طلب الفقه على أيدي المشايخ
صالح بن صبحي القيم




طلب الفقه على أيدي المشايخ
قال: (وتلقين أستاذ) أي: مسألة الطلب,الأخذ عن المشايخ، وعدم الأخذ من الكتب فقط، والأخذ عن المشايخ مهم جداً؛ لأن الاقتصار على الأخذ من الكتب ضرره أكثر من نفعه، والأخذ من المشايخ يعطيك فوائد.

فوائد الأخذ عن المشايخ
والأخذ عن الشيوخ له ثلاثة فوائد:
الفائدة الأولى, (يقصر لك العمر): فإنك تأتي على مسألةٍ ما فتسأله فيها؛ كالقراءة خلف الإمام -مثلاً- فيلخص لك هذا المبحث الذي وصل البحث فيه إلى مجلد أو مجلدين في بضع كلمات.
ولو جلست تبحث في هذا الموضوع لمكثت عدة أشهر، لكن الشيخ يختصر لك الزمان.
فالإمام القرافي في بداية كتابه (الفروق) أول فرق بدأ به: الفرق بين الشاهد والراوي، قال: "وإنما ابتدأت بهذا الفرق لأنني ظللت ثمان سنوات أسأل عنه كل من ألقاه من أهل العلم، فما شفاني أحد".
كان له عشرات المشايخ، حتى وقف على كتاب (البرهان للجويني) فوجد فيه العبارة التي يريدها. فتقصير العمر يعني أن الشيخ يلخص لك الكتب.

الفائدة الثانية, (يسدد لك الفهم): كانوا قديماً يكتبون، وكان الناسخ من العلماء، أما الآن يخرج الكتاب وهو مليء بالتصحيفات، وقل أن تجد صفحة إلا وفيها عشرات التصحيفات، والتصحيف أكبر جناية على العلوم، وكانوا يقولون: "لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي". فإن القرآن الكريم الذي نقلته الأجيال عن الأجيال، بأعلى درجات التواتر، نجد من يخطئ في قراءته.
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في أخبار الحمقى والمغفلين: أن رجلاً عالماً دخل قرية من القرى، فاستضافه إمام هذه القرية وقال له: عندي بعض إشكالات في القرآن أريد أن أستشيرك فيها -وهو إمام الجماعة- فقال له العالم: تحدث، فقال: قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك ستين أم تسعين؟) وكانوا في الزمان الأول لا يعجمون الحروف -أي: لا يضعون عليها النقاط- فقد استحدثت هذه النقاط فيما بعد، فكانوا يكتبون بلا إعجام، فكلمة (نستعين) لو أهملت فقد تقرأ (تسعين)، فقال الإمام للعالم: وإياك تسعين أم ستين؟ ثم قال: وعلى أي حال فأنا أقرؤها(تسعين) أخذاً بالاحتياط!!.
وآخر من طلبة الحديث قرأ قوله تعالى: { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ } [الحديد:13] فقال: (فضرب بينهم بسنور له ناب).
فإذا كان التصحيف وقع في القرآن الكريم مع جلالته وعظمته وكثرة الحافظين له، فما بالك بكتب الفقه و الحديث التي لا يكاد يضبطها إلا أفذاذ أفراد بعد أفراد.
فكان لابد من الدراسة على أيدي المشايخ، فقد أصبحت ضرورة أكثر من أي عهدٍ مضى؛ لأن الطالب لا يميز الصحيح من التصحيف.

الفائدة الثالثة, (ويرزقك الأدب): وأفضل ما ينتفع به طالب العلم هو الأدب، أما الذي يقرأ من الصحف فهو من أجرأ الناس على العلماء، وما تجرأ هؤلاء الذين يتكلمون على العلماء ويشتمونهم ولا يعرفون قدرهم؛ إلا لأنهم لم يجالسوا العلماء.
وقد كان العلماء قديماً لهم خطة في تأديب التلاميذ، وكانوا يقسون عليهم قسوة لا يكاد يتحملها أحد.
فقد روى الخطيب البغدادي في كتاب (شرف أصحاب الحديث): "أن أصحاب الحديث كانوا يهجمون على الأعمش؛ لأنه إمام ثقة، والرواية عنه شرف، فأراد أن يؤدبهم وأن يطردهم من البيت؛ فاشترى له كلباً، أول ما يسمع صوت الأقدام اقتربت من البيت يطلق عليهم الكلب، وكان ممن يذهب إليه شعبة بن الحجاج و سفيان الثوري فيجرون أمام الكلب! والكلب يظل يجري وراءهم حتى يخرجهم إلى مسافة بعيدة ويرجع.
وهكذا، حتى كان ذات يوم اقتربوا من البيت وهم على حذر أن يخرج الكلب، فاقتربوا ولم يخرج الكلب، فهجموا عليه ودخلوا الدار، فلما رآهم بكى.
قالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي: مات الكلب!".
وبعض طلبة العلم يأتي حلقة الشيخ وقد استحضر نسبه وجاهه وماله، وهذا لا يصلح أن يطلب العلم، ولابد أن يكون عليه سمت طلبة العلم وإلا فإنه لن يفلح.
وكذلك ما يروى عن الإمام الشافعي أنه عندما ذهب يتعلم ويأخذ العلم عن محمد بن الحسن الشيباني - والإمام الشافعي أرفع قدراً في العلم وأتبع للآثار من محمد بن الحسن، مع جلالة الكل رحمة الله عليهم- فذهب الشافعي إلى محمد بن الحسن الشيباني وجلس في مجلسه كالتلميذ، وكان لا يعجبه بعض ما يفتي به محمد بن الحسن، فكان لا يواجه محمد بن الحسن في المجلس، ويقول له: أنت أخطأت، لكن كان الشافعي بعدما يقوم محمد بن الحسن من المجلس يقوم ويناظر بعض طلابه فيظفر عليهم، ولا يستطيعون الإجابة، فلما أكثر الشافعي عليهم شكوه إلى محمد بن الحسن، وقالوا له: "عندما تقوم من هنا يأتي و الشافعي فيلزمنا بإلزامات لا نستطيع أن نرد عليه، فلما جاء محمد بن الحسن وجلس في المجلس قال للشافعي: بلغني أنك تجادل أصحابي وتناظرهم، فهلا ناظرتني، فقال له الشافعي : إني أجلك عن المناظرة.
أي: لأنك شيخي، وأنت أرفع من أن يناظرك مثلي.
فقال له محمد بن الحسن : لابد أن تناظر.
فناظره الشافعي فظفر عليه، فرجع محمد بن الحسن إلى كثير من أقوال الشافعي، رحمة الله عليهم أجمعين".
وقد استعمل الشافعي هذا الأدب وهو عند مالك، فقال: "كنت أقرأ الموطأ على مالك فأصفح الورق صفحاً رقيقاً لئلا يسمعه مالك".
وهذا الأدب ورثه تلاميذ الشافعي، فهذا الربيع بن سليمان المرادي راوي كتب الشافعي، يقول: "والله ما جرئت أن أشرب الماء و الشافعي ينظر إليَّ".
فإنك إذا أردت أن تقصر عمرك أو تختصره في طلب العلم فاحرص على لقاء المشايخ، فإن لقاء المشايخ والتعلم والأخذ عنهم سنةٌ ماضية، وانكبابك وحدك على الكتب له مضار كثيرة، وهذه المضار لا توجد إذا تلقيت العلم عن الشيخ.
[سير أعلام النبلاء - الذهبي-].
[شرف أصحاب الحديث - (1 / 134)].

[دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني - (مفرغة)-].