يعرض الكتاب لمؤلفه محمد الأرناؤوط، تجربة ألبانيا في القرن العشرين باعتبارها دولة إسلامية أوروبية، غير مستقرة بسبب اعتاءات جيرانها عليها، مما جعلها بين الحربين العالميتين ساحة للصراع الإقليمي والدبلوماسي والابتزاز السياسي بين مجموعة من الدول الكبرى (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا).

ووجد الألبان أنفسهم مشتتين ضمن دول عدة لا ترغب فيهم (صربيا والجبل الأسود واليونان)، بينما لم تتسع ألبانيا إلا لنصف الألبان.

وضمن المخاض الصعب الذي ولدت فيه ألبانيا فقد كانت أول دولة إسلامية تقوم منذ لحظة تأسيسها على العلمانية التي كانت تمثل قطيعة كاملة مع النظام العثماني الذي استمر قرونا عدة.

يعرض المؤلف في الجزء الأول من الكتاب تاريخ ألبانيا السياسي منذ العهد العثماني حيث أصبحت جزءا من الدولة العثمانية في عام 1382، إلى الدولة الألبانية المستقلة في ظل نظام سياسي علماني مختلف عن الدولة العثمانية.

وقد كانت ألبانيا في أثناء الحكم العثماني تتمتع بحكم شبه ذاتي، وساعدها ذلك على الاستقلال بسهولة، وإن كان الألبان على مدى القرون الماضية يشكلون جزءا أساسيا من بنية الإدارة والجيش في الدولة العثمانية.

ولكن مع تنامي الحركات والنزعات القومية والاستقلالية في القرن التاسع عشر بدأ الألبان يسعون لتشكيل دولتهم المستقلة، ودخلوا في مواجهات مسلحة مع الدولة العثمانية، وتشكلت الرابطة الألبانية، وهي حركة سياسية على أساس القومية الألبانية، ووضعت في عام 1878 برنامجا لها يقوم على ضم المناطق الألبانية في ولاية واحدة تحمل اسم ألبانيا ضمن الدولة العثمانية، واعتماد اللغة الألبانية في الإدارة والتعليم والحياة اليومية.

وبدأت الرابطة الألبانية تنشط في اتجاه توسيع علاقاتها مع الأوروبيين للاستعانة بهم في مواجهة الدولة العثمانية، ونشطت أيضا الحركة الفكرية للتنظير للقومية الألبانية وإحياء اللغة والهوية والوعي بالذات.

وكان من أهم منظري القومية الألبانية باشكو فاسا وهو ألباني كاثوليكي، وقد كان من كبار موظفي الدولة العثمانية وشغل منصب متصرف جبل لبنان لأكثر من ثلاثين سنة، وتلميذه ورفيقه سامي فراشري الذي ينتمي إلى عائلة من البكوات المسلمين في جنوب ألبانيا، وتنسب إليه وإلى عائلته حركة النهضة الألبانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

ولكن كانت تجمع بينهم القومية والعلمانية دون معاداة للدين/الإسلام، وربما كانت التعددية الدينية لدى الألبان تشجع قادتهم على الفصل بين الدين والتعليم وبين الدين والسياسة.

وقد أدت الأحداث السياسية في أوائل القرن العشرين، وبدء انهيار الدولة العثمانية، ثم حرب البلقان التي مهدت للحرب العالمية الأولى إلى إعلان الدولة الألبانية المستقلة في عام 1912.

ولكن في الحقيقة لم يعد مصير ألبانيا بيد الألبان أنفسهم بل أصبح بأيدي القوى الكبرى التي وافقت على قيام دولة شبه مستقلة للألبان ولكن بشرط أن تكون محايدة وتحت وصاية ورقابة ست دول، هي: ألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا. وتركت حدود ألبانيا مفتوحة لمزيد من المفاوضات بين الدول المعنية دون مشاركة الألبان أنفسهم.

ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وانعقاد مؤتمر الصلح في باريس بين 1919 و1920، جددت الدول المعنية بمعاهدة لندن السرية مطالبها في ألبانيا التي بقي مصيرها معلقا حتى مطلع عام 1920.

وهذه المعاهدة التي عقدت في عام 1915 تقضي بتقسيم ألبانيا بين إيطاليا واليونان ويوغسلافيا التي أصبحت تضم صربيا والجبل الأسود، ولكن نشأت حركة مقاومة ألبانية واسعة أفضت إلى تشكيل حكومة ألبانية برئاسة سليمان دلفينا وتأسس مجلس أعلى للدولة يتولى مهمات رئاسة الدولة إلى أن يبت في نظام الحكم.

وقد أجبرت هذه الحكومة القوات الإيطالية على الانسحاب من ألبانيا، واعترفت الدول الكبرى باستقلال ألبانيا، ودخلت في عضوية عصبة الأمم في عام 1920.

وجرت انتخابات برلمانية في عام 1921، واختار البرلمان أعضاء المجلس الأعلى للدولة الذي عين بدوره أحمد زوغو رئيسا للحكومة، وقد تميز عهده بإصلاحات واسعة في التعليم والزراعة والتشريعات والإدارة، ثم اختير رئيسا للجمهورية (1925–1928) وملكا على ألبانيا (1928–1939).

كان أحمد زوغو قائدا لعشيرة ألبانية قوية ونافذة، وقد درس في إسطنبول وتعرف على جماعة الاتحاد والترقي وتأثر بهم وإن لم يكن معاديا للدين، وقد استطاع بقيادته لمقاتلي عشيرته أن يفرض الأمن والاستقرار ثم الاستقلال والسيادة لألبانيا في أوائل العشرينيات وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين.

ومن اللافت في أن الألبانيين تجاوبوا إلى حد كبير مع الأفكار والدعوات العلمانية، وكان تأييدهم لفصل الدين عن الدولة كبيرا ، وربما كان للتحريض الخارجي للمسيحيين الألبان أثر كبير في ذلك لأجل إثارة المشاكل والقلاقل تمهيدا لاحتلال ألبانيا، وهذا ما حدث في عام 1939 حين سقطت ألبانيا تحت الاحتلال الإيطالي.

يعرض المؤلف في الجزء الثاني من الكتاب الحالة السياسية العامة في ألبانيا منذ الحرب العالمية الثانية ثم دخول ألبانيا في الحكم الشيوعي أكثر من أربعين سنة.

وقد دخل الألبان في مواجهة مسلحة مع الاحتلال الإيطالي انتظم فيها جميع الألبان على مختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية والطائفية.

وصعدت في أثناء المقاومة المجموعات الشيوعية، وشكل الحزب الشيوعي جبهة التحرير الوطنية في عام 1942 وكان لتغاضي الحزب عن الاحتلال اليوغسلافي لكوسوفو دور في انقسام الجبهة وتشكيل الجبهة القومية برئاسة مدحت فراشري، وحدث نزاع مسلح أقرب إلى الحرب الأهلية بين الشيوعيين والقوميين والليبراليين، وانتصر الشيوعيون في هذه الحرب بفضل مقاومتهم للألمان التي عادت عليهم بالدعم من الشرق والغرب.

وهيمن الشيوعي أنور خوجة على الحكم في عام 1944، وسيق قادة الجبهة القومية إلى الاعتقال والسجن والإعدام، وحظرت الأحزاب السياسية عدا الحزب الشيوعي، وأعلنت ألبانيا جمهورية شعبية في 11 يناير عام 1946 برئاسة أنور خوجة.

وبدأت الحكومة الألبانية متأثرة بالثورة الثقافية في الصين في عمليات واسعة للقضاء على المظاهر الدينية وإغلاق المساجد، بل وصدر عام 1967 مرسوم "منع الدين" ليسحب اعتراف الدولة بالمؤسسات الدينية الموجودة في ألبانيا.

وبهذا المرسوم أصبح وجود المظاهر الدينية غير قانوني، واعتبرت الأنشطة الدينية من الجنايات التي يعاقب عليها القانون بالإعدام، وصودرت ممتلكات المساجد والكنائس والمؤسسات الدينية، وشتت رجال الدين بين معسكرات الاعتقال والسجون ومعسكرات العمل والإقامة الجبرية.

وبوفاة أنور خوجة عام 1985 دخلت ألبانيا في مرحلة جديدة من الانفتاح الحذر على العالم الإسلامي، ولكن التغيير الحقيقي لم يبدأ إلا بعد ذلك بسنوات مع تفاقم الأوضاع في أوروبا الشرقية، وفتح المسجد الوحيد المتبقي في ألبانيا عام 1986 وبدأت عمليات واسعة من ترميم المساجد وبنائها.


دخلت ألبانيا منذ أواخر الثمانينيات في مرحلة سياسية جديدة قائمة على الحريات والتعددية السياسية، وقد كانت في سنواتها الأولى تعبر عن تحول إيجابي كبير في ألبانيا نحو العودة إلى الإسلام والازدهار الاقتصادي، ولكنها في رأي المؤلف حملت تحديات ومخاطر جديدة لا تقل في تأثيرها وخطورتها عن مرحلة الحكم الشيوعي.

بل إنها تهدد الوجود الإسلامي في ألبانيا على الأقل من وجهة نظر الكثير من الكتاب والمفكرين الإسلاميين، بينما نجد قسما آخر من الكتاب المسلمين يعتقدون أن المرحلة الجديدة تحمل كثيرا من الفرص المهمة.

وكانت جامعة تيرانا قد شهدت في مطلع عام 1990 مظاهرات عنيفة ضد النظام السياسي، وطالبت للمرة الأولى بالتعددية السياسية، وأعلن بعد أيام تأسيس الحزب الديمقراطي كأول حزب معارض، ثم توالى تشكيل الأحزاب السياسية، الجمهوري والفلاحي والبيئة.

وانتهى الاحتكار الشيوعي عام 1992 عندما أجريت انتخابات عامة وفازت المعارضة برئاسة الحزب الديمقراطي بالأغلبية النيابية، وانتخب صالح بريشا كأول رئيس غير شيوعي منذ عام 1944، وأصدر البرلمان مجموعة من القوانين تشجع الحريات وحقوق الإنسان والحريات الدينية.

وتشهد ألبانيا موجة من العودة إلى الدين والحريات السياسية، ولكن تجربة الديمقراطية الجديدة التي أصيبت بنكسة قوية عام 1997 حملت تحديات جديدة للمسلمين.

ويشير المؤلف إلى الفرص والتحديات الجديدة التي تواجه المسلمين في ألبانيا خاصة بعد عام 1997، حين بدأت مع نهاية الحكم الشيوعي في ألبانيا نهضة إسلامية جديدة تمثلت في مئات المساجد التي بنيت، وفي المدارس الدينية والانفتاح على العالم الإسلامي، وفي تأسيس الجماعة المسلمة الألبانية ورابطة المثقفين المسلمين التي أخذت على عاتقها مسؤولية توعية المسلمين بدينهم بعد انقطاع صلتهم بالدين أكثر من أربعة عقود، وبدأ الحضور العربي الإسلامي يتزايد في ألبانيا، في العمل الخيري والتعليمي وفي بناء المساجد والمدارس.

وفي الوقت الذي شهدت فيه ألبانيا حركة إسلامية عامة، شهدت أيضا حالة مسيحية مشابهة ولقيت دعما كبيرا من المؤسسات التنصيرية الأوروبية والأميركية، وقد وصل عدد الجمعيات التنصيرية في تيرانا العاصمة إلى أكثر من 120 مؤسسة وجمعية، بينما لم يزد عدد الجمعيات الإسلامية الوافدة على 25 جمعية، وبدأت تظهر جماعات لم تكن معروفة في ألبانيا من قبل، مثل البهائية والإنجيلية والمعمدانية وشهود يهوه.

وكان التحدي الأكبر أمام الألبان يتمثل في تدفق مئات الألوف من الألبان إلى دول الجوار الأوروبية مثل إيطاليا واليونان بحثا عن عمل وفرص جديدة للهجرة والحياة.

وقد أرغم هؤلاء المهاجرون في اليونان على تغيير أسمائهم الإسلامية والتحول إلى الأرثوذكسية تحولا كان ظاهريا في البداية لكنه تحول مع الزمن إلى هوية جديدة بدأ يكتسبها الألبان المهاجرون.

وحدث تراجع اقتصادي كبير بحلول عام 1996 وأدى ذلك إلى تمرد يقوده الشيوعيون السابقون في جنوب ألبانيا، وقام المتمردون بهجوم كبير على ثكنات الجيش وبالاستيلاء على مخازن السلاح.

وفي مثل هذه الظروف عقدت الانتخابات البرلمانية المبكرة عام 1997 وفاز فيها الحزب الاشتراكي، وتمكن من العودة إلى الحكم، وقد جمدت الحكومة الجديدة عضوية ألبانيا في منظمة المؤتمر الإسلامي، وأقر دستور جديد.

وهكذا بعد سنوات عدة من الديمقراطية الجديدة، يقول المؤلف أصبح في وسع الكتاب المسلمين الذين طالما انتظروا الديمقراطية للتخلص من كابوس الحكم الشمولي أن يتحدثوا عن صورتين مختلفتين، عن الواقع والمستقبل.

الصورة الوردية المتفائلة، إذ كسب الألبان كغيرهم من الشعوب الحقوق الأساسية التي تشمل الحق في الإيمان والحق في اختيار أي دين، والصورة القاتمة المتشائمة، إذ إنه مع قدوم وانتشار الجماعات الدينية الجديدة والمتنافسة فيما بينها سواء المسيحية منها والإسلامية أصبح الوضع الجديد يهدد الهوية الفردية والقومية والتسامح الديني الذي كان يضرب به المثل في ألبانيا.