الهواء الخصيب

نوال العيد


كثيراً ما تمر بكِ الأحداث، لكن القليل منها تحفظه الذاكرة، وتجدكِ تتأملينه في أوقات الفراغ، ومواطن التأمل، لتعقدي مقارنة سريعة إن كان هناك وجه مقارنة بين مواقف عديدة في حياتكِ وما مر بكِ.
ومن المواقف التي تستوقفني كثيراً، لتلح علي بالتقصير، وتشعرني بتدني الهمم، وتورثني حزنا على ما أنا فيه، ما عايشته لما كنت معلمة في دار تحفيظ في بلدتي، قد ارتقيت درجات البوابة كيما أدخلها، خلعت ردائي، وشعرت كما هو الحال كل يوم بفرحة تعلو قلبي، كيف وهذه حلقات ذكر وخير، قد باهى الله بأهلها الملائكة، وجعلها رياض الجنة في أرضه، قابلتني أم عبد العزيز، امرأة أحبها كثيراً، ذاك أن شعرها قد شاب حقا إلا أن قلبها ما زال شابا، صافحتها بحرارة، سألتها عن أحوالها: ما لي أراك يا خالة على غير عادة؟ يبدو وجهك شاحبا، يا الله وأرى في يدك أثراً وغز إبر، بل وموضع أخذ محلول.. ضحكت ثم تبع ذلك عتب: أما علمت بنية أني أمكث في المستشفى لتعاطي العلاج، ووقت الدرس أستعين بالله لحضوره لأني أدرك أنه العلاج الحق، ثم أعود أدراجي لأضطجع على سريري، آيبة بإذن الله بشوق بقدر ما حفظت، نظرت للساعة بدأ وقت الدرس، إلى اللقاء يا أم عبد العزيز، و أراك على خير إن شاء الله، أعظمت ذلك منها، وشكرت لها سعيها، وسألت الله أن يتقبلني وإياها، كم أنتِ رائعة أم عبد العزيز، وأمثالك في الصغار ندر فكيف بالكبار، ما أجمل الهمة حين تعلو، ولا تعتصر على صغير أو شاب، بل تجدها في قلب رجل قد شاب رأسه واحدودب ظهره، لأنه قديماً قيل: بقدر ما تتعنى تنل ما تتمنى، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة سيد ولد آدم، لأن الهمم دون همته تتصاغر ثم في صحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وذكروا لشعبة حديثاً لم يسمعه فجعل يقول: "وا حزناه" وكان يقول:"إني لأذكر الحديث فيفوتني فأمرض".
كم فرحة ذهبت فعادت غصة
تشجى بطــول تلهف وتندم
ثم أسوقها وصية لطالبة العلم هذه الأيام هامسة في أذنها قائلة لها: لا يضرك التفرد، فإن طرق العلاء قليلة الإيناس، وقد سمع عمر رجلاً يقول: "اللهم اجعلني من الأقلين. فقال: يا عبد الله وما الأقلون؟ قال سمعت الله يقول: {وما آمن معه إلا قليل} وقال: {وقليل من عبادي الشكور} وذكر آيات أخرى، فقال عمر: "كل أحد أفقه من عمر".
وكبيرو الهمة قليل بين الناس يتسابقون إلى المكارم، لا يكلون ولا يملون إلا أنهم كالعملة النادرة يصدق عليهم ما رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة لا يجد الرجل فيهم راحلة".
و الهمم العالية لا تعطى الدنية، ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور.
إضاءة:
قلت للصقــر وهــو في الجــو عــال
اهبــط الأرض فالهــواء جــديب
قال لي الصقر: في جناحي وعزمي
وعنــان السمــاء مرعى خصـيب.