قد أحسن من انتهى إلى ما سمع


عبد الرحمن السحيم




في مجلس يضُمّ نُخبة من خيار التابعين .. فيتحدّث حصين بن عبد الرحمن فيقول : كنت عند سعيد بن جبير ، فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقضّ البارحة ؟


قال حُصين : قلت : أنا ، ثم قال : قلت : أما إني لم أكن في صلاة ! ولكني لُدِغْتُ .
قال سعيد : فماذا صنعت ؟
قال حُصين : قلت : اسْتَرْقَيت .
قال سعيد : فما حملك على ذلك ؟
قال حُصين : قلت : حديث حدّثناه الشعبي .
فقال : وما حدثكم الشعبي ؟
قلت : حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أنه قال : رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ .
فَقَال سعيد : قَدْ أَحْسَنَ مَنْ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ .. الحديث . رواه مسلم . وأصله في الصحيحين.
والشاهد هنا قول سعيد بن جبير رحمه الله : قَدْ أَحْسَنَ مَنْ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ .
أمَا لو أنه انتهى كلٌّ مِنّا إلى ما سَمِع لَما كثُر القيل والقال .. ولَمَا تقوّل الناس على العلماء .. ولَما افتأتوا على الدِّين ..
ولَسَقَط كثير من الخلاف ..
ذلك أن العِلْم كالـنُّقْطَة ، فكثّرها الجاهلون !
وفي كلام علي رضي الله عنه : العلم نقطة كثّرها الْجُهّال !
كم تندهش إلى حدّ أن تفتح فَمَك .. حينما ترى حدثاء الأسنان يتكلّمون في المسائل الكِبار ..
مسائل لو عُرِضَت على عُمر رضي الله عنه لَجَمع لها أهل بَدْر ( كِبار الصحابة ) ! كَما قال أبو حُصين .
ثم ما يلبث أن يُعقِّب قائلا : لستُ مُفتِيًا !
إن لم يَكن الكلام في الحلال والحرام ، والفرض والسنة ؛ فَتوى ، فأي شيء هي الفتوى ؟!
أو يطرح رأيه بِكلّ جُرأة ، ومِن غير تردّد .. في مسائل ربما جَبُن عنها كِبار الأئمة !
ويستوي في ذلك الرجل والمرأة ..
بل ربما كانت مجالس النساء لها من ذلك أوفَر الحظّ وأجْزَله !
وقد تَسَمع المرأة في مجالس النساء من الأقوال والآراء والفتاوى ما يَكلّ منه السامع ..
ولكأنّها في مجلس بعض " الخوارج " وقد اجتمع عشرة منهم ، فخرجوا بأربعة عشر رأيًا !!
ولعلك لو جَمَعْت عِلْم أولئك " المتفيهقين " أو " المتفيهقات " لم يأتِ ملء الكفّ !
ومِن عَجَب أن تسمع الأقوال والاستدلالات التي تُطلِعك على حقيقة " مبلغ عِلْم " الْمُتَكَلِّم – رجلا كان أم امرأة – ..
ومِن أعجب ما رأيت .. أن تأتي فتاة حديثة السِّنّ .. لتناقش قضايا كُبْرَى .. وتنتقد أصول الإسلام !! ثم تأتي بِطامّـة كُبرى .. وداهية دهياء .. لتزعم أن هناك آية تقول : (على نِـيّاتكم تُرْزَقون) !!
وإني على ثقةٍ .. أن مثل هذه الفتاة كُثُر .. وأنّهن يفتحن أفواههن في المجالس .. ويتصدّرن الحديث .. ولربما وَجَدْن آذانا صاغية .. وأفئدة مُتلقِّيَـة ..
والبضاعة في الحقيقة :
رأيُ أحْمَق ! ( أنا أرى ) !!
وقول ساقِط !
ولَغْو كَلام !
وآيات مُختَرَعة ! ( لم يَقُل بها مسيلمة ) !
وأحاديث ضعيفة أو مكذوبة !
وفي النهاية تُصرِّح بأنها ليست مُفتِيَة !
أو يُصرِّح : بأنه ليس مُفتِيًا !
ورَحِم الله سَلَف هذه الأمة إذ كانوا يقولون : ينبغي للعالم أن يُورث جلساءه مِن بعده (لا أدري) حتى يكون أصلا في أيديهم ، فإذا سُئل أحدهم عمّا لا يدري قال : لا أدري .
وقال بعضهم : لكأنما الإمام مالك والله إذا سئل عن مسألة والله واقِف بين الجنة والنار
وقال : ما شيء أشدّ عليّ مِن أن أُسْأل عن مسألة مِن الحلال والحرام
وسئل الإمام مالك عن مسألة فقال : لا أدري ، فقال له السائل : إنها مسألة خفيفة سهلة ، وإنما أردت أن أعْلِم بها الأمير - وكان السائل ذا قَدْر - فَغضب مَالِك ، وقال : مسألة خفيفة سهلة ؟! ليس في العلم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)- {المزمل/5}؟
قال الإمام القرطبي : الواجب على مَن سُئل عَن عِلمْ أن يقول إن لم يَعلم : الله أعلم ، ولا أدري . اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء مِن العلماء ، لكن قد أخبر الصادق أن بِمَوت العلماء يُقْبَض العِلم ، فَيَبْقَى ناسٌ جُهّال يُسْتَفْتون فَيُفْتُون بِرأيهم ، فَيَضِلّون ويُضِلّون . اهـ .
و قَدْ أَحْسَنَ مَنْ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ ..
ومَن عَلِم أن كلامه محسوب عليه اقتَصَر وأقْصَر ..
ذلك أن الله يقول : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)- {الإسراء/36} .
كيف إذا كان الكلام في الحلال والحرام ؟ وفي القول على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟
وكيف إذا كان الكلام في الفتوى قبولا أو ردًّا ؛ اتِّـبَاعًا للهوى ؟!
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أهل الشام بِكَلِمَتين :
مَن عَلِمَ أن كلامه مِن عَمَلِه أقلّ منه إلاّ فيما ينفعه .
ومن أكثر ذِكْر الموت اجتزأ مِن الدنيا باليسير .
وقال عمر بن عبد العزيز : مَن لَم يَعُدّ كلامه مِن عَمَلِه كَثُرت خطاياه ، ومَن عَمِل بِغير عِلْم كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح !