الانفتاح على العصرنة بين تحديات الغزو وضرورات الرفد


نايف عبوش





لعل مِن نافلةِ القول الإشارةَ إلى أنَّ البلدان العربيَّة في مسيرة نهوضها المعاصر، لا تزال متلقِّيةً للعلوم والتقنيات ومستلزمات التطوُّر، بعد أن غابت عن ساحة العطاء لقرونٍ طويلة؛ ولذلك فلم يعد سرًّا القول بأنَّ الحالَ الراهن لها يتسم - كما هو معروف للجميع - بالتخلُّف العلميِّ والصناعيِّ، وانخفاض الإنتاجيَّة، والاعتماد على الخارج حتى في رغيف الخبز والدواء، وقد نتج عن ذلك الحال تخلُّفٌ مركَّب في كلِّ المجالات: العلميَّة منها، والتقنية، والاقتصادية، والصناعية، والاجتماعية على حد سواء، في الوقت الذي تتسارع فيه إيقاعاتُ التطوُّر في البلدان الصناعيَّة بوتائرَ متصاعدةٍ، مما فاقَمَ فجوةَ التطوُّر بشكلٍّ لافتٍ للنظر.








وتجدر الإشارة إلى أنَّ تفاقُمَ فجوةِ التطوُّر تجسد في ظاهرةِ انبهار حضاريٍّ بمعطيات الحداثة المدنيَّة المعاصرة، وتصاغر عربي متقزِّم أمام معطياتِها العلميَّة والتقنية والصناعية القائمة على المنفعة والكسب الماديِّ، الذي تستولده تلك المنجزات؛ حيث تَمَظْهَر ذلك الانبهار بشكلٍ جليٍّ بتبنِّي الكثير من مظاهرها المعاصرة كأنماط سلوك عمليٍّ في حياتنا اليوميَّة بشكلٍ آليٍّ، قاد إلى استلابٍ واضح، خلخل الكثيرَ مِن قِيَمِنا.



ومن هنا؛ فإنَّ استمرارَ تعطيلِ النظرِ في العلوم الطبيعيَّة، والتلكُّؤ في ولوج معتركها في الساحة العربيَّة والإسلامية، والاكتفاء بالتطفُّل على معطيات الحضارة الغربيَّة، والشعور بالتصاغُر المتقزم أمام منجزاتها، وعدم التفاعل مع معطياتِها بروح الاستيعاب التامِّ، والقدرة على الاختيار الصحيح لتدفُّقات المنجزات الإيجابيَّة من مخرجاتها، وإسقاط الضارَّةِ منها في معالجةِ إشكاليَّات تخلُّف الحال الراهن - سيعني ازديادَ فجوةِ التخلُّف عن مواكبةِ العصر، وتعميق حالة التبعيَّة العلميَّة والتقنيَّة، والإخفاق في تجاوز حالة التخلُّف، وبالتالي استمرار التأخُّر المزري عن اللحاق بركب الأمم المتطوِّرة.



ولذلك؛ فإنَّ الأمر يتطلَّب الشروعَ بتفعيلِ حالةِ التعامل الجادِّ مع معطيات العصرنة، وتنشيط حركة التفاعل الإيجابيِّ مع علومها، وتقنياتها النافعة، والعمل على توظيفها، وتسخيرها، وتطويعها بما يتلاءم مع واقع الحال العربيِّ قِيَمًا وسلوكياتٍ، وعدم الاكتفاء بما تغذِّيهم به الحضارة الغربيَّة من معطيات كما هي حرفيًّا، لاسيما وأنها مصمَّمة ومنتجة أصلًا لتحقيق حاجات، وإشباع رغباتِ سوقٍ ومجتمع آخَر، له غاياته وله أهدافه من وراء تلك الإنجازات.




ولعل التركيز الجاد على الانتفاع الكليِّ من قانون التسخير الذي ساقَه القرآن الكريم، باعتبار الإنسانِ خليفةَ الله على الأرض، وأنه مطالَب بإعمارها، من غير تكاسُلٍ في نشاطه الدنيويِّ عن تحقيق هدف الإعمار، وإشاعة الإصلاح، تناغمًا مع قاعدة: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ ﴾ [التوبة: 105] - يحفز الوجدان العربيَّ المسلم لاستلهامه بجديَّةٍ كاملةٍ، وهمَّةٍ عالية، في حركة الحياة اليوميَّة المعاصرة، وبعكسه فسيبقى الحال عندنا متخلِّفًا، ويبقى العوز في كلِّ المجالات قائمًا إلى أمدٍ قد يطول.