الحمدُ لله والصلاة والصلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
وبعد:
مِمَّا هَوَ معلومٌ مستفيضٌ, نقلُ مَن كتبَ في الخشوع من علماء السلوك وتهذيب النفوس, صلاةَ ابنُ الزبير_ رضي الله عنهما_, فقد كان خشوعه في الصلاةِ آيةٌ يُضرب به المثل, ليس بيننا؟ بل عند جيل العابدين, حتى تتابعت عبارات التابعين بوصفهم له بــ ( كأنه خَشبَةٌ منصوبة ) و ( كأنه عود ) ( وكأنه خِرقة ) فكان سكونه في الصلاة وخشوعه مضربُ المثل بين التابعين, حتى أبهرهم وأثار انتباههم!
ولا عجب ! فهذا امتثالٌ منه_ رضي الله عنه_ لقول الحق _سبحانه_:"{
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ }, في . . فرضها ونفلها فيأتون بأفعالها الظاهرة، من أركانها وشروطها وواجباتها, بل ومستحباتها، وأفعالها الباطنة وهو الخشوع الذي روحها ولبها باستحضار قرب الله, وتدبر ما يقول المصلي ويفعله"([1]). واقتداءً منه بالأكابر الذين ورث منهم العلم والعمل.
قال التابعي الجليل, محدث البصرة ثابت البناني ( ت123هـ) :" كنت أمر بابن الزبير, وهو يصلي خلف المقام, كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك"(
[2]).
وقال التابعي إمام التفسير مجاهد:" كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عودٌ, من الخشوع"(
[3]).
وقال التابعي الجليل مفتي المناسك عطاء ابن أبي رباح:" كان ابن الزبير إذا صلى كأنه كعب راتب"(
[4]). أي منتصب ثابت.
وقال الإمام أحمد حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَهْلُ مَكَّةَ يَقُولُونَ: أَخَذَ ابْنُ جُرَيْجٍ الصَّلاةَ مِنْ عَطَاءٍ، وَأَخَذَهَا عَطَاءٌ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَخَذَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَأَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنَ النَّبِيِّ _r_.
إذن هكذا تناقل الخشوع عملياً بين تلك النخبة المباركة, فقد أخذه ابن الزبير ممن فوقه رأي العين, وأثر بمن بعده تأثيراً عجيباً, حتى إن من أخذ عنه وهو عطاء قد ترك أثراً عجيباً في ابن جريج, وهو من الزم الناس له صحبةً, فقد رأىَ ابنُ عيينه, ابنَ جريج يصلي فقال له: ما رأيتُ مثلك ! فأجابه: بعبارة ضمّنها دمعة معها زفرة أثارت فيه شوقاً وحنيناً! فقال: لو رأيتَ عطاء؟!
وكأني بقائل يقول ذلك لعطاء, فيُجيبه لو رأيت ابن الزبير! فإذاَ سألتَ ابنَ الزبير ؟ لأجابك كاد أبو بكرٍ أن يفتن المشركين بخشوعه وصلاته . . .
. . . فقد روى البخاري في صحيحه هذه القصة العجيبة التي تروي كيف كان يخشى كهول قريش أن يفتنَ أبو بكرٍ مجتمعاتهم !
فلما أرد الصديق الخروج لقيه ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ :" فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي.
قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَأَنَا لَكَ جَارٌ, ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ، فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ المَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَقَالُوا: لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِصَلاَتِهِ وَلاَ يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ, فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ، عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَأَعْلَنَ بِالصَّلاَةِ وَالقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. . . "(
[5]).
" فصلاة أبي بكر . . مجرد مشهد وهو يصلي ويرتل آيات القرآن بفناء داره شكل ظاهرة تأثير دعوية قلبت عوائل قريش رأساً على عقب . . حتى صاروا يتسللون يشاهدونه مبهورين . . "(
[6]).
إذن فابنُ الزبير أخذها متصلة السند, فلا غرابة, فقد أخذها الصديق من رسول الله_r_ بأبي هو وأمي, سلسةٌ ذهبية تروي لنا قصة الخشوع في الصلاة التي صارت اليوم في غالبها مجرد حركات كأنها عادات!
لا أدري مما أعجب من صلاة أبي بكر وتأثيره بالمجتمع؟ أم بخشوع ابن الزبير وأثره في سلسلة من أخذ عنه ؟ أم من صلاتي التي جاوزت الأربعين من عمري و لا اعقل منها شيئاً ؟!
يقول ابن جريج:" كان عطاء بعد ما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من سورة البقرة وهو قائم, لا يزول منه شيء ولا يتحرك"(
[7]).
يقول الشيخ ابراهيم السكران:" يا خيبة أيامي . . و يا حسرةً تقضمني الآن وأنا أقرأ هذا الخبر. . .
فالواحد منا يضبط ساعته على ساعة المسجد في الصلاة وآخر ينظف أنفه في الصلاة ولو وقف أمام مديره لسكن وخشع . . وآخر لا يرتب أكمامه إلا إذا دخل إلى الصلاة ومنا من يقضي جميع أشغاله وحساباته في الصلاة . . والأمر يطول . . في عد مثل ذلك في مساجدنا . .
ويقول ابن القيم:" وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها، فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبداً ميتاً أو جارية ميتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو من أمير أو غيره؟ فهكذا سواء الصلاة الخيالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد _أو الأمة _ الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك . . ."(
[8]).
قلت: كم عبداً وجارية ميتة قدمنا لله في صلاتنا؟!
يَقولُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ:" مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ صَلَاةً مِنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَانَ يُصَلِّي، وَنَحْنُ خَارِجُونَ فَيُرَى كَأَنَّهُ اسْطُوَانَةٌ وَمَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا "(
[9]).
قارن بحالنا اليوم !
ولا غرابة فشيخه الذي نقل له الصلاة قولا وعملاً كانت المنجنيق أيام الحجاج تتخطفه يمنةً ويسرى وهو ثابت كالجبال في شموخها وعلوها . . لا يتحرك ولا يتزحزح .
يقول سيد القراء في التابعين محمد ابن المنكدر:" لو رأيت ابن الزبير وهو يصلي لقلت غصن شجرة يصفقها الريح, وإن المنجنيق ليقع ههنا وههنا ما يبالي"(
[10]).
قلت: وكيف يبالي من علق القلب بالكبير المتعالي.
كرر عليَّ حديثهم يا حادي ** فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
اللهم أرزقنا صلاة تجعلنا نلقى اللذة التي نالوها بين يديك تليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك, وتب علينا, واغفر لنا تقصيرنا, فبئس الخلف نحن لخير سلف.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.



جمعه ورتبه
في السابع عشر من شوال لعام 1438هـ
أبو عبد الله العيسى













([1]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: (ص:601).
([2]) البغوي في معجم الصحابة : (3/517).
([3]) مصنف ابن أبي شيبة: (7322).
([4]) مصنف عبد الرزاق: (3304).
([5]) البخاري: (2298).
([6]) ينظر كتاب مسلكيات: (ص: 118), وكل هذا مستفاد منه.
([7]) حلية الاولياء لأبي نعيم: (3/80).
([8]) الوابل الصيب من الكلم الطيب.
([9]) البيهقي في شعب الإيمان: (2884).
([10]) أبو نعيم في حلية الأولياء: (1/406).