كي لا يحتجب القمر

ميساء الهواري

لوحت رايات الأصيل، وآذنت الشمس بالرحيل حتى توارت بالحجاب، فاتشحت الأرض بالسواد، وضمها صمت طويل، وطوّقها سكون عليل، وبت أرقبها والظلام يرخي سدوله على أطرافها ويمسك بتلابيبها، حتى أعطته زمامها، فلمَّا جنَّ عليَّ الليل، رأيت القمر بازغاً، فلمَّا رأيته أكبرت جماله ووهج سناه، وعظم في نفسي محاربته للعتمة الحالكة الملتفة حوله بهذا الشعاع الرقيق الدقيق، ودأبه على ذلك منذ الأزل بجلد وثبات، وفجأة وبينما أنا غارقة في تأملاتي، انتشلني منها احتجاب ضوء القمر وخفوته، فانتبهت فإذا بضع غيمات وقفت قبالة القمر تسد في وجهه الأفق، والقمر شارد عنها غافل لا يكاد يشعر بها وهي تمنع نوره عن الأرض وعمن به يهتدون، دهشت لهذه الحال وذلك الوضع، ووقع في نفسي شيء من العتب والأسى عليه، أيها القمر أين نورك، وأين بريقك؟ أين ضياؤك، وأين بهاك؟ من للضالين وحيارى الدرب في لجج الظلمات سواك؟ كيف يصِلون؟ وبمن يسترشدون؟ ومن يهديهم سبل الرشاد؟ كيف تسمح لتلك الحجب أن تحبسك خلفها، وأن تمنع نورك؟

أتراك لا تشعر بها أم أنك لا تبصرها وتعيها؟ والأغرب من ذلك أني بقيت ساكنة وظللت ساكتة لم أحاول تنبيه القمر أو استرعاء نظره، كما لم أحاول إبعاد هذه الحجب عنه أو تخليصه من أسرها ولا حتى بالدعاء، بل بقيت أنتظر أن تأفل هذه الحجب من تلقاء نفسها، أو أن ينتبه القمر لوضعه فيغيره، أو أن ينبهه أحد ما غيري، وبعد برهة أطلَّ عليَّ وجه القمر من فجوة بين السحب ينظر إليَّ، فسعدت بشدة لهذا وحدقت إليه، فلاحت لي منه نظرات عاتبة حزينة تسألني: لماذا؟ ما الذي تنتظرين؟ مالي أراك جامدة لا تنطقين حرفاً، لمَ لمْ تنبهيني ولم تشعريني بغفلتي؟ وتوقظيني من سباتي؟ من لي غيركِ يوجهني ويرشدني ويسدي إليَّ النصح، ويقيل عثرتي ويصوب خطأي، وأنت صديقتي ورفيقة دربي، سرت وإياك على طريق الهدى، ونهج الحق سوياً، هدفنا واحد، شركاء في سعينا، ووحدة غايتنا؟ فكيف بعد هذا كله وبعد كل ما بيننا، تقفين بلا حراك ولا تهبي لنصحي، وتوجيهي وإهداء عيوبي لي؟ إني والله عليكِ لعاتبة، وحق لي ذلك، نعم أخيَّتي الحبيبة ورفيقتي على درب الصلاح: إنه ليعتب على مثلكِ مثلي، وأنتِ أنتِ، أنت من سدًّدت خطواتها خطواتي على دروب الحق والهدى والصلاح، وتعاهدت وإياها وتواعدت على نصرة الحق وإحقاقه، ودحض الباطل وإزهاقه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الضال، والأخذ بيد الحائر، وإسداء النصيحة لمحتاجيها، أفبعد كل هذا وأنتِ أقرب الناس إليًّ ومن لا يخفى مني شيء عليها، ألا أكون أحق الناس بنصرتك ونصيحتك والأولى بمعروفك والله تعالى يقول: )الأقربون أولى بالمعروف( ورسوله صلى الله عليه وسلم يأمر:)انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً( نعم أخيَّتي إني لأعتب عليكِ أن تتركي للسحب والحجب منع ضوء القمر دون أن تكبدي نفسك مشقة إبعادها عنه، ولا حتى برفع الأكف له بظهر الغيب، و أرجوكِ أن تكوني النسمات اللطاف التي تقشع السحب عنه وتحرر شعاعه، ليظل ساطعاً منيراً، كيلا يحتجب القمر.