الخسوف: دروس وعبر
د. أمير بن محمد المدري
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء، وإمام المتقين وأشرف المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
عباد الله:
إن الأحداث والعبر والمواقف والقصص والمواعظ لا يتعظ بها إلا المؤمن. لا يعتبر منها إلا صاحب القلب السليم والنفس الزكية إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37].
لا يتأثر بالأحداث والعبر والمواقف والقصص والمواعظ وسرعة الأيام إلا من يخشى الله وعذاب الله.
قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ [هود: 103].
يرى الناس فلاناً تزوج، وبعد شهر من زواجه يموت.. ومن هجروا مناصبهم ليلقوا ربهم بعد أن ذاقوا الموت.. ألا ما أقرب الموت ما أقرب أن يقول الناس مات فلان وهو أنت يا عبد الله.
أخي الحبيب:
تزود من التقوى فإنك لا تدري
إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من فتًى أمسى وأصبح ضاحكًا
وقد نُسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم
وقد أُدخلت أجسادهم ظلمة القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لعرسها
وقد قُبضت أرواحهم ليلة القدرِ
وكم من صحيحٍ مات من غير علة
وكم من سقيمٍ عاش حينًا من الدهرِ
فمن عاش ألفا ثم ألفين إنه
ولا بد من يوم يسير إلى القبرِ
أين سيأتينا الموت وفي أي مكان؟ يعلم الله... اللهم أحسن ختامنا يا رب العالمين.
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ [النساء: 78].
أخي الحبيب: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
عباد الله: ما أكثر المواعظ هذه الأيام، قبل أيام وقع خسوف للقمر، والمتأمل يرى أنه ما كان يحدث قديماً خسوف للقمر ويسمع به الناس إلا نادراً، أمّا في زماننا فقد كثُر الخسوف والكسوف والأهوال العظام، فلا بد أن يعتبر المعتبرون ويتعظ المتعظون ويخاف الخائفون.
الخسوف آية من آيات الله وهذه الآيات لا يُرسلها الله لنا عبثًا ولا سدى إنما يرسلها تخويفًا لعلنا نخاف، لعلنا نرجع ونعود، يقول الله سبحانه: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59].
عباد الله: إنّ حكمةَ الله اقتضت أن العبادَ ما عملوا عملاً على خلاف شرع الله إلا وعاقبهم من العقوبات في الدنيا ما يكون فيه اعتبارهم، وما من عقوبةٍ إلا وبينها وبين المعصية تناسبًا ظاهرًا أو باطنًا.
هذه الآية رسالة إلى كل عاص، إلى كل مقصر، إلى كل مضيع لأوامر الله: أن لهذا الكون خالقاً مدبراً حكيمًا لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون لو كان كيف يكون.
إنها رسالة أن تنتبه يا عبد الله من غفلتك من معاصيك فإن لك موقفاً بين يدي الله لا محالة يحاسبك فيه على الصغير والكبير والفتيل والقطمير.
إنها رسالة أن هناك ما هو أشد من الخسوف والكسوف والزلازل والبراكين، إنه الموت والسكرات والقبور الموحشات والصراط والميزان والحشر والنشر والوقوف بين يدي رب الأرض السماوات.
في هذه الآية - عباد الله -: رسالة أن كل ما في الكون خاضعاً لله خاشعاً له مُطيعاً لأوامره.
قال جل في علاه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18].
عباد الله: انظر إلى الكون كله من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه لتتعرف على وحدانية الله، وعظمة الخالق جل في علاه.
انظر إلى السماء وارتفاعها، والأرض واتساعها، والجبال وأثقالها والأفلاك ودورانها، والبحار وأمواجها.
انظر إلى كل متحركٍ وساكن، والله إن الكل يقر بتوحيد الله ويعلن السجود لله، ولا يغفل عن ذكر مولاه إلا من كفر من الجن والإنس ولا حول ولا قوة إلا بالله.
انظر لتلك الشجرة
ذات الغصون النضرة
كيف نمت من حبة
وكيف صارت شجرة
ابحث وقل: من ذا الذي
يُخرج منها الثمرة؟!
ذاك هو الله.. الذي
أنعمه منهمرة
يتبع