قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «الوابل الصيب» (26-29):
«وأما علامات تعظيم المناهي، فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها،كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها.وأن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وأن يجانب الفضولمن المباحثات خشية الوقوع في المكروه، ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو اليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها، فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه،ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.ومن علامات تعظيم النهي أن يغضب الله عز وجل إذا انتهكت محارمه،وأن يجد في قلبه حزنا وكسرة إذا عصى الله تعالى في أرضه، ولم يضلع باقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلىحد يكون صاحبه جافيا غير مستقيم على المنهج الوسط، مثال ذلك أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصا جافيا، وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر، فمن حكمة الشارع صلى الله عليه وسلم أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والاقبال على الله تعالى.ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي بحضرة الطعام أوعند مدافعة البول والغائط، لتعلق قلبه من ذلك بما يشوش عليه مقصود الصلاة ولا يحصل المراد منها، فمن فقه الرجل في عبادته أن يقبل على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه للصلاة فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونصب وجهه له وأقبل بكليته عليه، فركعتان من هذهالصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.والمقصود أن لا يترخص ترخصا جافيا.ومن ذلك أنه أرخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير وتعذر النزول أو تعسيره عليه، فإذا قام في المنزل اليومين والثلاثة أو أقام اليوم فجمعه بين الصلاتين لا موجب له لتمكنه من فعلكل صلاة في وقتها من غير مشقة، فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سنة راتبة، فسنة المسافرقصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذ الون وهذا لون.ومن هذا أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التخمة والامتلاء فيتطلب ما يصرف به الطعام فيكونهمه بطنه قبل الأكل وبعده، بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يتوسوس فيالوضوء متغاليا فيه حتى يفوت الوقت، أو يردد تكبيرة الأحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئا منطعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه.ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئا من بلاد الاسلام وكان يتقوت بما يحمل إليه من بلاد النصارى ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك، فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان. فحقيقة التعظيم للامر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولايعرضا لتشديد غال»اهـ.