"أن تكون حنبليا"
(١)
لا يشك من له أدنى مسكة من إنصافٍ أن المذهب الحنبلي ما كان له أن ينال حظَّه في جزيرة العرب -السعودية خاصةً- لولا جهود أئمة الدعوة النجدية ثم من سار على منهاجهم وحمل لواء المنهج السلفي.

والمذهب ليس له من قائمةٍ الآن إلا ما تراه في هذه الجزيرة، ودعْ عنك من يُهوِّل بذكر بعض بيوتاتٍ هنا وهناك، في الشام أو في غيره، زاعمًا أنك لن تجد المذهب حقا إلا بين ظهرانيهم، ولو فتشتَ في حال كثير منهم لم تجد أزيدَ من مداولةٍ لإجازات مكتوبة ومسموعات مجردة لا يحفل بها إلا ضعاف المحصلين ممن لم يشغل وقته بمعالجة أصول المذهب وفروعه.

وتصفح الدواوين الكبرى لأئمة الدعوة النجدية لترى كيف كان المذهب حاضرًا في كتبهم ورسائلهم وفتاويهم، بمختلف طبقاتهم، ثم ورث ذلك عنهم من تبعهم، حتى أتت طبقة العلامتين محمد بن إبراهيم وعبد الرحمن بن سعدي، ثم طبقة تلاميذهما، ولا سيما العلامة ابن عثيمين الذي كان له أعظم الأثر في بيئتنا العلمية في ربط طلاب العلم بكتب المذهب، من خلال شرحه للزاد وحاشيته على الروض وكتاباته ودروسه الفقهية الواسعة التي لها اتصال ظاهر بكتب الحنابلة.

وانظر إلى كثير من النسخ الخطية لعُمَدِ كتب المذهب والتقاييد المعلقة على طررها تجدْ كثيرًا منها عائدًا إلى حقبة مدرسة الدعوة النجدية وما تلاها، مع وجود أخرى عائدة إلى حنابلة نجد قبل ظهور دعوة الشيخ .. لكن ديمومة المذهب إنما نمت وترعرعت في ظل دعوة الشيخ، وأما من قبله فقلما تجد مصنفات سوى ما جمعه ابن منقور في خزانته الغنّاء "الفواكه العديدة" مع فتاوى وكتابات يسيرة حفظتها لنا بعض دور المخطوطات والمكتبات الخاصة.

وانظر إلى الروض المربع وجملةٍ من حواشيه المطبوعة -دع عنك ما لم يطبع بعد- إلى من تنتسب؟ كحاشية أبي بطين، والعنقري، وابن قاسم. وانظر ما فيها ولا سيما حاشية العنقري من وفرة النقل عن محققي المذهب من أحلاس المتأخرين، ولا سيما الخلوتي وتلميذه ابن قائد.

وسواء كانوا ملتزمين بالمذهب التزاما تاما، أو كانوا يخرجون عنه لمذهب آخر لقوة دليله، فذلك لا يخرم من حنبليتهم شيئا، فالمذهب نظام نظر واجتهاد، وليس مجرد تلقٍّ وتقليد، والعبرة في أن يكون الناظر في الفقه متضلعا من كتب المذهب ناهلا من أصوله عابًّا من فروعه، ثم إذا بدا له بعد ذلك مرجوحية مذهبه في مسألة فله مندوحة في الخروج عنه.
وهل يشك عاقل في أن مثل العلامة أبي بطين من كبار أئمة المذهب؟! وهل خروجه عن المذهب في كثير من المسائل ينزع عنه حنبليَّته؟! وقل مثل ذلك في كثير غيره.

ولست أعني بما تقدم حصر الجهود الخادمة للمذهب فيما قامت به المدرسة النجدية ووُرَّاثها، فمن يخفى عليه مثل جهد ابن فيروز وغيره، ولكن البحث في البيئة التي كان لها الفضل في حياة المذهب وبقائه على النحو الذي نراه ونعيشه.

(٢)
لكنَّ بعضهم كبُر عليه أن يكون للدعوة النجدية ورجالها هذا الفضل في بقاء المذهب وحيويته، فلم يجد بعد ذلك من سبيل إلا الطعن في تاريخ الدعوة ورجالاتها ووُرَّاثها، متتبعا بعض السطور التاريخية المبتورة عن سياقاتها تتبعَ سفهاء الصحافة ليصرف الطلبة عن إرثهم العلمي وجهودهم المعرفية.

وأنتَ إذا نظرت إلى حال كثير ممن هذه صفته لم تجد له في واقع الأمر كبيرَ اشتغالٍ بالمذهب تحصيلا وتدريسا، قراءةً وإقراءً، بل تراهم يتمادحون بوريقات مسودة بسلاسل من الأسانيد الموصولة بإمام المذهب مشفوعة بإجازات خاصة وعامة، يظنون أنفسهم بها قد بلغوا الغاية في حذق المذهب ودرايته .. وهيهات!

ثم لم تقف بهم الحال عند ذلك، بل تسلطوا على كل من تعلق بالمنهج السلفي وقال به.
وإني لأعجب إلى حال بعضهم حين أرى الخصومة تبلغ بهم إلى حالٍ من الصد عن المشتغلين بالمذهب حقا لا لشيء إلا لأنهم سلفيون!
وكل من يتابع الحالة العلمية لا تخطئ عينه بعض الأشياخ الذي صرفوا أعمارهم خدمة للمذهب تدريسًا له وإقراءً، وكثيرٌ منهم ملتزمٌ بالمذهب بحيث لا يكاد يخرج عنه، ومع ذلك لا ترى لهم ذكرًا لدى هؤلاء، لأنهم في نظرهم سلفيون، وفي المقابل تجدهم يتقارضون المديح مع بعض الأشاعرة ومخلّطي المتفقهة ويذيعون جهودهم وينشرون بعض مكتوباتهم.
أليس هذا دالا على أن مشروعهم مناهضة السلفية لا خدمة المذهب!
ثم أين هي دروسهم وكتاباتهم في تحرير مسائل المذهب أصولًا وفروعًا؟!

(٣)
لم يقف الأمر عند ذلك، بل سلطوا سهامهم على بعض التحقيقات العلمية للكتب الحنبلية، ولما لم يجدوا مطعنا فيها إلا بضعة أسطر -لهم في بعضها حق النقد دون بعض- نفخوا فيها، وأعرضوا عن جهود مؤسسات على مدى عقود خدمة للمذهب وكتبه، ممن لولا جهودهم لم يكن لأولئك كبير علم بمسائل المذهب.
ومن أجل تلك السطور المنتقدَة صاروا ينادون بتنقية المذهب من الشوائب والتحريفات، وفتحوا مآتم التظلُّم للمذهب والأسى على الطاعنين فيه، فأضحكوا عليهم العقلاء، (ولكنه ضحكٌ كالبكا).

بل تمادوا حتى صاروا يحاسبون المحققين -ما داموا سلفيين- فيما يكتبونه في هوامش تحقيقاتهم! وهل هوامش التحقيق إلا ملك للمحقق يعرض فيها ما يشاء ولو خالف نص الكتاب المحقَّق!

من أجل ذلك سعى بعضهم في تحقيق بعض كتب المذهب، فانتظرنا، فلما طالَعَنا بتحقيقاته علمنا مقامه من الإتقان.
فصرنا نرى دعاويه في التحقيق والمقابلة على النسخ الخطية دون أن نرى لذلك أدنى أثر في هوامش تحقيقاته من ذكر الفروق بين تلك النسخ! مع ضعف في قراءة النص وإخلال بالشكل والترقيم، دع عنك غياب الخدمة العلمية للمضمون، كل ذلك بالقدر الذي يدل على ضعف الفهم وفتور الاشتغال بالمذهب، وقد كان علينا تجاوز ذلك واغتفاره لولا أنه ابتدأ بتسليط سهامه على غيره، فكان عليه أن يثبت أهليته، ولكن العلمَ عسيرٌ لا ينال بالتمني، (وإني لا أبتدي،ولكني أعتدي!).

بعد ذلك كله، وبعد أن أدركتَ أن خدمتهم للمذهب مجرد ضوضاء، تدرك جليا من هم حُماة المذهب والعاملون به الداعون إليه، ومن الذي اتخذ من المذهب شعارا للمعاداة.
وماذا جنينا من ذلك إلا إلقاء الشوك في طريق المتمذهبة، والصد عن مجالس الفقه، وتلقين المبتدئين التصنيفَ الجائرَ لفلان وعلان، والضحية هو المذهب نفسه.

(٤)
علينا أن نحمي المذهب من الورَّاقين الذين يظنون التمذهب صناعةً ورقيَّةً، أو يتعاملون مع كتب المذهب على أنها كتب مُلَح ولطائف، دون أن يعالجوا صلب الفقه ويرتاضوا بالتحذُّق فيه.

خذ نبذًا من متين التفقه الحنبلي:
-ضبط المتون المختصرة والبصر بزيادات بعضها على بعض.
-معايشة شروح البهوتي والاستهداء بما فيها من تحرير المذهب ودقائق الأبحاث.
-دراسة ما بين التنقيح والمنتهى والإقناع والغاية من وفاق وخلاف.
-دراسة اتجاهات الشيخ مرعي ومقامها من المذهب
-دراسة تعقبات الحجاوي على المنقح وأثرها فيمن بعده.
-تصيُّدُ تحقيقات وتحريرات الخلوتي وابن قائد وغيرهم من متأخري المتأخرين وتعقباتهم واستشكالاتهم وتحرير القول فيها.
-تلقي الانتقادات الموجهة على المذهب: نقدًا لمعتمده منهجًا أو استدلالًا، تضعيفًا لفروقه، قدحًا في أصوله وقواعده .. ومعالجة ذلك وإبانة مآخذ المذهب ومدركاته.

كل ذلك وغيره كثيرٌ كثير، متى يفرغ له الحنبلي إذا كان شغله الشاغل بعث تلك الضوضاء وانتقاد هذا الرجل والقدح في هذا المنهج والطعن في ذاك التيار.
لم لا يعين بعضنا بعضا في خدمة المذهب، كلٌّ بما آتاه الله، دون أن نشتغل بقليل من الفتات معرضين عن إرث مذهبنا العظيم؟!
لم لا نشغل طلاب المذهب بحقيقة المذهب، دون أن نشغله ببعث المزيد من الضوضاء؟!
إذا كانت لنا دراية بالمذهب وخبرة بما فيه فلم لا نعمر أوقاتنا بدراسته وتدريسه ومدارسته بدل أن نجهد في بخس الناس أشياءهم ظانين أنَّا بذلك نجاهد في سبيل المذهب؟!

خذها وامتحن بها نفسَك وخاطب بها كلَّ مدَّعٍ:
أن تكون حنبليا فذلك يعني أن تشغل وقتك ليلا ونهارا سياحةً في كتبه، ضبطًا لفروعه، وحذقًا بأصوله، وتحريرًا لمشكلاته، وموازنةً بين مختارات أعلامه، ومثافنةً لأشياخه المتحققين به، ومدارسةً لأصحابه المشتغلين به، ثم تدريسًا لطلابه الراغبين فيه.

هكذا، وإلا فـ (دع عنك التمذهب لست منه *** ولو سوَّدتَ وجهك بالمداد)

٤/ ١١/ ١٤٣٩هـ