو بالأشخاص؟
    ونقول: إن الانتماء للإسلام الذي فيه الحق والقيم والمنهاج الفكري القويم، فينبغي أن يكون الولاء للإسلام والارتباط به، لأنه الباقي.
    أما الأشخاص، فيصيبون ويخطئون، ويحيون ويموتون. فدين الله ليس حكراً على جماعة يتحدثون باسم الله فيشرعون ويكون قولهم المقياس[20].
    والدافع للتعصب:
    1) العمى العقلي، وسوء الرؤية والفهم للإسلام.
    2) الرغبة في توظيف الإسلام للمصلحة الشخصية.
    3) ضحالة الفكر والثقافة، وقصور العلم بأحكام الإسلام.
    4) الحاجة إلى الانتماء وهي رغبة فطرية في الإنسان؛ لأنه مدني بالطبع، فإذا لم يكن عنده انتماء يشبع فيه هذه الرغبة من: عائلته، أو أصدقائه يبحث عن إشباع هذه الرغبة عن طريق أي انتماء آخر، ومن ثم تكثر الانتماءات فهناك الانتماء الصوفي والانتماء الحزبي، والانتماء الرياضي، والانتماء الأدبي.
    ولعجز هؤلاء عن الانتماء لشيء من ذلك فإنهم يختارون الانتماء الأسهل، ومع الوقت يزول هدف الانتماء، كإشباع رغبة ليحل محله نوع من الغرور، يخيل إليه أنه استطاع أن يحقق لنفسه سيادة الدنيا، وسعادة الآخرة.
    الأثر الثالث: ضيق الأفق وقصور النظرة:
    ومن الآثار الواضحة للجمود الفكري هو التقوقع داخل شرنقة ضيقة مغلقة من الثقافة الضحلة، والنظرة الجزئية القاصرة، العاجزة عن الرؤية الشمولية، وعدم القدرة على التعامل مع معطيات الحضارة فتكون السلبية، ثم الانسحاب من الساحة بحجة الفرار بالدين، وغربة الإسلام.
    وما هي بالواقع إلا مشكلة ثقافية، ومسار أعوج لا ينتهي إلى شيء، ومن صور هذه المشكلة:
    1) رفض الحضارة بكل معطياتها بحجة مخالفتها للإسلام، ومع ذلك فهم في حياتهم اليومية يتقبلون معطيات هذه الحضارة كغيرهم من الناس.
    2) رفض العلوم بمختلف فروعها، والاقتصار على دراسة العلوم الشرعية.
    3) الانهزامية النفسية، والاستسلام لواقع الحال.
    4) فقدان الاتزان نتيجة المغالطات الفكرية والعقدية، وسوء الفهم لتراث الأمة الإسلامية.
    5) العجز عن وضع خطاب التكليف في مكانه المطلوب من حياتنا.
    6) خلل البنية الفكرية، والعجز عن توظيف المعرفة والاستفادة من العلوم.
    7) الانحراف عن الطريق الذي رسمه لنا الوحي.
    8) التحجر على صور معينة، والتمسك بجزئيات دون محاولة البحث عن طبيعتها، ومعرفة مدى صلتها بالإسلام الصحيح.
    وهذه الصور جميعها بعيدة كل البعد عن الفهم الإسلامي الصحيح، ولتصويب المسار، وتجديد الانتماء لهذا الدين، والاعتزاز بقيمه، والتزام أحكامه، والانضباط بشرعه، والاستفادة من تأريخه، فلا بد من العودة إلى فهم الإسلام فهماً صحيحاً، وأن نكون على مستوى إسلامنا فنفهم العصر وندرك طبيعة المتغيرات، ونعيد النظر في ضوء المستجدات. "واكتشاف المنابر المؤثرة، والمواقع الجديدة التي أخذت مكاناً في المجتمع الحديث، واعتلاء هذه المنابر العلمية والثقافية عن جدارة واختصاص وجعل الاختصاص في خدمة العقيدة، والقدرة على الإبصار، ودراسة شبكة العلاقات الاجتماعية، والاقتناع بأن التفوق العلمي، والتخصص النادر الذي يتحصن صاحبه بالدين القويم هو المطلوب لهذه الأم لحل معضلة انفصال العلم عن الدين التي عانى منها الجيل الماضي فلا مجال للسذج والبسطاء في عالم الأذكياء"[21].
    فالمسلم مطالب اليوم بترجمة عقيدته إلى واقع، وتحقيق الرؤية القرآنية في حياته ونظرته للأمور، وحكمه على الأشياء وتعامله معها بكل شمولها وخصبها وتفسيرها للحياة وتحديدها لمسارها، وبيان القوانين والسنن المنظمة لها، وإعادة التلازم الغائب بين إخلاص النية، واتخاذ الأسباب[22]. والتخلص من التمحور حول النفس، والطواف حول الذات.

    وهذا يستلزم إعادة صياغة الفرد المسلم، وإعادة تشكيل عقليته وذلك من خلال العودة إلى المنهاج الإسلامي الصحيح في التفكير.
    خصائص المنهاج الإسلامي في التفكير:
    لقد تميز المنهاج الإسلامي في التفكير على غيره من المناهج من خلال تلك الموازنة الرائعة بين الوحي ونتائجهن والعقل ومعطياته. والتي جعلها الإسلام اللبنة الأولى في بناء الفكر الإسلامي الصحيح.
    فقد اهتم الإسلام بالعقل اهتماماً واضحاً وجعله مناط التكليف في الأمور العملية؛ ذلك أن العقل المدرب الموجه هو الذي يملك القدرة على بناء الحضارة بكل مستلزماتها المادية والعملية، والثقافية، والتصدي لمشكلات الحياة ومعوقاتها.
    والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجد أنها قد عولت على العقل، ونوهت به، وطالبت باستخدامه والعمل به، والرجوع إليه وتكرير الإشارات القرآنية الواضحة في هذا المجال، لا يدع موضعاً للشك في أهمية العقل ومكانته في الشريعة الإسلامية. ولم تقتصر الآيات القرآنية على جانب واحد، من جوانب العقل، أو وظيفة خاصة من وظائفه بل شملتها جميعاً.
    فالقرآن قد خاطب العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد.
    فنجد مثلاً أن الآيات التي تتحدث عن عظمة الله، وقدرته ومخلوقات تنتهي دائماً بمثل قوله تعالى {لآيات لقوم يعقلون}، {لآيات لقوم يتفكرون} وقوله: {أفلا تعقلون} ومثلها الآيات التي تدعو إلى توحيد الله، أو تذكر بأحوال الأقوام السابقين وموقفهم من الرسالات السماوية ـ والحديث في هذه النقطة قد يطول مما لا يستوعبه المقام، ففي القول متسع، وفي المقام ضيق.
    ويكفي العقل شرفاً أنه جُعل مناط التكليف ولكن ولأن العقل لا يستطيع المضي وحده، لتعدد الدروب، وتشعب المسالك فإن الإسلام لم يتركه يسير من غير توجيه، بل رسم له منهاجاً يتربى من خلاله على أصول التفكير السليم، ومن عناصر هذا المنهاج:
    1) التوجه إلى النظر في ملكوت السموات والأرض؛ لأنه كلما ازداد معرفة بأسرار الكون، ازداد معرفة بخالقه. قال تعالى {إنما يخشى الله من عبادة العلماء}. [فاطر: 28]
    2) التوجيه إلى إدراك الحكمة من خلق المخلوقات ليعرف الإنسان مكانته عند الله، والآيات في هذا المجال كثيرة.
    3) التوجيه إلى معرفة الله من خلال بيان الأدلة الفطرية، والعقلية.
    4) بيان حدود التفكير الإنساني، وإن للعقل حدوداً يجب عليه عدم تجاوزها؛ لأن هذا التجاوز فوق طاقته وفوق إداركه، وخارج حدود حواسه، كالتفكير في ذات الله مثلاً، فالعقل مهما أوتي من قدرة وقوة لن يستطيع أن يصل فيها إلى شيء غير ما أتاحه الله له، ومن تجاوز ذلك فإنه سيهوي إلى عالم الاضطراب والهلاك؛ لأن هذه المنطقة هي منطقة الوحي لا العقل.
    5) توجيه العقل إلى الربط بين الأسباب والمسببات، والمقدمات والنتائج، والعلة والمعلول، وفي الوقت ذاته يبين له أن الله سبحانه وتعالى يقدر على تجاوز ذلك كله ويفصل بينه بما شاء وكيف شاء.
    6) تعويد العقل على الموازنة بين الأمور، فلا يجنح باتجاه دون الآخر إلا إذا كان لديه الدليل أو البينة. قال تعالى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. [الإسراء:36].
    7) تربية العقل على النظرة الشمولية تجاه الحضارات، ورفض صيغ التجزئة وإقامة الحواجز بين مساحات التجربة الإنسانية، قال تعالى {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ، هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }. [آل عمران: 137 ـ 138].
    8) تعويد العقل على العمل الجاد، والبحث المستقصى، والإبداع الخلاق، لتحقيق دور الإنسان في استخلافه على الأرض، وإعمارها مادياً، ومعنوياً بإتباع منهاج الله، وتطبيق شرعه، من خلال التوفيق بين مسألة الإيمان، ومسألة الإبداع، بين التلقي عن الله والمضي قدماً في مسالك الطبيعة، وبين تحقيق مستوى روحي رفيع للإنسان؛ ليعيش الإنسان في مناخ حضاري متوازن[23].
    9) حرية الرأي:
    ربى الإسلام العقل على حرية التفكير، وبيّن له أن الحضارات لا تقوم إلا على هذا الأساس؛ ذلك أن الفكر الحر يفتح أبواب المعرفة، فتزدهر الحضارة، وتتقدم الأمم. فالفكر الحر ثمرة العقل وهو من أعظم نِعم الله التي من بها على خلقه، ولم يغفل الإسلام عن بيان الحدود التي يجب على الفكر الحر أن يقف عندها، وإلا تحول إلى قوة دمار وخراب.
    وبين له أن الفكر والرأي هما حوار بين (لا) و(نعم).
    فالرفض المطلق لا يعد فكراً، لكنه عناد، والقبول المطلق ليس فكراً بل سلبية[24].
    إنه الحوار المنطقي الهادي، الذي يعطي لكل طرف فرصته، ليقدم دليله وحجته، ثم يرجح في النهاية الدليل الأقوى، والبرهان الأسطع.
    لذا، فقد وضع الإسلام للحوار المناقشة آداباً يجب مراعاتها، وقدم لنا القرآن الكريم العديد من الأمثلة على ما يجب أن يكون عليه الحوار حتى وإن كان حواراً بين الحق والباطل.
    أدب الحوار في الإسلام:
    أ) المجادلة بالتي هي أحسن، قال تعالى {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. [العنكبوت: 46].
    ب) الكلمة الطيبة اللينة، قال تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَولاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. [طه: 43ـ44].
    ج) القول بالحق الذي لا اختلاف فيه، قال تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. [آل عمران: 64].
    د) تقديم الحجة والبرهان، والمطالبة بهما، قال تعالى {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. [البقرة: 111].
    وكان الفقه الإسلامي برجاله العظماء ثمرة لحرية الفكر وإعمال العقل في ضوء الوحي.
    موقف السلف:
    حين التزم سلفنا بالمنهاج القرآني في التفكير، وما يستتبعه من أدب الحوار والمناقشة قدموا للعالم أغنى تراث، وبنوا أعظم حضارة، فالشخصية الإسلامية التي تربت على هذا المنهاج استطاعت أن تتفاعل مع الحضارات وتستوعب الفكر البشري، وتأخذ منه جانبه المشرق لتقدم للعالم حضارة علمية مؤمنة بناءة، ومن ثم تميزت تلك "الشخصية الإسلامية في ماضيها بتفتحها على العالم، وتوجهها إلى الثقافات الإنسانية ومعارفها، وبوعيها المتجدد بحركة التأريخ، وبمواكبة التطور البشري، مما جعلها قادرة على أن تضيف الكثير إلى الإنسانية والحضارة"[25].
    وهكذا يتبين لنا أن الإسلام الذي فهمه سلفنا الصالح وصنع خير أمة أخرجت للناس هو فهم يختلف عن الفهم الذي عليه المسلمون بواقعهم المعاصر، ومن ثم فلا بد من العودة إلى الفهم الصحيح للإسلام، والإدراك الواعي لمقاصده وأحكامه، ولا بد أن تكون العودة بإعادة النظر والمراجعة في ضوء المستجدات والواقع الذي نعيشه، من خلال إعادة صيانة العقل المسلم والشخصية المسلمة وفق المنهاج الإسلامي الصحيح الذي يصنع العقل، ويعصم الضمير، ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر، ويتدبر ويحسن الإدراك والرواية، ويرفض الجمود والعنت والضلال.



    [1] ) عماد الدين خليل (د) حول إعادة تشكيل العقل المسلم/35
    [2]) أهم مقومات الحضارة الإسلامية:
    أ-الوحي الإلهي الذي تؤسس عليه الحضارة الإسلامية.
    ب-احترام العقل وتحريضه على النظر والاستدلال والاجتهاد، والحوار، ونبذ التقليد الأعمى.

    ج-التشريع الإلهي الحكيم العادل.
    د-الأخلاق السامية القائمة على العقيدة الإيمانية.
    هـ-الدعوة إلى الدين الحق، ونشر قيمه بين الخلق.
    و-الجهاد لتحرير الشعوب من ظلمات الوثنية لنور التوحيد.
    ز-حراسة القيم الإيمانية بالسلطان والحسبة.
    ح-منهاج الإسلام في التوازن بين مطالب الروح والعقل والجسد، والدنيا والآخرة، وتحريم الرهبنة، والانفلات مع الشهوات، وضبط العقل بقيم العقيدة.
    [3]) يقابل الجمود الفكري، والتحجر العقلي سبب آخر هو..
    الهوى... فالهوى ممن يعملون يفسد الحياة، لأنه يضيع الحق وأهله {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}.[المؤمنون:71] ففيه اتباع للشهوات وتحلل من القيم الإيمانية،فهوى الحكام المنحرفين الظالمين يعطل الوحي، وهوى العلماء المنافقين الدجالين تضييع الأمانة وقعود عن الواجب، وهوى أولي العلم الذين حرفوا الحقائق الإيمانة إرضاءً للملأ الحاكم فخانوا أمانة الكلمة. وهوى الناس الذين تخلوا عن التماسك الأخلاقي في السلوك الشخصي والعام، والقعود عن الجهاد في سبيل الدين إيثارا للدنيا على الآخرة "وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا".
    والخلاصة: البعد عن الله سبب الهزيمة الداخلية والخارجية. {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا،وَكَ مْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا} [الإسراء:17،16].
    [4]) عمر عبيد حسنة، نظرات في مسيرة العمل الإسلامي: 137-138(بتصرف).
    [5]) أحمد بن حنبل، المسند، م1/215،347. - النسائي، السنن، كتاب مناسك الحج، باب (التقاط الحصى)217. - ابن ماجه، السنن، كتاب المناسك، باب (قدر حصى الرمي)،63وفيه زيادة: (يا أيها الناس).
    [6]) صحيح مسلم، م8،ج16،كتاب العلم، باب(النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه) 220.
    [7]) للتوسع في هذه النقطة (د)، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف.
    [8]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، م7، كتاب المغازي 64، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب 30/4119،407،408.
    [9]) فتح الباري، م8 كتاب المغازي 64، اب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، 60/4341،-4342/60.
    [10]) المرجع السابق، م1،كتاب العلم3،باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعضة 11/68/163.
    [11]) مسند أحمد، م2/108.
    [12]) فتح الباري، م1، كتاب العلم3،باب الغضب في الموعظة 28/90/186.
    [13]) فتح الباري،م13، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 96،باب (الاقتداء بسنن الرسول) 2/7288/251.
    [14]) البخاري، م(10) كتاب الأدب35/449، م(11) كتاب الاستئذان 22/41، ابن ماجه، م2/باب الرفق، 9/1216.
    [15]) مسند أحمد، 6/58، 112، 171، 206، 222،. مسلم، باب فضل الرفق، ج16/146.
    [16]) مسلم، ج16، باب فضل الرفق، 145. ابن ماجه، م2، باب الرفق 9/1216.
    [17]) ابن ماجه، م2، باب الرفق 9/1216.
    [18]) البخاري، م5، كتاب الوصايا، 8/357، م9 كتاب النكاح، 45/1981، م10 كتاب الأدب 57/58، 481/484، م12، كتاب الفرائض 2/4.

    [19]) صحيح مسلم، م1، ج2، باب تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلا الله، 99-100.

    [20]) للتوسع انظر: عمر عبيد حسنة، نظرات في مسيرة العمل الإسلامي.
    [21]) عمر عبيد حسنة، مرجع سابق، 88-89.
    [22]) المرجع نفسه، 93-95-،146.
    [23]) للتوسع انظر: د.عماد الدين خليل، حول إعادة تشكيل العقل المسلم.
    [24]) للتوسع انظر: د.عبد العال سالم مكرم، الفكر الإسلامي بين العقل والوحي.
    [25]) د. عباس محجوب، مشكلات الشباب والحلول المطروحة، والحل الإسلامي، 37-38.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •