الملل زائر ثقيل 1/3
الملل من المشكلات النفسية التي كثرت في أوساطنا بين الفتيات والشبان، فترى كثيراً منهم ما إن يدخلوا المنزل بعد فسحة أو نزهة حتى يتعالى الصياح:"أف.. ملل"!
وكثيراً ما تجد شخصاً ضيق النفس، دائم التذمر والتسخط، يغضب لأتفه الأسباب، وأحياناً يغضب بلا أسباب، لا يبتسم، كثير الانتقاد، كثير الشرود، حتى صار الملل مظهره العام..
ترى هل جميع النَّاس ينتابهم الملل في حياتهم؟ وما هي أسباب الملل؟ وماذا يفعل كثير من النَّاس إذا أتاهم ذلك الزائر الثقيل؟ وأخيراً ما هي وسائل علاج ظاهرة الملل؟
يتفاوت النَّاس في مدى انبعاث الشعور بالملل وتكراره ومعاودته وشدته، فمنهم من يعانيه معاناة واضحة تنعكس على حياته وتصرفاته وعلاقته بأصدقائه وأسرته. ومنهم من يراوده هذا الشعور أحياناً ولكن سرعان ما يزول، وهذا أمره هين، بل هو طبيعي، وقد راعى الإسلام هذا الضعف في نفسية الإنسان، فقد كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يُذكِّر النَّاس كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، لوددت لو أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما أنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا.
فالسآمة والملل بلا شك شعور يرد على الإنسان ولو كان مسلماً، ولو كان متديناً، ولكنه شعور مكروه، وقد تكون عواقبه وخيمة وخطيرة، ولذلك فإنَّ الإسلام يحذر من هذا الشعور ويوجه إلى السبل التي تحول دون وصول العبد إلى مرحلة الشعور بالملل. قال صلى الله عليه وسلم: "ليُصلِّ أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليرقد" (متفق عليه)، فذلك من أسباب توفير الراحة الجسمية والنفسية التي من شأنها تجديد العزم وتقوية النفس على الإقبال على الطاعات برغبة وحب ورضا.
ونلاحظ أنَّ الملل المحذر منه في الأحاديث هو الناتج عن كثرة العبادة والإفراط والغلو فيها دون أن يتخللها فترات راحة وترويح. أما الملل اليوم فلم يعد ينشأ عن كثرة العبادة، وإنما عن أسباب أخرى.
* عدم وضوح الهدف من الحياة
قد يوجد الإنسان في هذا الكون، ولكنه لا يعلم الهدف من وجوده، ومن كان يعيش بهذا الشعور سيكون حاله كحال ذلك الشاعر البائس الذي لا يدري شيئاً ويقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري
ولكن الأمر يختلف بالنسبة لك كمسلمة تعلمين الهدف من وجودك في هذا الكون.. وفي هذه الحياة.. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56).
كُلُّنا يعرف هذه الآية، لكنها في الحقيقة تبقى معرفة نظرية سطحية ليس لها ثقل متميز في حياة المسلم، ليس لها أثر واضح في حياته فنجد الشخص جاداً في دراسته يسعى إلى وظيفة.. زواج.. أولاد.. امتلاك بيت ،كل هذه أهداف يسعى إليها في حياته لكنها تبقى أهداف مرحلية غامضة، بمعنى أن الإنسان إذا انتهى من تحقيق أهدافه هذه كلها يشعر بفراغ، لماذا؟ لأنَّ الغاية الأسمى التي ينبغي له أن يعيش من أجلها ليست في باله!! ولا تشغل تفكيره!!: مثلاً: كيف أحقق هذه الغاية؟ كيف يمكنني أن أغتنم ساعات حياتي، أغتنم إمكاناتي العقلية والمادية أو التربوية لتحقيق هذه الغاية.. تحقيق أقصى ما أستطيع تحقيقه في سبيل مرضاة الله تبارك وتعالى(احتساب الأجر والثواب).
طول الأمل يبعث فيمن أمَّل في الدنيا وزهرتها وشهواتها الملل والضجر، فتراه دائماً في تلهف إلى مزيد من الشهوات الدنيوية، وقد يعطى ولا يشكر، وهذا من الشقاء، وقد يمنع فلا يصبر، بل يتملل ويزمجر، وهذا أيضاً من الشقاء، لماذا هو على هذا الحال؟
"إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من أحب" - كما في الحديث - وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول الأمل فعن عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منها، وخط خططاً صغاراً إلى جانب هذا الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان وهذا أجله محيط به- أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا" (صحيح البخاري).
ومع أن الإنسان يعلم أنه لا مفر له من الموت، إلا أنه طويل الأمل في هذه الحياة، أملّه أبعد بكثير من أجله، بل لا تكاد تجد لأمله حداً، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل" (صحيح البخاري). وقال عليه الصلاة والسلام:"يكبر ابن آدم، ويكبر معه اثنتان، حب المال وطول العمر" (صحيح البخاري). فمن قصر أمله في الدنيا لا يمل؛ لأنَّه سيكون مشتغلاً بما ينفعه بعد هذه الدنيا القصيرة ، فلا فراغ ولا وقت للملل لمن بادر بالعمل تلو العمل.
وطول الأمل من أساليب الشيطان في محاربة الإنسان وصده عن سبيل الله. أما مجرَّد الأمل الذي لا يشغل عن الآخرة فليس فيه شيء، بل لولا الأمل ما شرع أحد في عمل من الأعمال، فالمطلوب منه ما يعين على عمارة الأرض في حدود مرضاة الله.
قد تلجئين إلى الأصدقاء لقضاء وقت الفراغ وتجنباً للإحساس بالملل، لكنك ربما لا تعلمين أن الأصدقاء قد يتسببون بشكل أو بآخر في زيادة شعورك بالملل، لا سيما إذا كانوا أصدقاء سوء يضيعون وقتك فيما لا يفيد، أو في معصية الله عز وجل فيزداد همك وقلقك وتحرمين الخير الكثير. فاحرصي على صحبة من يعينك على طاعة الله عز وجل الذي حثنا في كتابه الكريم على حسن اختيار الأصدقاء فقال سبحانه: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيٍ يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} (الكهف:28). كما أوصانا النبي صلَى الله عليه وسلَم بمصاحبة الأخيار والبعد عن الأشرار، فقال: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيباً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما ان تجد منه ريحا خبيثاً".
منقول