غرسه.. ومات!
عبدالهادي العوفي



أخي العزيز "أبومالك" أحسن الله إليك:
أعلم أنك لن تقرأ أسطري الحيرى هذه، لكن عزائي أن تمر عليها أهداب (أحبابك) فيرفعوا أكفهم لتمتلئ قبة السماء بدعواتهم الحارة.
غريبة يا أخي، بل نادرة تلك المواقف التي تمتزج فيها الدمعة بالبسمة، يورق فيها شجر الحزن، وتزهر في اللحظة نفسها أزاهير السرور.. يختلط فيها نشيد الفرح بنشيج الترح!
جاء ذلك اليوم، بيد أنّه لم يكن كسابقه من الأيام، جاء ليزف لنا البشرى، بشرى رقيك وسموك!

ما زلت أذكر كم كان يؤرقك ذلك النداء الخالد "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"،فيترجم ذلك الأرق والهم لعمل وإنتاج، فلا تظل تلك الأحاسيس حبيسة قلبك ذي الصمام المريض!
كم من الاهتمامات ازدحمت في قلبك العليل: ابنك "مالك" الصغير، ذو اللثغة المحببة، العائلة "مستورة" الحال، الوظيفة ذات الدخل المحدود، الدعوة.. نعم إنّها هي التي ملأت قلبك فلم نرك إلا سباقاً لها، لكأنك كنت تتنفسها.
ما زلت أذكر قبل بضع سنوات، كيف كان أقاربنا ينادونك "محمد الدقن" لكنك دوماً مبتسم، تحنو، تحدب عليهم، تعطف على من يسخرون، تستوعب أخطاءهم، بل وحماقاتهم أيضاً، ومن بعد ذلك تنساب نصائحك الرقيقة كجدول رقراق بارد، صافية كقمر ضاحيتنا "ذو الحليفة" لتطهّر وتصفّي النفوس، كل هذا وأنت مبتسم، فحق لنا أن نسميك بعدها "أبو بسمة".
كنت فقط تزرع أشجار العطاء، وفسائل المعروف، تسقي أرضاً جدباء، بعد أن تجتث تلك الشجيرات الشوكية السوداء، فتغدو أرضاً مخضرة بإذن ربها، تبذر البذور حتى على الصخور، وإذا ما عوتبتَ في ذلك قلت: "ربما رياح تحملها لأراض خصبة، بل ربما تتفتت الصخور، وتغدو أرضاً معطاء كبيادر السنابل، أو ليس منها ما يهبط من خشية الله؟" وتضرب مثلاً توبة الفضيل بن عياض، ثم لا تفتأ تكرر المثل البسيط الجميل: "إن الإيمان في القلوب كقطعة السكر في فنجان الشاي، فقط يحتاج لتحريك لتحس بحلاوته".
لكن! ما بال القلب؟ أهو العطب؟!
كنت تقتات المعاناة متجلداً، وتحتسي مرارة الألم صابراً، فتزيدك صفاءً ونقاءً وطهراً، فما الآلام إلا رياضة نفسية تشتد بها النفوس، وتصلب فلا تهدها أثقال الحياة.. لكن الطّامة أن تمرض الروح فتتخبط في الوحل والطين.
قال لك اختصاصي القلب: قلبك عليل ولا يحتمل جهداً زائداً على الوظيفة، تحتاج للراحة. كان يظن أنّك تعمل وقتاً إضافياً لاهثاً وراء الفتات!
بيد أنَّك لم تفتأ تلتقط أشلاء النفس المبعثرة، المرهقة، المتعبة، المضناة بالكبَد والألم، لتجعل منها عبداً لبارئها، تحدوك وتعللك تلك المرتبة والدرجـة الشـريفة }ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين{.
تتحسس حطـام القلوب، تجمعها نصائحك من جـديد، لتؤلف منها ـ بفضل ربك ـ قلباً صالحاً.. بما تعني هذه الكلمة من معنى.
يزداد خفقان القلب، ينقبض، يضيق، وما تزال على الدرب الوضيء، يد ترشد وتعلم، وأخرى تشد على القلب.. الآلام شديدة لكنها لا تظهر على صفحة الوجه، فلا مكان إلا لبسمة كما عودتنا، أمّا مكان تكسر الآهات والأنَّات ففي الصدر فقط.
"لا بد من السفر إلى لندن لإبدال الصمام" قال ذلك الطبيب، وبسرعة لاح في خاطرك: "هناك كثيرون عطشى، وجوعى للنور، إذن فلأبدأ ومن الآن".. كُتُب بلغات مختلفة، أشرطة لمحاضرين ودعاة، كان هذا "عفشك"! حتى ظننا أنّها رحلة دعوة كالعادة وليست رحلة علاج! لكن الأمر كان سيَّان.
وخلال فترة علاج قلب مجروح معلول، تدب الحياة في قلب ميت، يولد أحد القوم الشقر هناك، يخرج من رحم الضلال لفسحة النور، لكن القلب الأوَّل بدأ يذوي، يذبل كما الزهرة!
وفي بلد الغربة، وعلى ذاك السرير الأبيض كقلبك كانت النهاية، وما أروعها وأطيبها من نهاية! عشر تشهدات نطقت بها، لطالما أرقك عدم انتشارها!.. وتفارق دار الكبَدِ والألم، مبتسماً كما عهدناك، وماذا يهمك وقد نطقت بالشهادتين عشر مرات؟! فيا له من وداع!
لقد علمتني ـ يا أبا مالك ـ أنّ الإيمان بالفكر يصنعُ من الوهن قوة، ومن القبح جمالاً، ومن الجبن شجاعة..
وتغادرنا.. بيد أنّ صوتك ما يزال يتسرَّب لأذني كما يتسرَّب الأمل الحلو، كنسائم وادي العقيق المبارك الهادئة، يهتف بي: "لأن يهدي الله بك رجلاً خير من الدنيا وما فيها".
رحمك الله يا أبا مالك، فقد كنت مؤثراً في حياتك وحتى عند وداعك!