تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 6 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 111

الموضوع: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (1)

    مقدمة

    النبوة نعمة ورحمة
    الحمد لله رب العالمين نحمدك اللهم على نعمة الإيمان بك وشرف الإسلام لك، ونسألك يا ربنا أن تجعل لنا من أنوارك نوراً يسرينا الخير والشر بصورتيهما، ويعرفنا الحق والباطل بحقيقتيهما، حتى نكون ممن يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، ومن الموصوفين بقولك : (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة /22].

    وأصلي وأسلم وأبارك على خير خلق الله ورحمته المهداة سيدنا محمد أكمل الخلق روحاً وعقلا، وأقومهم بدنا ورسما، وأعلاهم قدراً وذكراً، وأرفعهم فضلا ونبلا، وأشرفهم مجدا وعزا، وأحسنهم خُلقا وخَلقا، وأصدقهم قولاً وفعلا، وأصفاهم طوية وقلبا، وأطهرهم نية وقصدا، وأهداهم طريقا وهديا، وأرشدهم سلوكا ومنهجا، وأسدهم مسلكا ورأيا، وأنبلهم غاية ومقصدا، وأكرمهم أصلا ومحتدا، وأعزهم بيتا ومنبعا، وأعرقهم أرومة وجمعا .
    أدبه ربه فأحسن تأديبه، ورباه فأكمل تربيته، وجعله خاتما للنبيين والمرسلين، وحجة على جميع العالمين :
    (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال /42] .
    اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا رب العالمين . وبعد،

    فإن الأنبياء هم مجدفوا سفينة البشرية، وهم الذين قادوها إلى ساحل النجاة عبر التاريخ البشري، ومهما تنكر أحد لهذه السفينة، واستغنى عنها، وتفاداها إلى (جبل) فإن مصيره المحتوم هو مصير ابن نوح الشارد المارد العاتي الطاغي الذي قال : (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ) فقال له :
    (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ) [هود/ 43] .
    إن الأنبياء والرسل هم صفوة الخلق واجتباء الخالق :
    (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ) [الحج/ 75]. (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص/ 68] . وقد اختارهم الله لحمل رسالاته وإبلاغها للناس، ودعوة الخلق إلى عبادة الخالق وتوحيده، ووعد من أطاع بالثواب، وإيعاد من عصى بالعقاب ( لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء /165] .

    وقد تفرد الأنبياء بكمال علمهم بالله - تعالى - وبصفاته وأحكامه ومرضاته، وبخواص العقائد والأعمال والأخلاق صححيها وسقيمها، وصالحها وفاسدها، وما تجر وتستتبع من سعادة وشقاء في الدنيا، وثواب وعقاب وجنة ونار في الآخرة، وخصهم الله – بقدر ما يريد – بعلم ما يكون بعد هذه الحياة، وفي ذلك العالم من حشر، ونشر، وإنعام، وعذاب، ونعيم، وجحيم .
    (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) [الجن /26-27].
    لقد وقفوا عليهم - الصلاة السلام - على جبل النبوة يشرفون منها – بقدر ما يريد الله – على عالم الغيب والشهادة، ويخبرون بما يهجم على هذه البشرية، وعلى هذه المدنية في المستقبل القريب والبعيد، وما يكمن لها من خطر وضرر في حياتها، ثم ينذرون قومهم شفقة وإشفاقا، وحبا وإخلاصا، فإذا نازع منازع هذا الحق الطبيعي العقلي، وهذه البداهة، وشك أو شكك في مركزهم، قالوا في صيحة وإخلاص، وتألم وإشفاق
    (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) [سبأ /46] .وإلى لقاء قادم إن شاء الله


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر(1)


    الحلقة(2)



    حاجة الإنسانية إلى النبوة
    إن الأنبياء هم الوسيلة الوحيدة للمعرفة الصحيحة والهداية الكاملة لذلك يلح القرآن على أن الأنبياء هم الأدلاء على الله وصفاته الحقيقية، وهم المصدر الوحيد لمعرفة الله تعالى المعرفة الصحيحة، التي لا يشوبها جهل ولا ضلال، ولا سوء فهم، ولا سوء تعبير، ولا سبيل إلى معرفة الله تعالى المعرفة الصحيحة إلا ما كان عن طريقهم، لا يستقل بها العقل، ولا يغني فيها الذكاء، ولا تكفي سلامة الفطرة، وحدة الذهن، والإغراق في القياس، والغني في التجارب، وقد ذكر الله تعالى هذه الحقيقة الناصعة على لسان أهل الجنة، وهم أهل الصدق، وأهل التجربة، وقد أعلنوا ذلك في مقام صدق كذلك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [ الأعراف /43 ]. وقرنوا هذا الاعتراف والتقرير بقولهم: (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ). فدل على أن الرسل وبعثتهم هي التي تمكنوا بها من معرفة الله تعالى، وعلم مرضاته، وأحكامه والعمل بها، الذي تمكنوا به من الدخول في الجنة، والوصول إلى دار النعيم.


    سر شقاء البشر:
    إذاً قد ضل وتعب، وجاهد في غير جهاد من أراد معرفة الله تعالى المعرفة الصحيحة وصفاته وأسمائه الحسنى، وما بينه وبين هذا العالم من صلة، والعلم بإحاطته به، وقدرته عليه، ونفوذ أحكامه فيه، عن غير طريق الأنبياء والمرسلين، واعتمد في ذلك على عقله، وعلمه، وذكائه، وإلمامه ببعض العلوم والصنائع، ونجاحه في بعض المحاولات العلمية، وإنتاجه الضعيف المتواضع أو العظيم الضخم في بعض مجالات علمية، وحق عليهم قوله تعالى:
    (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [ آل عمران /66 ].


    مصير الأمم المتمدنة التي استغنت عن علم الأنبياء:
    إن التقدم العلمي، والرقي المدني، والذكاء الإنساني، والقفزة الحضارية الهائلة التي يشهدها عصرنا الراهن لم ولن تغني عن أصحابها شيئا إذا هم أعرضوا عن دعوات النبيين والمرسلين، وإن حاجتهم إلى هذا العلم الذي يحمله الأنبياء، وينفردون به بين الخلق، حاجة الغريق إلى قارب النجاة، وحاجة المريض المشرف على الهلاك إلى الدواء الإكسير، ولا يزال أفرادها بالنسبة إلى هذا العلم – مهما علا كعبهم في العلم والمدنية– جهالا أميين، وفقراء مفلسين، وأطفالا صغاراً، وكانت الأمم على خطر – رغم كل فتوحها العلمية وازدهار المدنية– إذا جهلته أو رفضته.


    وقد وقعت أمم متمدنة راقية غنية في العلوم والآداب التي يضرب بها المثل في الذكاء والعبقرية فريسة الإنكار والاستكبار، والإعجاب بنفسها، والادلال بعلومها وصنائعها، ونظرت إلى ما جاء به نبي عصرهم بعين الازدراء والاحتقار، وزهدت فيه واستصغرته، فذهبت ضحية الغرور، وكان عاقبة أمرها خسرا.
    وإلى لقاء قادم إن شاء الله





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(3)
    علم الأنبياء وعلوم البشر

    مثل العلم الذي يجئ به الأنبياء مع علوم البشر
    إن الفرق الواضح الذي بين علم الأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء يتجلى بوضوح في هذه القصة:
    يحكي أن فريقا من تلاميذ المدارس ركبوا سفينة للنزهة في البحر، أو للوصول إلى البر، وكان في النفس نشاط،وفي الوقت سعة، وكان الملاح المجدف الأميَّ خير موضوع للدعابة، والتنادر، وخير وسيلة للتلهي وترويح النفس، وخاطبة تلميذ ذكي جرئ، وقال: يا عم! ماذا درست من العلوم؟ قال: ولا شيء يا عزيزي! قال: أما درست العلوم الطبيعية يا عمي؟! قال: كلا، ولا سمعت بها، وتكلم أحد زملائه، وقال: ولكنك لابد درست علم الإقليدس، والجبر، والمقابلة! قال: وهذا أغرب، وتصدقوني إني أول مرة أسمع هذه الأسماء الهائلة الغربية، وتكلم ثالث (شاطر) فقال: ولكني متأكد بأنك درست الجغرافية والتاريخ! فقال: وهل هما اسمان لبلدين، وعلمان لشخصين؟.

    وهنا لم يملك الشباب نفوسهم المرحة، وعلا صوتهم بالقهقهة، وقالوا: ما سنك يا عم؟! قال: أنا في الأربعين من سني! قالوا: لقد ضيعت نصف عمرك يا عمنا! وسكت الملاح الأمي على غصص ومضض، وبقي ينتظر دوره، والزمان دوار.
    وهاج البحر وماج، وارتفعت الأمواج، وبدأت السفينة تضطرب، والأمواج فاغرة أفواها لتبتلعها، واضطرب الشباب في السفينة – وكانت أول تجربة لهم في البحر – وأشرفت السفينة على الغرق، وجاء دور الملاح الأمي فقال في هدوء ووقار: ما هي العلوم والآداب التي درستموها في الكلية، وتوسعتم فيها في الجامعة من غير أن يفطنوا لغرض الملاح الجاهل الحكيم، ولما انتهوا من عد العلوم المرعبة أسماؤها، قال في وقار تمزجه نشوة الانتصار: لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة فهل درستم علم السباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت هذه السفينة – لا قدر الله – كيف تسبحون وتصلون إلى الساحل بسلام؟ قالوا: لا والله يا عم! هو العلم الوحيد الذي فاتتنا دراسته والإلمام به، هنالك ضحك الملاح، وقال: إذا كنت قد ضيعت نصف عمري فقد أتلفتم عمركم كله، لأن هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان، إنما كان ينجدكم العلم الوحيد، هو علم السباحة الذي تجهلونه.

    هذه هي قصة الأمم المتمدنة الراقية – التي مضت – كانت دائرة معارف، وكانت زعيمة العالم كله في كل ما أنتجه البشر، وتوصلوا إليه في العلوم والحكمة، واكتشفوا به هذا الكون الواسع والذخائر المودعة فيه، ولكنها جهلت العلم الوحيد الذي يوصل إلى الخالق، ويُعرِّف به، والذي تنال به النجاة، وهو بر السلام والساحل المقصود، هو الذي يضبط الأعمال، والرغبات، ويقهر النزوات، والشهوات، ويصلح الأخلاق، ويهذب النفوس، ويردع عن الشر، ويدفع إلى الخير، ويلهم خشية الله التي لا صلاح للمجتمع، ولا قوام للمدنية بغيرها، ويحمل الإنسان على التهيؤ للمصير، والاستعداد للآخرة، ويخفف من غلواء الأنانية، وحب الذات، والتكالب على حطام الدنيا، ويلهم الاقتصاد والسداد، ويمنعه من الجهاد في غير جهاد.

    وقد حكي الله قصة هذه الأمم التي غلب عليها الزهو والتيه، واستصغرت شأن الأنبياء المبعوثين في عصرها، الذين لم يشتهروا بامتياز في علم من العلوم السائدة فقال:
    (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)[ غافر/83 ].
    وهذه قصة كل أمة بلغت شأوا بعيدا في العلم والمدنية والصناعة والحكمة بعد بعثة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد منعها استكبارها وزهوها واعتمادها الزائد على علومها وحضارتها، وعلى أساتذتها النوابغ وعباقرتها الكبار من الإفادة من العلم الغزير الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمسك بأهدابه، والسير في ركابه، وقصة كل أمة معاصرة تمكنها الإفادة من هذا الدين الخالد، ومن هذا النور الوضاء، وستلقى هذه الأمم كلها جزاء الاستكبار، ونتيجة هذا الإنكار أو الاستغناء، في تعفن حضارتها، وانهيار مدنيتها.

    وشأن الأقطار الإسلامية والعربية في الإعراض عن هذه التعليمات، وهذا العلم الغزير الموجود، والزهد في الاستفادة منه، والتهالك على الحضارة الغربية، والقيم المادية، والأوضاع الجاهلية، والفلسفات القومية أو الاشتراكية أغرب، وهي على خطر عظيم لا يدفعه شيء، ولا تزال معاقبة بالفرقة والاختلاف، والفوضى والثورات، والتحاسد والتباغض، وعدم التعاون والاتحاد، وذهاب الريح والشوكة، والهوان على العدو
    (1).

    (1) انظر: محاضرات إسلامية في الفكر والدعوة للعلامة أبي الحسن الندوي 3/15، 16، 19، 21.
    وإلى لقاء قادم إن شاء الله




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(4)
    طوق النجاة: اتباع رسول الله


    إذا كانت النبوات – كما تقدم – نعمة، والرسالات رحمة، فإن خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم هو نعمة النعم وعين الرحمة، قال تعالى:
    (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [ الأنبياء /107 ]. وسيرته العطرة هي المثال الحي، والتطبيق العملي، والنموذج الواقعي للاستقامة على منهج الله وفق مراد الله.
    وقد عبرت عن ذلك أدق تعبير أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم، فقالت:
    (إن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن)(1).


    أي إنه صلى الله عليه وسلم كان نموذجا حيا للفضائل والأخلاق التي دعا إليها القرآن فإذا كان الإسلام يدعو إلى العدل، ويجعله إحدى قيمة العليا، ومبادئه الأساسية، ويقاوم الظلم بكل صوره، فإن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته مثال ناطق لتحقيق العدل في جميع المجالات: العدل مع النفس، والعدل مع الأسرة، والعدل مع الأقارب، والعدل مع الأصدقاء، والعدل مع الأعداء، وهكذا كل ما يمكن من صور العدل ومظاهره، والأمثلة التطبيقية لهذه الأنواع من العدل موفورة في سيرته صلى الله عليه وسلم، وستأتي معنا فيما بعد إن شاء الله تعالى.


    وإذا كان الإسلام يدعو إلى الشورى، بوصفها أساساً من أسس الحياة الاجتماعية والسياسية في الإسلام، فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي وسيلة الإيضاح لتطبيق هذا المبدأ الجليل، كما يلمس ذلك الدارس لغزوات مثل: بدر وأحد وخيبر وغيرها.
    وقس على ذلك كل الفضائل الخلقية مثل: الصدق، والأمانة، والوفاء، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والرحمة وغيرها، فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي التطبيق الرائع لهذه الأخلاق.


    وهكذا كل المبادئ والمعاني والقيم التي جاء بها الإسلام تتجلى في حياته صلى الله عليه وسلم.(2)
    ومن أجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم أسوة، وكان قدوة، وكان على خلق عظيم وصدق الله العظيم، إذ يقول: سورة ا
    (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [لقلم/ 4]
    يقول ابن عباس في تفسير هذه الآية:
    (لعلى دين عظيم، لا دين أحب إلي، ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام)(3).


    وهذا ما حدا بابن القيم أن يقول:
    (الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين).
    إذا كان هذا شأنه صلى الله عليه وسلم وشأنه سيرته، فإن دراسة السيرة تصبح من الأهمية بمكان كبير، ذلك أنها تبصير بمنهج الله تعالى، ثم هي أيضا منجاة من أمواج الشهوات والأهواء التي تعبث ببني البشر اليوم.
    إن سعادة الأمم والأفراد، والشرق والغرب، والأولين والآخرين، منوطة بالإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بسيرته، والتمسك بسننه، والالتفاف حول دينه، ومن اتجه عنه إلى الشرق أو الغرب، وآوى إلى (جبل) فلن يعود إلا بالويل، ولن ينال إلا الشقاء، ولن يستقبله إلا البلاء، ولن يظلم إلا نفسه.


    وهذا كتاب في السيرة النبوية، يرتكز في بنيانه على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، منهما يغترف، وإليهما يعود، ولن أهمل الاستفادة من كتب التاريخ والسير قديمها وحديثها، بعد البحث والتمحيص والتحقيق، والموازنة بين الروايات، والأخذ بما يصلح للاحتجاج منها، وترك ما عداه.


    ولن اقصر دراستي في السيرة النبوية على السرد التاريخي فحسب كما صنع معظم المتقدمين، وبعض المتأخرين، ولا على التعليق على مواقف السيرة أوجلها، مع إغفال الهيكل الأصلي، أو الجانب التاريخي كما صنع بعض المحدثين، وإنما جمعت بين الحسنين، الهيكل التاريخي مع تحري الحقيقة، والتعليق على المواقف، وانتزاع العبر النافعة، والدروس المفيدة منها.


    ولن أترك حدثا مهما، أو موقعة فاصلة، أو سرية مهمة، أو عملا بارعا، أو سياسة راشدة، أو قيادة حكيمة، أو أي تصرف كريم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأحد أصحابه، إلا أقف عنده، أو عندها وقفة أو وقفات، ليتبين للقارئ فرق بين الأخلاق المحمدية، وسياساته الحكيمة الرشيدة في السلم والحرب، ومع الأصدقاء، ومع الأعداء، مهما بلغ ذلك الغير من العقل، والعلم، والكياسة، والسياسة، والقيادة، والعدل، والرحمة، لكي أخلص من ذلك إلى الفرق البعيد ما بين النبوة، وغير النبوة، والبشر الرسول، وغير الرسول.


    وفي الحق أن المُحدَثين في باب التحليل، والتعليق، والموازنة بين المواقف قد أربوا في ذلك على المتقدمين، وأكسبوا السيرة جدة ورواء، وقد تفاوتوا في ذلك على حسب تفاوتهم في المواهب، وسعة العلم والأفق، والاطلاع على سير الآخرين.
    والله أسال أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يرزقني شفاعة نبيه العظيم، وأن يحشرني في زمرته وصحبته (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) [ النساء /69 ].





    (1) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، رقم (1739).
    (2)
    انظر ثقافة الداعية ص 57.
    (3)
    تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/402).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(5)

    معنى السيرة


    قال ابن فارس: (السين والياء والراء أصل يدل على مضي وجريان ... والسيرة الطريقة في الشيء والسنة لأنها تسير وتجري)
    (1).
    وقال الراغب:
    (والسيرة الحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره غريزياً كان أو مكتسباً، يقال: فلان له سيرة حسنة وسير ة قبيحة، وقوله: (سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى) [ سورة طه / 21] أي الحالة التي كانت عليها من كونها عودا(2).
    وقال ابن منظور: والسيرة: السنة ... والسيرة: الطريقة، ... والسيرة: الهيئة .. وسير سيرة: حدث حديث الأوائل(3).


    وفي المعجم الوسيط:
    (والسيرة النبوية، وكتب السير: مأخوذة من السيرة بمعنى الطريقة، وأدخل فيها الغزوات وغير ذلك، ويقال: قرأت سيرة فلان: تاريخ حياته)(4).
    والخلاصة: أن السيرة بمعناها اللغوي تعني: حكاية أخبار الأوائل والأمم السابقة أو السابقين من أبناء الأمة، وقد يراد بالسيرة أيضا ترجمة حياة شخص ما، أو ذكر الأخبار الخاصة بشخص من الأشخاص، ومن هنا فإنه حينما يمدحون شخصا يقولون عنه (حسن السيرة) ويعنون أنه مستقيم الخلق والسلوك، لكن علماء المسلمين قرروا أن لفظ (السيرة) إذا جئ بها مفردة ومعرفة قصد بها على الفور (السيرة النبوية) والتي تعني: ترجمة حياة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث أصبحت علما على علم قائم بذاته وهو علم السيرة، وعليه:


    فعلم السيرة:هو ذلك العلم الذي تدرس فيه أنباء النبي صلى الله عليه وسلم من مولده – والذي يستلزم التعريف بأصوله صلى الله عليه وسلم وأجداده،وما كان لهم من مكانة في قومهم – ونشأته، وبعثته – والتي تستلزم ذكر الإرهاصات التي سبقت البعثة – وما أتاه الله من معجزات وموقف قومه من الدعوة، وموقفه منهم، وأساليبه صلى الله عليه وسلم في الدعوة، ومنهجه في تربية أصحابه وتعليمهم، وأخبار المسلمين الأوائل، وبيان ما لقبه هؤلاء، وهجرته صلى الله عليه وسلم من بلد الله الحرام (مكة) إلى المدنية المنورة، وجهاده في سبيل نشر الدين الذي بعث به، وأخبار أصحابه الذين شاركوه هذا الجهاد، وأخبار غزواته ومعاركه ووفاته صلى الله عليه وسلم .(5)



    (1) معجم مقاييس اللغة 3/ 120- 121.
    (2)
    المفردات ص 247.
    (3)
    اللسان، مادة: سير.
    (4)
    المعجم الوسيط 1/485.
    (5)
    السيرة النبوية للدكتور عبدالمهدي 1/7، الجامع الصحيح للسيرة النبوية 1/8، محمد رسول الله بين كتاب السيرة العطرة ص 18.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(6)


    العلاقة بين السيرة والمغازى




    كان المؤرخون المسلمون في فترة سابقة يقرنون كلمة المغازي بكلمة السير، فيقولون (المغازي والسير) ولبعض المتقدمين مؤلفات تحمل الكلمتين معا، فلابن عبدالبر كتاب اسمه (الدرر في اختصار المغازي والسير) ولابن سيد الناس كتاب أسماه (عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير)، وقد عقد البخاري في صحيحه كتابا أسماه كتاب (المغازي).

    وكلمة المغازي مأخوذة من الفعل: غزا، يقال: غزا يغزو غزوا فهو غاز وجمعه غزاة وغز، والغزو: الخروج إلى محاربة العدو(1).

    وقد أطلق العلماء الغزوات على أخبار الغزاة وغزواتهم ثم صارت تستخدم في الحديث عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وجهاده ومعاركه التي خاضها في سبيل نصرة الدين وانتشار الدعوة، ثم توسعوا في هذا المعنى فصارت تشمل حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها،وهي بهذا المعنى الأخير مرادفة لمعنى كلمة السير(2).

    يقول محققوا كتاب السيرة لابن هشام: (لفظتا المغازي والسير إذا أطلقتا فالمراد بهما عند مؤرخي المسلمين: تلك الصفحة الأولى من تاريخ الأمة العربية، صفحة الجهاد في إقامة صرح الإسلام وجمع كلمة العرب تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يضاف إلى ذلك من نشاط النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبائه وما سبق حياته من أحداث لها صلة بشأنه وحياة أصحابه الذين أبلوا معه في إقامة الدين)(3).










    (1) المفردات ص 260.
    (2) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لشيخي الأستاذ الدكتور مروان شاهين ص 9، ومحمد رسول الله بين كتاب السيرة العطرة ص 18-19.
    (2) السيرة النبوية لابن هشام، المقدمة، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبدالحفيظ شلبي.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(7)



    علاقة السيرة بالسنة




    يجدر بنا قبل تبيان أوجه العلاقة بين السيرة والسنة، أن نعرف بالسنة كما عرفنا بالسيرة.

    فالسنة في اللغة: السيرة أو العادة أو الطريقة المبتدأة حسنة كانت أم سيئة، غير أن أهل اللغة اتفقوا على أن كلمة السنة إذا أطلقت انصرفت إلى الطريقة أو السيرة الحميدة فقط، ولا تستعمل في غيرها إلا مقيدة(1).

    السنة في الاصطلاح: هي أقواله – صلى الله عليه وسلم – غير القرآن الكريم، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها(2).

    وإذا نظرنا إلى هذا التعريف وجدناه يلتقي في كثير منه مع موضوع علم السيرة، فدراسة الصفات الخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم ودراسة أحواله قبل البعثة وبعدها كل ذلك من موضوعات علم السيرة، وهو في الوقت ذاته من موضوعات السنة، وهذا يوضح مدى العلاقة بين هذين العلمين الجليلين، وإن كانت هناك بعض الفروق التي لا تخرم هذه العلاقة ولا تخل بها، منها:

    1-أن هناك عموما وخصوصا وجهيا بين كل من السيرة والسنة بمعنى أنهما يجتمعان في أشياء وينفرد كل علم منهما عن الآخر بأشياء، فيجتمعان في بيان صفة أكله صلى الله عليه وسلم وشربه ونومه وما شابه ذلك.

    وتنفرد السيرة بالتعرض لتحديد ليلة مولده صلى الله عليه وسلم، والتعريف بنسبة وأجداده ومكانة أجداده صلى الله عليه وسلم في قومهم وطهارتهم وقيامهم على خدمة بيت الله الحرام، وكثير من شئونه صلى الله عليه وسلم كالآبار التي شرب منها، وكثير من أخبار المغازي كعدد من شهدها وتوقيتها، وكم من أشياء انفردت بها السيرة احتاجها شراح الحديث في شروحهم(3).

    وتنفرد السنة بأحاديث الأحكام، والتي فيها النهي عن الربا، وشريعة الخيار، وشريعة الحوالة، والرهن وما شابه ذلك(4).

    يقول أحد الباحثين المعاصرين: (كانت سيرته صلى الله عليه وسلم تنقل وتروي على أنها أحداث الدين، بكل ما فيها من أقوال وأعمال، وهدى وسلوك، وجهاد وقتال، حتى كان الفصل لأقواله وأفعاله وتقريراته في كتب الحديث، حينما بدأ تدوين كتب السنة، وبقيت بعد ذلك روايات السيرة بمفهومها العلمي، ولابد أن نعيد إلى الأذهان أن السيرة بمفهومها العام قبل التقسيمات العلمية: لها سنة وسيرة – أو مغاز وسير – تشمل كتب السنة وكتب السير، ولهذا تتسم بالكمال والشمول والحيوية، وكان الداعي إلى مثل هذا الفصل هو حاجة المسلمين لروايات الحديث في نطاق الأحكام والاستدلال الفقهي، وعدوا ما بقي من ذلك – مما سمى بالسيرة – أموراً شخصية أو عامة يرجع إليها المسلم بصدد إنماء العلاقة بين المسلمين ورسولهم صلى الله عليه وسلم لمعرفة شخصيته، وأبرزوا فيها ما سبق ولادته عليه الصلاة والسلام من الأحداث، وما تلاها، ثم بعثته إلى الناس ودعوته لقومه وصبره على أذاهم، ثم هجرته وما تلاها من تركيز على غزواته وجهاده... إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى..)(5)

    2- أن الكتابة في السيرة النبوية يراعي فيها الزمن وأحداثه وذلك غير الكتابة في الحديث حيث المنهج فيه يختلف بمنهج الكتاب وغرض مؤلفه وجامعه، وهو فيه يدور على أمرين:

    أولهما: يتناول أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث دلالتها على الأحكام الشرعية كما في الكتب الستة وسنن الدرامي والموطأ.

    ثانيهما: يتناول الحديث من حيث مرويات الصحابة والشيوخ كالمسانيد والمعاجم.











    (1) انظر: اللسان، مادة: سنن، تاج العروس، نفس المادة، المعجم الوسيط، نفس المادة، إرشاد الفحول ص 33.
    (2) انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 47، الوسيط في علوم ومصطلح الحديث ص 16.
    (3) انظر: فتح الباري كتاب الجهاد، باب وجوب النفير 6/44.
    (4) السيرة النبوية للدكتور عبدالمهدي 1/7-8.
    (5) شعاع من السيرة النبوية في العهد الملكي للدكتور راجح عبدالحميد الكردي ص 6.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(8)




    علاقة السيرة بالتاريخ


    التاريخ فعله (أرَخَ) يقال : أرَّخ الكتاب : حدد تاريخه ، وأرخ الحادث ونحوه : فصل تاريخه وحدد وقته (1).
    والتاريخ: فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت ، بل عما كان في العالم ، وموضوعه: الإنسان والزمان (2).
    ومن خلال هذا التعريف للتاريخ تتضح علاقة السيرة به وأنها علاقة وثيقة، إذ تمثل السيرة حقبة معينة من هذا التاريخ، فعلاقتها إذا بالتاريخ علاقة الجزء بالكل .
    فكتب التاريخ هي المؤلفات التي تهتم بسرد وقائع الأمم والدول والأخبار البشرية من لدن خلق آدم عليه السلام – غالباً – إلى عصر المصنف .
    أما كتب السيرة النبوية فهي قاصرة على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتصل بها من أحداث وأحوال.
    وتفترق السيرة عن التاريخ في أن موضوعها لا يستقيم بغير الإسناد الذي بمثله يقبل الحديث ، ومن ثم وجب التحري في إثبات أحداثها، ولا ينبغي للمؤرخ الذي يعني بالسيرة أن يقحم نزعته الذاتية أو اتجاهه الفكري والديني أو السياسي في تفسير الأحداث وتعليلها .
    يقول الدكتور البوطي : (كُتَّاب السيرة وعلماؤها، لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة ، إلا تثبيت ما هو ثابت منها ، بمقياس علمي يتمثل في قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن ، وفي قواعد الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم وأحوالهم) .

    فإذا انتهت بهم هذه القواعد العلمية إلى أخبار ووقائع ، وقفوا عندها ، ودونوها ، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية ، أو انطباعاتهم النفسية ، أو مألوفاتهم البيئية ، إلى شيء من تلك الوقائع بأي تلاعب أو تحوير .
    لقد كانوا يرون أن الحادثة التاريخية التي يتم الوصول إلى معرفتها، ضمن نفق من هذه القواعد العلمية التي تتسم بمنتهى الدقة ، حقيقة مقدسة، يجب أن تجلي أمام الأبصار والبصائر كما هي ، كما كانوا يرون أن من الخيانة التي لا تغتفر أن ينصب من التحليلات الشخصية والرغبات النفسية التي هي في الغالب من انعكاسات البيئة ، ومن ثمار العصبية ، حاكم مسلط يستبعد منها ما يشاء ويحور فيها كما يريد .
    لقد كان العمل التاريخي إذن بالنسبة إلى هذه السلسلة من سيرته صلى الله عليه وسلم ، ينحصر في نقلها إلينا محفوظة مكلوءة ، ضمن تلك الوقاية العلمية التي من شأنها ضبط الرواية من حيث الإسناد واتصاله ، ومن حيث الرجال وتراجمهم ، ومن حيث المتن أو الحادثة وما قد يطوف بها من شذوذ ونحوه .
    أما عملية استنباط النتائج والأحكام والمبادئ والمعاني من هذه الأخبار (بعد القبول التام لها) فعمل علمي آخر منضبط بأسس وقواعد أخرى ، تقوم ضمن قالب علمي يقصيها عن سلطان الوهم وشهوة الإرادة النفسية (3).

    السيرة النبوية والمذهب الذاتي في كتابة التاريخ
    في القرن التاسع عشر ظهرت طرائق كثيرة متنوعة في كتابة التاريخ وتدوينه ، منها المذهب الذاتي ، ويعد (فرويد) من أكبر الدعاة إليه والمتحمسين له .
    ولا يرى أقطاب هذا المذهب من ضير في أن يقحم المؤرخ نزعته الذاتية أو اتجاهه الفكري والديني أو السياسي ، في تفسير الأحداث وتعليلها والحكم على أبطالها... بل إنهم يرون أن هذا هو واجب المؤرخ ، لا مجرد وصف الأخبار وتجميع الوقائع العارية .
    وهذا المذهب الجديد في كتابة التاريخ قد أصبح أساساً لمدرسة جديدة في دراسة السيرة النبوية وفهمها عند طائفة من الباحثين والذين تصوروا أن الغرب لم يتحرر من أغلاله ، إلا يوم أخضع الدين لمقاييس العلم ... فالدين شيء والعلم شيء أخر ، ولا يتم التوفيق بينهما إلا بإخضاع الأول للثاني ، وإذا كان العالم الإسلامي حريصا حقا على مثل هذا التحرر فلا مناص من أن يسلك الطريق ذاته ، وأن يفهم الإسلام هنا ، كما فهم الغرب النصرانية هناك ، ولا يتحقق ذلك إلا بتخلص الفكر الإسلامي من سائر الغيبيات التي لا تفهم ولا تخضع لمقاييس العلم الحديث .
    فكان أن قاموا بما أسمى فيما بعد بالإصلاح الديني ، واقتضى منهم ذلك أموراً عديدة ، منها تطوير كتابة السيرة النبوية وفهمها ، واعتماد منهج جديد في تحليلها، يتفق وما قصدوا إليه من الإعراض عن كل ما يدخل في نطاق الغيبيات والخوارق التي لا يقف العلم الحديث منها موقف فهم أو قبول .
    وبدأت تظهر كتب وكتابات في السيرة النبوية ، تستبدل بميزان الرواية والسند ، وقواعد التحديث وشروطه ، طريقة الاستنتاج الشخصي ، وميزان الرضا النفسي ، ومنهج التوسم الذي لا يضبطه شيء إلا دوافع الرغبة ، وكوامن الأغراض والمذاهب التي يضمرها المؤلف .
    واعتماداً على هذه الطريقة أخذ يستبعد هؤلاء الكاتبون ، كل ما قد يخالف المألوف ، مما يدخل في باب المعجزات والخوارق ، من سيرته صلى الله عليه وسلم ، وراحوا يروجون له : صفة العبقرية والعظمة والبطولة وما شاكلها، شغلا للقارئ بها عن صفات قد تجره إلى غير المألوف من النبوة والوحي والرسالة ونحوها مما يشكل المقومات الأولى لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم .
    ويعد كتاب (حياة محمد) لحسين هيكل أبرز نموذج لهذا الاتجاه في كتابة السيرة النبوية ، ويعبر مؤلفه عن اتجاهه هذا بصراحة وفخر عندما يقول : (إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة والحديث لأنني فضلت أن أجرى في هذا البحث على الطريقة العلمية)(4).
    ومن نماذج هذه الطريقة الحديثة في كتابة السيرة وفهمها ، تلك المقالات المتتابعة التي نشرها المرحوم محمد فريد وجدي في مجلة نور الإسلام تحت عنوان : (السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة)، والتي يقول في بعض منها :
    (وقد لاحظ قراؤنا أننا نحرص فيما نكتبه في هذه السيرة ، على ألا نسرف في كل ناحية إلى ناحية الإعجاز ، ما دام يمكن تعليلها بالأسباب العادية حتى ولو بشيء من التكلف).
    ومن نماذج هذه الطريقة أيضا تلك الكتابات الكثيرة التي ظهرت لطائفة من المستشرقين عن حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في نطاق أعمالهم وكتاباتهم التاريخية التي قامت على المنهج الذاتي الذي ألمحنا إليه آنفا.
    إنك لتراهم يمجدون شخص محمد صلى الله عليه وسلم ، وينوهون بعظمته وصفاته الحميدة، ولكن بعيدا عن كل ما قد ينبه القارئ إلى شيء من معنى النبوة أو الوحي في حياته، وبعيدا عن الاهتمام بالأسانيد والروايات التي قد يضطرهم الأخذ بها إلى اليقين بأحداث ووقائع ليس من صالحهم اعتمادها أو الاهتمام بها.
    وهكذا وجد أبطال هذه المدرسة الجديدة في إتباع المذهب الذاتي في كتابة التاريخ الميدان الفسيح الذي يمكنهم من نبذ كل مالا يعجبهم من حقائق السيرة النبوية مهما جاءت مدعومة بدلائل العلم واليقين ، متخذين من ميولهم النفسية ، ورغباتهم الشخصية، وأهدافهم البعيدة ، حاكما مطلقا على حقائق التاريخ وتحليل ما وراءه من العوامل ، وحكما مطلقا لقبول ما ينبغي قبوله ورفض ما يجب رفضه.
    لقد رأينا – مثلا – أن كل خارقة قد جاء بها متواتر السنة ، وربما صريح القرآن تؤول ، ولو بتكلف وتمحل ، بما يعيدها إلى الوفاق مع المألوف ، وبما يجعلها تنسجم مع الغرض المطلوب.
    فطير الأبابيل يؤول – على الرغم من أنف الآية الصريحة الواضحة – بداء الجدري.
    والإسراء الذي جاء به صريح القرآن ، يحمل على سياحة الروح وعالم الرؤى.
    والملائكة الذين أمد الله المسلمين بهم في غزوة بدر يؤولون بالدعم المعنوي الذي أكرمهم الله به ...
    وآخر المضحكات العجيبة التي جاءت على هذا الطريق ، تفسير النبوة في حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمان الصحابة به وعموم الفتح الإسلامي، بأن جميعه لم يكن إلا ثورة يسار ضد يمين ، أثارتها النوازع الاقتصادية انتجاعا للرزق وطلبا للتوسع، وألهبتها ردود الفعل لدى الفقراء ضد الأغنياء وأصحاب الإقطاع.
    وبعد فقد كانت هذه الطريقة في دراسة السيرة النبوية خصوصاً ، والتاريخ الإسلامي عموما ، مكيدة خطيرة عشيت عن رؤيتها أعين البسطاء من بعض المسلمين ، وصادفت هوى وقبولا حسنا عند طائفة أخرى من المنافقين وأصحاب الأهواء.
    لقد غاب عن أعين أولئك البسطاء، أن ذلك الهمس الاستعماري الذي يدعو المسلمين إلى ما أسموه بثورة إصلاحية في شئون العقيدة الإسلامية ، إنما قصد في الحقيقة نسف هذه العقيدة من جذورها.
    وغاب عنهم أن تفريغ الإسلام من حقائقه الغيبية ، إنما يعني حشوه بمنجزات ناسفة تحيله أثراً بعد عين ، ذلك لأن الوحي الإلهي – وهو ينبوع الإسلام ومصدره – يعد قمة الخوارق والحقائق الغيبية كلها، ولا ريب بأن الذي يسرع إلى رفض ما قد جاء في السيرة النبوية من خوارق العادات ، بحجة اختلافها عن مقتضى سنن الطبيعة ومدارك العلم الحديث، يكون أسرع إلى رفض الوحي الإلهي كله بما يتبعه ويتضمنه من إخباراته عن النشور والحساب والجنة والنار بالحجة الطبيعية ذاتها .
    كما غاب عنهم أن الدين الصالح في ذاته لا يحتاج في عصر ما إلى مصلح يتدارك شأنه، أو إصلاح يغير من جوهره(5).
    إن حرص هؤلاء الكتاب على نقل كل جديد ، والجري وراء كل طريف براق كان سببا في زلزلة إيمان الشرق ، وحيرة وجدانه ، وغزو عقله وقلبه ، بما أخذ عليه المسالك ، فأضل الشرقيون أنفسهم ، فإذا هم أجساد تنبض بقلوب الغرب وتفكر بعقوله ، وإذا هم مستسلمون لكل ما تطلع به أوربا ، منقادون لكل ما تأمرهم به ، متهافتون على كل ما اتصل بها ، ثم إذا هم أذلاء مقلدون ، يحقرون أنفسهم وآباءهم وميراث حضارتهم وتاريخهم ، وذلك أشر حال وأسوأ موقف ، وعلينا أن نحسن التفكير في الذي نأخذه من الغرب والذي ندعه ، فإذا أحسنا التفكير عرفنا فرق ما بين الصناعات والأخلاق والعادات ، فلنأخذ من أوربا علومها الطبيعية ونتائجها، ولنتجنب أخلاقها وآدابها، فإنه لا فرق بين الحساب والهندسة والكيمياء في الشرق والغرب، ولكن شتان ما بينهما في العقائد والخلق وسنن الاجتماع وما يتصل بذلك، فإنه لكل أمة من أخلاقها وآدابها ثوبا حاكته القرون وعملت فيه الأجيال ، فليس يصلح لغيرها، ولا يصلح لها غيره .
    وليدرك الذين يتناولون الإسلام بفكر الغرب وعقله خطورة ما يقومون به ، وإنهم بعملهم هذا يهدمون ولا يبنون ، ويخربون ولا يعمرون .
    قال ابن عبدالبر : ( أهل البدع أجمع أضربوا عن السنن ، وتأولوا الكتاب على غير ما بينت السنة ، فضلوا وأضلوا ) (6).
    فنعوذ بالله من العجب بالرأي ، أو الكلام في دين الله بغير حجة من الوحي، وكم أخر المسلمين اليوم كثرة الكلام واضمحلال العمل ، فحولوا الإسلام في كثير من حياتهم إلى كلام وفلسفة وجدل ، والتاريخ يشهد على سفاهة من مضي على هذا السبيل عبر الزمان ،وجزي الله القائل :
    لقد قرأنا السجـلات التي كتبـوا
    فـمـا رأينا صلاحًـا فـي أئمتهم
    جاؤوا إلينا بعـقـلانية سقـطـت
    فـظـن أصحابها أن الضلال هدى
    إذا أخـذنـا بدعوى كل مبتدع
    قوم تسيرهم أهواؤهـم وبـهـم
    يـا حائـدين عن الإسلام أسكركم
    سلوا رجال الحديث المخلصيـن ومن
    هـل جاء في ديننا معنى يعـارضـه
    وهل يـعد لدينا عـالـمـاً فطنا
    يا مقلة الوحي ما أمعنت فـي لهو
    إن كنت واجهت عقلانية مكـثت
    فنحن نشـقى بعلمانية يـدها ممدودة
    تـشابه القوم في التضليل واجتمعوا
    إذا أخذنـا بدعـوى كـل مبتدع

    فيما مضـى والأفاعيل التي فعلوا
    ولا رأيناه في النسل الـذي نسلوا
    عمادها سفسطات القول والجدل
    وأن نـملتهم في دربها جـمـل
    فأين يذهب ما جاءت به الـرُّسل
    تشقى قلوب وتأتي منهم الـعـلل
    لهو وأعماكم عن ديننا الخـجـل
    تحروا الصدق في كل الـذي نقلوا
    عقل سليم من الآفات معتدل
    من يكتم الحق مختاراً وينعـزل
    إلا وحركت جرحا كاد يـندمـل
    ثير فـي الناس أوهامـاً وتفتعل
    ولـها فـي عـصـرنا كـتـل
    عـلى التنكر للوحيين واتـصـلوا
    فـأين يذهب ما جاءت به الرسل






    (1) المعجم الوسيط ( 1/13).
    (2) الإعلان التوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي ص 7.
    (3) فقه السيرة ص 20 بتصرف.
    (4) حياة محمد ص 16، 17، 20.
    (5) انظر : فقه السيرة ص 21-25.
    (6) جامع بيان العلم ( 2/193 ).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(9)




    أهمية السيرة وبواعث دراستها (1-12)


    إن للسيرة النبوية أهمية كبيرة في حياة المسلمين، رجالاً كانوا أو نساءً، صغاراً كانوا أو كباراً، ذلك أن التحقق الكامل بعقيدة (أن محمداً رسول الله) منوط بها، ومتوقف عليها، فضلاً عن بواعث أخرى عديدة تفرض نفسها فرضا على المرء المسلم لدراسة سيرة نبيه دراسة متأنية مستوعبة لكل جوانب العظمة فيها، وهذه البواعث هي :
    1- الإيمان به صلى الله عليه وسلم :
    إن الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الإيمان، وفرض من فروض الدين لا ينعقد إيمان المرء ولا يتم دينه إلا به، قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [ سورة الفتح / 8-9 ] .
    ويحدد ربنا في موضع آخر من كتابه مراده من المرسل إليهم تجاه من أرسله، إنه الإيمان به ومؤازرته في دعوته واتباع سبيله، وأن ذلك سبيل تحصيل الهداية وإدراك الفلاح ونيل الأجر الكبير، فيقول تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [سورة الأعراف /157، 158].
    ويقول تعالى : (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)[سورة الحديد /7] ويقول تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [سورة التغابن /8].
    وإذا كانت الآيات السابقة تخاطب الناس كافة والخلق جميعا، فهناك آيات أخرى خصت المؤمنين بالخطاب وألزمتهم بنفس المراد، حيث يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً) . [سورة النساء /136] .
    ووصف المخاطبين في هذه الآية بأنهم آمنوا، وإردافه بأمرهم بالإيمان يشعر أن الأمر إنما هو بتحصيل الحاصل، لكننا إذا تبينا أن الأمر قد يقصد به ثبات المأمور ودوامه على ما هو عليه والازدياد منه، وضحت دلالة الأمر في هذه الآية، وأنها الثبات والاستمرار والزيادة .
    يقول أصحاب التفسير الوسيط : " الخطاب في الآية – للمؤمنين كافة، والمراد من قوله: (آمِنُوا) استمروا، أو اثبتوا على إيمانكم بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله ... "(1).
    ويقول الشيخ المراغي : (وقيل إن الخطاب فيها للمؤمنين كافة، والمعنى ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا وآمنوا برسوله خاتم النبيين وبالقرآن الذي نزل عليه وبالكتب التي نزلها على رسله من قبله، فإنه لم يترك عباده في زمن ما محرومين من البينات والهدى)(2).

    ويقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الحديد/ 28] .

    ومعنى إيتاء المؤمنين من أهل ملة الإسلام كفلين من الأجر : أن لهم مثل أجرى من آمن من أهل الكتاب.
    ويشرح هذا حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري الذي فيه (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له، فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط، ثم عمل المسلمون من العصر إلى الغروب على قيراطين، قال فيه : واستكملوا أجر الفريقين كليهما)(3) أي استكملوا مثل أجر الفريقين، أي أخذوا ضعف كل فريق "(4).





    (1) التفسير الوسيط 2/ 938.
    (2) تفسير المراغي 5/ 180.
    (3) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار 4/521 من حديث ابن عمر، وفي نفس الكتاب، باب الإجارة إلى صلاة العصر 4/522 من حديث عمر رضي الله عنه، ولفظة : " إنما مثلكم واليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً، فقال : من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ فعملت اليهود على قيراط قيراط ثم عملت النصارى على قيراط، ثم أنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قيراطين قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا : نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال : هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا لا، قال فذلك فضلي أؤتيه من أشاء " وأخرجه البخاري أيضا من حديث أبي موسى والذي أشار إليه صاحب التحرير، كتاب الإجارة، باب الإجارة من العصر إلى الليل 4/523.

    (4) التحرير والتنوير 27/ 427-248.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(10)




    أهمية السيرة وبواعث دراستها (2-12)



    وليس أمر الإيمان به صلى الله عليه وسلم قاصرا على الإنس فقط، بل يتعدي ليشمل الجن أيضا لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن والإنس، قال تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)[ سورة الفرقان /1].



    وقال عز وجل متحدثا عن استقبال الجن لرسالته : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [ سورة الأحقاف /29-30].



    وإذا كان هذا شأن الجن في إنصاتهم للداعي وتلبيتهم للدعوة وتحذيرهم للغير من عدم الإيمان به والاستجابة له، فعلى الإنس أن يسابقوهم في هذا المضمار وأن يسارعوا إلى الإيمان به والاستجابة له، لاسيما وقد رهن الله الحياة الكريمة الآمنة بالاستجابة له، وذلك حيث يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[ سورة الأنفال /204].




    روى الدرامي بسنده من حديث ربيعة الجرشي قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : لتنم عينك، ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك، فنامت عيني، وسمعت أذني، وعقل قلبي، قال : فقيل لي : سيد بني داراً، فصنع مأدبة، وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يطعم من المأدبة، وسخط عليه السيد، قال : فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة "(1).

    فمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام حظي برضوان الله عز وجل، ومن حظي برضوان عز وجل كافأه بجنة عرضها السماوات والأرض، نسأل الله أن ننعم بنعيمها.

    وإذا كان ما مر هو أمر الله إلى الإنس والجن، فإن الإيمان به صلى الله عليه وسلم لا يقتصر على سائر الناس دون الأنبياء والرسل، بل يشملهم جميعا،فإنهم مطالبون بالإيمان به صلى الله عليه وسلم ونصرته إن أدركوه ولحقوه، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [ سورة آل عمران /81 ].

    قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : (ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه)(2).

    وإذا كان الأنبياء لم يدركوه حتى يؤمنوا به وينصروه فقد بشروا أممهم بمجيئه وأعلموهم بأوصافه ونعوته حتى يؤمنوا به وينصروه فيتحقق للأتباع ما لم يتمكن منه المتبوعون، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)(3).

    وإذا كان الإيمان به صلى الله عليه وسلم فرضا من فروض الدين وركنا من أركان الإيمان، فلابد أن يقوم هذا الإيمان على الإقناع العقلي ممتزجا باليقين الوجداني، وكلاهما لا يقوم ولا يتحقق إلا بعد التعرف على سيرته والوقوف على صفاته ودعوته، والعلم بأحواله وأخباره، ومن هنا تأتي فرضية دراسة السيرة النبوية.

    يقول أحد الباحثين : (إن المسلم كل المسلم لا يكمل إيمانه، ولا يحيا وجدانه، ولا يرجى خيره وإحسانه لنفسه ولأهله ولأوطانه، إلا إذا عرف سيرة رسوله المصطفى ونبيه المجتبي جملة أو تفصيلا، ثم تأسي بما علمه منها في سلوكه وأخلاقه، لأن المسلم العالم مهما بلغ من العلم بغير الاستنارة بهدي النبي وسنته يكون كالتائه الذي يتخبط في دياجير الظلمات)(4).

    ومن أجل ذلك أيضا حض القرآن الكريم الناس على العلم برسول الله والتفكر في أمره لتكون العقيدة فيه راسخة، والإيمان به ثابتا، يقول تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ )[ سورة الحجرات /7 ].

    ويقول تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) [ سورة سبأ /46 ].

    إن القرآن الكريم يريد أن تكون العقيدة فيه صلى الله عليه وسلم مبنية على المعرفة الكاملة والاقتناع التام، حتى لا تخرم هذه العقيدة الشبهات، ولا تهددها الشكوك بل يطمئن بها القلب ويسكن بها الفؤاد، وتكون للضمير مناره الذي يهديه سواء السبيل، وللإرادة قوتها النازعة الوازعة، عن أمرها يصدر صاحبها في حركاته وسكناته، ونحو أهدافها يتوجه في أقواله وأعماله، يتلقي دائما وحيها ويستلهمه، ويتوخى إرشادها ويترسمه، فإذا أصبح ذلك دأبه وديدنه صغرت في عينيه الدنيا وزينتها، وتضاءلت في نفسه نوازع الهوى وحاجات الجبلة، فلا يفكر في مطالب شخصه إلا لماما، ولم يركن إلى الدعة واللهو إلا استجماما، على أنه حين يلم بشيء من ذلك فإنما يتناوله باسم العقيدة والمبدأ، وعلى النحو الذي ترسمه له العقيدة والمبدأ، استعانة على الحق وتقويا على الجد.

    أولئك حقا هم أصحاب العقائد والمبادئ الذين فنيت أشخاصهم في عقائدهم، وانمحت أهواؤهم في مبادئهم، وأصبحوا كأنهم عقائد متجسدة، ومبادئ ماثلة تمشي في الناس. (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) [ سورة الحجرات 7-8].










    (1) سنن الدرامي، المقدمة، باب ما كان عليه الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم 1/18، ورواه الطبراني أيضا وسنده جيد كما في الفتح 13/ 356، ومجمع الزوائد 8/ 260 وأصل الحديث في صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (7281) من حديث جابر بن عبدالله.

    (2) تفسير ابن كثير 1/ 378.

    (3) الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا إلى جميع الناس.


    (4) سيرة الرسول ومعالمها من القرآن الكريم والسنة المطهرة لمحمد إسماعيل إبراهيم ص 9ط : دار الفكر العربي.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(11)




    أهمية السيرة وبواعث دراستها (3-12)





    2-محبته صلى الله عليه وسلم:

    إن حب النبي صلى الله عليه وسلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وليس الحب فقط، بل مرتبة أعلى، وهي إيثاره صلى الله عليه وسلم بالحب، بمعنى أن يتفوق حب المؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، على حبه لنفسه وأهله وماله والناس أجمعين، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [ سورة التوبة /24 ].



    وكفى بهذا حضا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله(1).

    وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)(2).

    وعن أنس أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)(3).

    وروى البخاري بسنده إلى أبي عقيل زهرة بن سعيد أنه سمع جده عبدالله بن هشام قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال له عمر: والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر))(4).

    والتعبير بقوله " أحب " في الآية والأحاديث السابقة، تعني أن يكون الله ورسوله أشد محبوبية عند المؤمن من كل محبوب سواهما.










    (1) الشفا للقاضي عياض 2/ 563.

    (2) الحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول من الإيمان، ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والوالد والناس أجمعين، بتقديم الولد على الوالد.

    (3) الحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان(16) وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بمهن وجد حلاوة الإيمان (165).

    (4) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم (6632). وليس الجديد عند عمر هو حصول تلك المحبة الراجحة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الجديد هو إدراكه لتلك المحبة والتفاته إليها.
    تقرير ذلك: أنه كان في أول الأمر قد امتحن نفسه أمام حب المال والولد والزوج والعشيرة والمسكن والتجارة فوجد حبه لهذه الأشياء كلها مرجوحا بجانب حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قد جرى بعد في خاطره حديث المقارنة بين حبه له – صلى الله عليه وسلم – وحبه لنفسه، فلم يجرؤ أن يحكم فيه بشيء بل استثنى نفسه من تلك المقارنة سكوتا عن الحكم بما لم يختبره لا حكما بعد ذلك بالرجحان، فلما نبهه النبي صلى الله عليه وسلم فكر وقارن وتحسس قلبه، فإذا هو يجد من رجحان محبته للرسول صلى الله عليه وسلم عن محبته لنفسه ما كان غافلاً عنه لا ما كان خلوا منه، فقوله صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر – معناه: الآن أصبت في قولك وأحسنت التعبير عما في نفسك. انظر: المختار من كنوز السنة للدكتور دراز ص 343- 344.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(12)



    أهمية السيرة وبواعث دراستها (4 - 12 )



    والحب: هو الميل إلى الشيء، وهو قسمان:

    قسم فطري يغرسه الله تعالى في القلب بأسباب أو بدون أسباب، ومثل هذا الحب لا سلطان لصاحبه عليه، إلا أن يعبر عنه فيحاسب عليه، فأصل العاطفة لا يحاسب صاحبها عليها، أما إذا عبر عن هذا الميل فإنه يملك هذا التعبير فيحاسب عليه، مثل من تزوج بامرأتين فأحب إحداهما أكثر من الأخرى، فإن اقتصر الأمر على الميل فقط فهو لا يحاسب، أما إذا فضل من يحبها على غيرها في الكسوة والطعام والمبيت ونحوه فهو يحاسب على ذلك.

    وقسم منه كسبي يأتي بتوافر دواعيه وأسبابه، كأن يكثر المرء من التفكير في شيء ما، أو يديم النظر إليه، أو يتمعن في صفاته وأحواله فينشأ عن ذلك ميل قلبي.

    والمراد بالحب هنا – الذي يقدم على كل شيء – ليس هو الحب الطبيعي التابع لهوى النفس، فإن محبة الإنسان لنفسه من حيث الطبع أشد من محبته لغيره، ومحبته لولده ووالده أشد من محبته لغيرهما، وهذا الحب فطري لا يستطيع الإنسان دفعه، ولا يؤاخذ الإنسان عليه، بل على العكس، هو مطالب به، وإنما الحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم – والذي يقدم على كل شيء، هو ذلك الحب العقلي(1).

    يقول البيضاوي فيما ينقله عنه ابن حجر: (المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر منه، ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهي إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص أجل، تمرن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له ويلتذ بذلك التذاذا عقليا، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك)(2).

    ويقول أستاذنا الدكتور مروان شاهين: لماذا لا ينضم الحب القلبي إلى الحب العقلي في هذه المسألة، إن البعض قد يفهم من هذا الكلام أنه يكتفي بحب الله تعالى ورسوله حبا عقليا، حتى وإن لم يتجه القلب نحو ذلك، لكننا نقول: إنه من الممكن أيضا تدريب العاطفة على الاتجاه نحو ما فيه الخير والفلاح، والعصمة من التردي في براثن الهوى والمعصية، ومن هنا لم يقبل الله تعالى أن يجد المؤمنون في نفوسهم حرجا من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [ سورة النساء /65 ].

    وأسقط الله تعالى عنهم الاختيار حين يكون هناك حكم لله تعالى أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [ سورة الأحزاب /36 ].

    إننا نعلن أن قياس العواطف قياس غير دقيق، فقد يحب الإنسان الشيء وفيه ضرر له، ويكره الخير وفيه نفع له، قال سبحانه: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [ سورة البقرة /216].

    إذن فعلى المؤمن أن يدرب هواه على إتباع هدى القرآن الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق فيه قوله النبي صلى الله عليه وسلم(3): (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)(4).

    ويقول الدكتور دراز في نفس المعنى: (وليس معنى المحبة العقلية أن يدرك العقل تلك الكمالات والفضائل في المحبوب ويعتقد عظمته وعلو منزلته وإن لم تشعر النفس بالميل إليه كما مثله (الإمام البيضاوي) بالمريض يميل إلى الدواء بمقتضى عقله وإن كان ينفر منه بطبعه. كلا، فإن من كانت محبته لله ورسوله كمحبته للدواء المر جدير بأن يقال له إن يقال له إنه وجد مرارة الإيمان لا حلاوته، وإنما يجد حلاوة الإيمان من كان هواه في تلك المحبة مناصراً لعقله ومسايرا له جنبا إلى جنب)(5).










    (1) زاد المتقين شرح بعض ثلانيات سيد المرسلين ص 7.

    (2) فتح الباري 1/60 وما بعدها.

    (3) زاد المتقين ص 12.


    (4) قال النووي في الأربعين ص 70 رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح، وأخرجه البغوي في شرح السنة ح 1 ( 104 ) وابن أبي عاصم في السنة ( ح 15 ) واستبعد ابن رجب الحنبلي تصحيح هذا الحديث في جامع العلوم والحكم ( ص 574-575 ) .
    (4) المختار من كنوز السنة ص 440.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(13)



    أهمية السيرة وبواعث دراستها (5 - 12 )




    وقد استجمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موجبات المحبة، بما له من كمال الخلق ونقاء الفطرة، وتمام العصمة، وقد ذكر القاضي عياض – رحمه الله – كاملا جميلاً في معنى المحبة وموجباتها، ثم بين اجتماع دواعيها كلها في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (المحبة في حقيقتها هي ميل القلب إلى ما يوافق الإنسان، إما بموجب الطبع أو بمقتضى الشرع).

    فقد يحب الإنسان الشيء إما لجماله وحسن صورته، كحب الصور الجميلة، والأصوات الحسنة، والأطعمة والأشربة اللذيذة لحسن مذاقها، فهذه الأشياء وأشباهها يحبها الإنسان لجمالها الظاهري المحسوس بواحدة أو أكثر من الحواس الخمسة.

    وإما أن يكون حبة للشيء لجمال باطنه وحسن فعاله، كحب العلماء وأهل الصلاح، لما لهم من السيرة الحسنة والأفعال الكريمة، وقد يحبهم الإنسان ويشغف بهم إلى درجة التعصب لهم، وهجر الأوطان لمتابعتهم والقرب منهم.

    وقد يكون حب الإنسان لغيره نتيجة إحسانه له وإنعامه عليه، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها(1).

    وحينما ننظر في تلك الدواعي الثلاثة للمحبة، نجد أن – صلى الله عليه وسلم – قد استجمعها كلها، فله جمال المنظر وحسن الطلعة.

    قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. كأن الشمس تجري في وجهه، وإذ ضحك يتلألأ في الجدر(2).

    وقالت أم معبد في بعض ما وصفته به: أجمل الناس من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب(3).

    وفي حديث ابن أبي هاله: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر(4).

    وقال علي رضي الله عنه في آخر وصفه له: من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول عنه ناعته، لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم(5).

    وله – صلى الله عليه وسلم – كمال الخُلق وصفاء الباطن وحسن الفعال، فهو أكمل الناس خلقا وخلقا، وحسبه تزكية الله له في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).











    (1) الشفا 2/ 579.

    (2) الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه (8/74) وموارد الظمآن (2118)، وأحمد في مسنده (2/350، 380) والترمذي في الشمائل ص 115.

    (3) الحديث أخرجه البيهقي في الدلائل (1/279) وأسناده حسن كما قال ابن كثير، وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/9-10) وقال: هذا حديث الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال: صحيح.

    (4) الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل رقم (7)، والبيهقي في الدلائل (1/ 286) وسنده منقطع لأن فيه راويان مجهولان.


    (5) الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل رقم (6) ص 21 وفيه عمر بن عبدالله مولى غفره، قال عنه ابن حجر في التقريب ص 65، ضعف وكان كثير الإرسال.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(14)



    أهمية السيرة وبواعث دراستها (6 - 12 )



    وإذا كان الناس حين يمدحون إنسانا بحسن الخلق ، ونبل الصفات ، وجمال الفعال ، فإنهم يمدحونه ، لأنهم عرفوا الصفات ، وقيموها ببشريتهم ، وتقييم البشر للأشياء خاضع لعلمهم بهذه الأشياء ، لكن الحق حين يقول لرسوله (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فليس المقصود هنا الخلق المتواضع عليه عند البشر ، ولكنه الخلق المطلوب لله ، ورسول الله اجتاز هذه المنزلة ، فكان صاحب الخلق العظيم بتقييم الله العظيم(1).
    وليس بعد ثناء الله ثناء ، ومن شهد له القرآن فهو حسبه ولله در من قال :
    يا مصطفى من قبل نشأة آدم والكون لم تفتح له أغــلاق
    أيروم مخلوق ثناءك بعدمــا أثنى على أخلاقك الخـلاق
    وله صلى الله عليه وسلم كذلك ، مزيد الإحسان وفرض الإنعام على أمته ، فليس هناك من هو أرحم بالأمة منه ، ولا أشفق عليهم منه ، ولا أحرص على هدايتهم منه ، وكل نعمة وصلت إلى الأمة ، إنما كانت موصولة به – صلى الله عليه وسلم – وأي نعمة أجل من إخراج الأمة من الظلمات إلى النور ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الحيرة إلى الرشاد ، بل أي نعمة أجل من استنقاذهم من النار وغضب الجبار وإدخالهم الجنة والفوز برضا الرحمن جل وعلا .


    يقول الله تعال مبينا حال الأمة قبل مجيئه : (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) [سورة آل عمران /103]، (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة آل عمران /164] فلما جاء وتمت به النعمة وكمل به الدين تبدل حالهم ، وصاروا هداة أعزة ، وقال الله فيهم : (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) وقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [ سورة آل عمران /110 ].

    قال قتادة : (كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا ، وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالا ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردى في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم حتى جاء الله بالإسلام ، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله)(2).
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (لقد هدى الله الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من البينات والهدي هداية جلت عن وصف الواصفين ، وفاقت معرفة العارفين ، حتى حصل لأمته المؤمنين به عموما ، ولأولى العلم منهم خصوصا من العلم النافع ،والعمل الصالح ،والأخلاق العظيمة ،والسنن المستقيمة ،ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علما وعملا – الخالصة من كل شوب – إلى الحكمة التي بعث بها ، لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة قدر النسبة بينهما ، فلله الحمد والمنة كما يحب ربنا ويرضى)(3).
    وبذا يكون – صلى الله عليه وسلم – مستوجبا للمحبة عقلا وشرعا ، بل وتكون محبته فوق كل محبة في حياة الناس .
    ويا عجبا أي عجب ، إذ كان الإنسان يحب من أحسن إليه مرة أو مرتين ، أو من أنقذه من ورطة ، أو أنجاه من تهلكه ، فكيف لا يحب من غمره بإحسانه وحماه من كل شر طيلة حياته ؟ .
    وإذا كان الإنسان يحب ملكا لحسن سيرته ، أو حاكما لعدله في رعيته ، أو عالما لفرط علمه ، أو عابدا لفرط عبادته ، أو زاهدا لفرط ورعه ، فكيف لا يحب من هو قدوة هؤلاء جميعا ، وكلهم ملتمسون منه غرفا من البحر أو رشفا من الديم ؟ .

    أليس من بلغ مراتب الكمال في كل ذلك أحق بالحب وأولى الاتباع ؟ - بلى فداه نفسي وأبي وأمي – صلى الله عليه وسلم .






    (1) لبيك اللهم لبيك للشيخ الشعراوي ص 96.
    (2) تفسير ابن كثير ( 2/300 ) .
    (3) اقتضاء الصراط المستقيم ص 3.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(15)



    أهمية السيرة وبواعث دراستها ( 7- 12 )

    وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه المحبة المشروطة للإيمان الصحيح رهن بمعرفة عظمة النبي صلى الله عليه وسلم قدر ما تطيقه ذات المحب، حيث تكون المحبة على قدر المعرفة.

    يقول ابن حجر مستنبطا من حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده...) وفي الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيره.
    أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ًومآلا.
    فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة، وإما بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم من هذا المعنى أتم لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم(1).
    وعليه فإنه يتحتم على كل مؤمن دراسة السيرة النبوية، والإلمام بجوانبها، والتفقه في مباحثها، والبصر بأحداثها، وسبر أغوار أسرارها، وجمع همة القلب على التعايش مع مشاهدها، لتثمر هذه الدراسة المعرفة به والحب له صلى الله عليه وسلم.
    إن أكبر فيجعه أصيب بها العالم الإسلامي هي فتور هذا الحب المقدس في قلوب المسلمين بسبب بعدهم عن الدين وتعقلهم بالدنيا.
    إن الحب ليفجر في النفس الإنسانية عجائب السلوك وغرائب المعاني المقدسة والراقية، ويفجر أيضا معاني التضحية والفداء،وليس شيء يخلص الإنسان من معايبه النفسية والسلوكية مثل الحب.
    يقول جلال الدين الرومي: (إن الحب يحول المر حلواً، والتراب تبرا، والكدر صفاء، والألم شفاء، والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر رحمة،وهو الذي يليّن الحديد،ويذيب الحجر،ويبعث الميت وينفخ فيه الحياة، ويسوّد العبد).
    (إن جميع المرضى يتمنون البرء من سقمهم، إلا أن مرضى الحب يستزيدون المرض، ويحبون أن يضاعف في ألمهم وحنينهم، لم أر شرابا أحلى من هذا السم، ولم أر صحة أفضل من هذه العلة... إنها علة ولكنها علة تخلص من كل علة، فإذا أصيب بها إنسان لم يصب بمرض قط، إنها صحة الروح،بل روح الصحة، يتمنى أصحاب النعيم أن يشتروها بنعيمهم ورخائهم...)(1).
    إن المسلم اليوم لم يعد يتمتع بذلك الإشعاع الذي كان يضيء به –فيما مضى – ظلمات الكفر ودياجير الجاهلية، وبالتالي فقد دوره في قيادة العالم إلى الهدى والرشاد، وهذه خسارة كبرى للمسلم وللعالم لا يعوض عنها ما بلغه العالم من الكشوف والاختراعات والتقدم العلمي والتقني.
    إن أمة الإسلام اليوم لا يصلح حالها إلا بما صلح عليه أولها، وذلك بالعودة إلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع سنته.






    (1) فتح الباري 1/76- 77.
    (2) رجال الفكر والدعوة للندوى ص 358-359.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(16)



    أهمية السيرة وبواعث دراستها ( 8 - 12 )

    وليعلم المسلم أن محبة رسول الله صلى الله وعليه وسلم ليست شيئا رخيصا يشتري بالثمن البخس أو التقديم البسيط أو أداء القليل من السنن والنوافل، وإنما ثمنه أن يترسم في حياته منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، وأن تصبح مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرة دينه همه في ليله ونهاره، وفي صحوه ومنامه، وفي سره وعلنه.
    إن الصحابة الكرام ما نالوا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن القليل... لقد تركوا من أجله – في الله – المال والولد والأهل والوطن، وتركوا الراحة والزعامة ورضوا بالمواجع واستقبلوا المنغصات راضين مسرورين.
    في سبيل الله ورسوله كان يحلو عندهم المر، ويسهل الصعب،ويقرب البعيد، وتجمل المهالك، ويعذب الموت، وإن من يقرأ أخبارهم في غزوهم سواء كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كانوا وحدهم في سراياهم يدرك أنهم ما كانوا في غزو أبدا،وإنما كانوا في متنزه يسعد قلوبهم.
    لقد كان حب المصطفى صلى الله عليه وسلم يمسح على جراحاتهم وآلامهم، ويهون لهم المصاعب، ويحبب إليهم لقاء العدو، ويرطب لهم جو الصحراء، وكان حبه صلى الله عليه وسلم واحة يأوون إليها من هجير الكفاح وسهام العدو.
    وطئ أبو بكر بن أبي قحافة في مكة يوما بعد ما أسلم، وضرب ضربا شديدا، ودنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال:
    ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت:والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله. قالت:ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت،قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر.وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع ! قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح ! قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
    وخرجت امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً، هو بحمد الله كما تحبين! قالت: أروينه حتى أنظر إليه. فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل(2)، تريد صغيرة.
    وقال أبو سفيان لزيد بن الدثنة وهو يقدم للقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً كحب أصحاب محمد محمداً(3).
    وقال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، قل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة رمح وضربة سيف ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته(4).






    (1) البداية والنهاية: 3/30.
    (2) السيرة لابن هشام ( 2/99 ) والبيهقي في الدلائل ( 3/302 ) بسند ابن اسحاق إلى سعد بن أبي وقاص، وسنده حسن.
    (3) السيرة النبوية لابن هشام ( 3/181 ).
    (4) أخرجه الحاكم في المستدرك ( 3/201) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(17)



    أهمية السيرة وبواعث دراستها ( 9 - 12 )

    وقال عروة بن مسعود لقريش واصفا حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : (والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلدة، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له)(1).
    وقدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال : يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني، قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر(2).
    هؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
    لقد وسع حب رسول الله صلى الله عليه وسلم آفاقهم وساحات قلوبهم وأغوار نفوسهم، فغدوا بشرا من نمط ممتاز لا يعرف التاريخ أمثالهم أبدا، يكفي فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (النجوم أمنة للسماء... وأصحابي أمنة لأمتي)(3). ومن يصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه الأمان فقد كفاه ذلك عزا وفخرا وشرفا وعلوا وسبقا في الصالحين وقربا من الله عز وجل.
    ويوم أحب الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفهموا ذلك الحب متعا ومشاعر وأشواقا باهتة مبتورة، وإنما فهموه خروجا عن الذات في سبيل نصرة الإسلام، ولم يروا أن قضية الإسلام ينقضي شأنها بالشهور والأيام، وإنما عرفوا أن هذا الإسلام قد اختاره الله سبحانه خطابا أخيرا للإنسانية، خطابا يحمِّلهم ورقة عمل تمتد منذ لحظة إعلان إسلامهم إلى آخر لحظة في حياتهم، بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.... هنالك شدوا الحيازيم وعرفوا أن أمامهم رحلة تحليق تمتد إلى آخر عمرهم ارتفعوا فيها فوق شهواتهم وفوق ثقلة الأرض ومطالب الجسد وآلام الأرض وأفراحها وأحزانها.... ارتفعوا إلى حيث المثل والفضيلة والعطاء، ونكران الذات والتجرد والثقة والثبات والتضحية والجهاد.
    لقد علمهم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملوا الإسلام رسالة حب إلى الإنسانية، وعرفهم أن هذه البشرية الضائعة هي أحق بالرحمة والعطف منها بالانتقام والعقوبة، فخرجوا إليها يحملون لها الهداية على مراكب الرحمة والمحبة في سلمهم وحربهم.... ترى أي حب هو أعظم مما تؤديه هذه المفاهيم التي ذكرها ربعي بن عامر وهو يخاطب رستم يوم توجه المسلمون إلى فتح فارس... قائلا : (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)(4). أي حب – ترى – أعظم من هذا الحب ؟ إنسان يترك مألوف حياته ويترك الأهل والوطن ويضحي بروحه، يعرضها للموت ليخرج إلى أمة لا تربطه بها رابطة أبدا من أجل أن يبلغها رسالة الإسلام ويخرجها من الظلمات إلى النور.
    إن هذه النوايا الطيبة وهذا الحب العظيم لشيء يجل عن الوصف وتعجز عنه اللغة حقا، فمهما أحبت الشعوب الفاتحين المسلمين، ومهما أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرجهم من مدرسته فهو حب قليل في موازين الشكر والجزاء(5).






    (1) أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابه الشروط، رقم (2731-2732).

    (2) السيرة لابن هشام (4/ 38).
    (3) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة، رقم (6466).
    (4) حياة الصحابة (1/203).
    (5) انظر : مختصر الجامع في السيرة (1/17).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(18)

    أهمية السيرة وبواعث دراستها ( 10- 12 )
    3- طاعته صلى الله عليه وسلم:

    إن طاعته صلى الله عليه وسلم، والاستجابة له فرض، وهذا فرع الباعثين السابقين قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [سورة الأنفال /20-21].

    فالطاعة واجبة على المؤمنين لله ورسوله، وقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) إشارة إلى تلازم الطاعتين، وتداوم الحالتين، فمن أطاع الله فقد أطاع الرسول، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فلا تصح طاعة أحدهما دون الآخر.
    وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [سورة النساء / 59].
    قال ابن القيم في معنى الآية السابقة: (فأمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتى الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولى الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم يطاعون تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة)(1).
    وقال في التنازع " فردوده إلى الله ورسوله: وقد أجمع الناس أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته "(2).
    وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه – أنه قال: ثلاث في القرآن مقرونة بثلاث لا يعتد بواحدة منها دون الأخرى، وهي:
    قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [سورة التغابن /12].
    وقوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً) [سورة النساء /36].
    وقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [سورة البقرة /110].
    وجعل ربنا من آداب المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يذهبون مذهبا إلا بإذنه فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ كَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة النور / 62].
    يقول ابن القيم: (فإذا جعل من لوازم الإيمان: أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه) (3).
    وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ليست طاعة هوى واختيار، إن شاء المرء فعل وإن شاء ترك، كلا، وإنما هي طاعة إلزام، وجزء من حقيقة الإيمان، ولهذا قال الله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) [سورة النساء /64] أي إن طاعة الرسول تكليف رباني وأمر إلهي، وعد الله عليه بجزيل الثواب، وأوعد على تركه بسوء العقاب.
    وإذا كنا قررنا سابقا فرضية محبته صلى الله عليه وسلم، فإن الانقياد والطاعة من جنود (الحب) المتطوعة، ومن ثم لما أحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل قلوبهم، أطاعوه بكل قواهم، يمثل ذلك خير تمثيل ما قال سعد بن معاذ عن نفسه وعن الأنصار قبل بدر: (إني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم؛ فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك)(4).


    (1) إعلام الموقعين 1/48.
    (2) إعلام الموقعين 1/49-50.
    (3) إعلام الموقعين 1/85.
    (4) انظر: السيرة لابن هشام (2/253، 256) وطبقات ابن سعد (2/24) ودلائل النبوة لأبي نعيم (2/604) ودلائل النبوة للبيهقي (3/106).

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    بارك الله بكم
    هذا وقد أكرمني الله تعالى بتحقيق وتأليف العديد من كتب السيرة النبوية وآخره المفصل في السيرة النبوية
    وكانت طريقتي في جمع وكتابة هذه الموسوعة كما يلي:
    1 - ترتيب الأحداث التاريخية للسيرة النبوية: اعتمدت في ترتيب الأحداث التاريخية للسيرة النبوية على ترتيب إمام المغازي ابن إسحاق لها في مغازيه، كما أورد ذلك ابن هشام في اختصاره لها كمصدر رئيسي، إلا إنني قد أخالف ابن إسحاق في ترتيب الأحداث التاريخية حين يثبت لي ما يخالف هذا الترتيب في مصنفات الحديث ..
    2 - رتبت الأحداث التاريخية تحت عناوين جانبية تسهل على القارئ الوصول إلى ما يريد بسرعة وسهولة.
    3 - اعتمدت في نقل نص الحدث التاريخي لفظ الحديث نفسه، وجمعت سائر رواياته الأخرى التي فيها فائدة بعده مباشرة.
    4 - خرَّجت كل الأحاديث التي ذكرتها كاملة وعزوتها لمصادرها الرئيسة حتى لا يقع فيها خطأ في النقل من المصادر غير الأصلية وقد خرجت سائر الروايات وبينت حكمها من صحة أو حسن أو ضعف خلا أحاديث الصحيحين فكلها صحيحة. ولم أكن مقلدا في ذلك بل أحكامي تدور بين الاجتهاد والاتباع ...
    5 - الأحاديث الضعيفة في هذه الموسوعة قليلة، ولكن لا بد منها لتكملة السيرة النبوية.
    6 - ذكرت غريب الأحاديث، وفسرت الآيات القرآنية بشكل مختصر بما يفي بالغرض.
    7 - ذكرت الفوائد والدروس والعبر وهي شاملة ومنوعة مع نهاية كل موضوع وأحيانا بعد الحدث مباشرة.
    8 - عزوت كل قول لصاحبه في هامش الكتاب، وقد نافت هوامشه على الخمسة آلاف هامش.
    هذا وقد قسمته إلى الفصول التالية:
    الفصل الأول =مصادر السيرة وأهميتها، والكتابة فيها
    الفصل الثاني =حول جغرافية بلاد العرب وأصولهم وأحوالهم
    الفصل الثالث =صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسبه
    الفصل الرابع =رسولنا - صلى الله عليه وسلم - خلقه وأسماؤه
    الفصل الخامس =أحداث عامة قبل البعثة
    الفصل السادس =أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة
    الفصل السابع =البعثة النبوية
    الفصل الثامن =الدعوة السرية
    الفصل التاسع = الجهر بالدعوة
    الفصل العاشر =موقف قريش مما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -
    الفصل الحادي عشر= الهجرة إلى الحبشة
    الفصل الثاني عشر =وقائع مهمة بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء
    الفصل الثالث عشر =الذهاب للطائف وما ترتب عليه
    الفصل الرابع عشر =الإسراء والمعراج وآياتهما
    الفصل الخامس عشر =وقائع مهمة بين الإسراء والمعراج والهجرة النبوية
    الفصل السادس عشر =إسلام الأنصار واستجابتهم لله ولرسوله
    الفصل السابع عشر =الإذن بالهجرة إلى المدينة
    الفصل الثامن عشر =هجرة رسول الله إلى المدينة
    الفصل التاسع عشر =الأحداث والوقائع من قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة إلى غزوة بدر
    الفصل العشرون=دعائم دولة الإسلام في المدينة
    الفصل الحادي والعشرون =الإذن بالقتال
    الفصل الثاني والعشرون =بعض التشريعات الهامة
    الفصل الثالث والعشرون =غزوة بدر الكبرى
    الفصل الرابع والعشرون = الأحداث ما بين بدر واحد
    الفصل الخامس والعشرون =قصة بني قينقاع وقتل بعض المعادين للدولة المسلمة
    الفصل السادس والعشرون =غزوة أُحد
    الفصل السابع والعشرون =الأحداث والوقائع بين أحد والخندق
    الفصل الثامن والعشرون =غزوة الأحزاب (الخندق)
    الفصل التاسع والعشرون =غزوة بني قريظة وما بعدها من أحداث حتى الحديبية
    الفصل الثلاثون =الأحداث من صلح الحديبية إلى فتح مكة
    الفصل الحادي والثلاثون =غزوة خيبر
    الفصل الثاني والثلاثون =كتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والزعماء
    الفصل الثالث والثلاثون =غزوة مؤتة
    الفصل الرابع والثلاثون =سرية ذات السلاسل
    الفصل الخامس والثلاثون =الأحداث من فتح مكة إلى غزوة تبوك
    الفصل السادس والثلاثون =غزوة حنين شوال سنة ثمان للهجرة
    الفصل السابع والثلاثون =غزوة تبوك أو غزوة العسرة
    الفصل الثامن والثلاثون = الأحداث من غزوة تبوك إلى حجة الوداع
    الفصل التاسع والثلاثون =حجة الوداع في السنة العاشرة
    الفصل الأربعون =مرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووفاته
    الفصل الحادي والأربعون = صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخلقية وأخلاقه وشمائله
    الفصل الثاني والأربعون = ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المدنية
    خاتمة =السمات العامة للسيرة النبوية
    أسال الله تعالى أن ينفع جامعه وناشره وقارئه في الدارين.
    الباحث في القرآن والسنة
    علي بن نايف الشحود
    شمال حمص المحررة 23 شعبان 1438 هـ الموافق ل 19/ 5/2017 م
    وهذا رابط الموسوعة
    http://gulfup.me/2ehls8udgwdd


    - - - - - - - - - - - - -

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    وإياكم
    جزاكم الله خيرا

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •