في رحاب البحث العلميِّ ومناهجه (1)
صلاح عباس فقير



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
عزيزي الباحث،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وبعدُ، فهذه نافذة مفتوحة على البحث العلميّ ومناهجه وطرائقه، في الدراسات الشرعيّة وغيرها، آمل أن يكون ساحةً للتّواصل الحيويّ، بين المهتمّين بهذا الشّأن من الباحثين، في مختلف فروع المعرفة الشرعية، يُعين بعضهم بعضاً على جلاء مختلف القضايا المتعلقة بمنهجية البحث العلمي، سواءٌ أصوله العلمية أو العملية، فالمجال فيه متاح لمشاركة الجميع بآرائهم ومقترحاتهم.
(كتابة البحث العلمي صياغة جديدة):
أمّا الخطُّ الأساسيُّ لهذه النّافذة، فقد رأيت أن يكون محوره متعلّقاً بواحدٍ من الكتب المهمة التي صدرت مؤخراً، حول منهجية البحث العلمي في الدراسات الشرعية:
الكتاب: كتابة البحث العلمي صياغة جديدة
المؤلف: عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: السادسة طبعة منقحة 1416هـ-1996م
سنجعلُ من هذا الكتاب بإذن الله تعالى، محوراً تدور حوله هذه النافذة، وذلك ليقيننا بالجهد الّذي بذله فيه كاتبه ومؤلفه الكبير الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، الذي وُلد بمكة عام 1356هـ عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، والباحث الكبير، ذو التجربة المنهجية الواسعة، التي جمع فيها ما بين عبقريّة التراث الفقهيّ الإسلاميّ، وما بين المناهج الغربية الجديدة.
نقف عند كتابه، نتدارسه ونعلّق عليه، متفاعلين مع ما فيه من رؤى وأفكار وتقنياتٍ بحثيّة، ناهلين من معين تجربة مؤلفه، ومتفاعلين معها، من خلال التّعليق عليه وطرح الأسئلة بين يديه، منتقلين عبر صفحات وفصول كتابه الهام، الّذي ذكر أنّه "يواكب في دراسته آخرَ مستجدات مناهج كتابة البحث وتقنياتها." (ص5).
فصول الكتاب:
قسم الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان كتابه إلى أربعة فصول، ذات عناوين مبسطة، توحي بطابعه العمليّ، المقتصد في الوقت والعبارات، حيث أتى الفصل الأول تحت عنوان (مبادئ في البحث العلمي)، ثم الفصل الثاني تحت عنوان (الإعداد)، ثم الفصل الثالث تحت عنوان (الكتابة) ثم الفصل الرابع تحت عنوان (البحث في شكله الأخير).

موضوعات الفصل الأول:
جاءت عناوين الفصل الأول، على النّحو التالي: [البحث العلمي: مدلوله، خصائصه/ البحوث الجامعية: أقسامها، أنواعها/ الباحث/ الإشراف العلمي/ جدول خطوات كتابة البحث/ اختيار موضوع البحث/ عنوان البحث/ خطة البحث/ عناصر الخطة/ الطريقة العلمية للبحث/ خطوات البحث العلمي/ مصادر البحث/ وسائل التعرف على المصادر/ القائمة الأولية للمصادر/ بطاقة التعريف بالمصادر/ نماذج تسجيل المعلومات عن المصادر ببطاقة التعريف].
استعراض عناوين الفصل الأول، وقليل من التّأمّل فيها، يُفيدنا بأنّ هذا الفصل هو قاعدة هذا الكتاب المنهجيِّ، ولذا ستكون أُولى وقفاتنا –بالطبع- معه.
النَّظَرُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ:
ونقف ابتداءً لدى البيان العام المختصر الّذي قدّمه المؤلف لكلمة (البحث)، حيث قال: "البحث: كلمة لها مدلول لغويٌّ عام تعني: طلب الشيء، وإثارته، وفحصه."(ص25) ولعلّ الصّياغة الدقيقة المحكمة لهذه العبارة المرسلة أن نقول: إنّ البحث: عبارةٌ عن استثارة شيء وفحصه، من أجل الوصول إلى شيءٍ آخر، وفي هذا الصّدد نستهدي بعالمٍ ذي قدرات منهجية مهولة، ألا وهو ابن تيمية الذي نفهم من كلامه في النّص التّالي: أنّ المستدلّ على صحة حقيقةٍ من الحقائق، لا ينبغي أن يبدأ بالنّظر في نفس هذه الحقيقة، ولكن يبدأ بالنّظر في غيرها ممّا يُرى أنّه هو الدليل الذي يدلُّ عليها، وبالتالي فالباحث في شيءٍ، إنّما يبحث فيه من أجل شيءٍ آخر، يقول شيخ الإسلام: "فَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَنْظُورٍ فِيهِ، وَالنَّظَرُ فِي نَفْسِ الْمُتَصَوَّرِ الْمَطْلُوبِ حُكْمُهُ لَا يُفِيدُ عِلْمًا؛ بَلْ رُبَّمَا خَطَرَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّظَرِ أَنْوَاعٌ مِنْ الشُّبُهَاتِ؛ يَحْسَبُهَا أَدِلَّةً لِفَرْطِ تَعَطُّشِ الْقَلْبِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَتَصْدِيقِ ذَلِكَ التَّصَوُّرِ، وَأَمَّا النَّظَرُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ: فَهُوَ مَا كَانَ فِي دَلِيلٍ هَادٍ." (مجموع الفتاوى: 4/ 36).
هذه فكرةٌ مهمّة جداً، من حقّها أن نعود إليها مرّتٍ عديدة، بيد أنّها فكرة واقعية بدَهيّة: أنّ الباحثَ عن شيءٍ إنَّما يبحث عنه، في شيءٍ آخر.