الأمة تواجه الصعود الإيراني!



الكاتب : أحمد بن عبد المحسن العساف






وجود مراكز البحث والدراسات، التي تستقصي الحقائق، وتستشرف المستقبل، وتقدم التوصيات والحلول العملية، ويكون رائدها الحق، وهدفها المصلحة العامة، مع مراعاة المقاصد الشرعية، وتحري الأنفع للأمة، نعمة لا تقدر بثمن.
ومع الأسف تعاني أمتنا ضعفاً شديداً في هذا الجانب، وهزالاً بيناً في أكثر المخرجات، وحين يزول الضعف عن المراكز، والهزال عن مخرجاتها؛ تعاني هذه المراكز من قلة احتفال الدوائر المعنية بنشاطها ونتاجها؛ وكأنها تبحث وتتعب لقوم آخرين؛ وقديماً قيل أزهد الناس بعالم أهله!
وفي السنوات الأخيرة كثرت في عالمنا الإسلامي مراكز البحث، والدراسة، والترجمة، والاستقصاء والرصد، واستطلاع الآراء والتوجهات، وصار لها مؤتمرات، وندوات، وملتقيات، وورش عمل، ومطبوعات دورية تتزامن مع معارض الكتاب التي يتتابع افتتاحها في العواصم العربية. ويزداد بفضل الله عمل هذه المراكز قوة ومتانة وخبرة عاماً إثر عام، والنية الصادقة، مع العمل المستمر، سيثمران ولا بد.
وبين يدي تقرير عنوانه: الأمة في مواجهة الصعود الإيراني، أعده مجموعة من الباحثين، ونشرته مجلة البيان، وصدرت الطبعة الأولى منه في عام(1437)، ويقع في (581) صفحة من القطع الكبير. وهو جهد مشترك بين المجلة والمركز العربي للدراسات الإنسانية في القاهرة، ويحمل الرقم(13) من التقارير الارتيادية " الاستراتيجية"، التي دأبت مجلة البيان على إصدارها سنوياً.
يتكون التقرير من مقدمة، وستة أبواب، وداخل كل باب مقالات طويلة؛ لا تقل الواحدة منها عن عشرين صفحة، وعدد مقالات التقرير ستاً وعشرين مقالة، كتبها رجال ونساء من عدة بلدان عربية وإسلامية، واشترك اثنان في كتابة المقالة الخاصة عن الأحواز العربية، وامتاز البابان الثاني والثالث بطول واضح، وفي مقدمة كل مقالة ملخص لها في صفحة واحدة.
جاء في المقدمة أن إيران لم تستمد قدرتها على التمدد والتوغل في العالم الإسلامي من تماسك داخلي وتوافق مجتمعي، ولم تتكئ على القوة العسكرية؛ بل كانت العسكرة الإيرانية نتيجة لمقتضيات هذا التمدد، كما لا يعزى تمدد إيران لثرواتها من النفط والغاز وغيرهما؛ فإيران منهكة اقتصادياً، ومفككة داخلياً، وترسانتها العسكرية بنيت لأجل الحرب مع العراق.
ولذلك ترجع المقدمة نجاح هذا التمدد الإيراني إلى ثلاثة عوامل رئيسة، هي:
البعد العقدي، وهو بعد حاضر بقوة في دستور إيران، وسياساتها، ومراكز القوى فيها.
الوهن الإقليمي، وهو ضعف ظاهر في الدول السنية والعربية، القريبة والبعيدة، العلمانية وذات الشعارات الإسلامية! ومن الطبيعي بأن المكان الخالي سيجد من يملأه، فضلاً عن لوازم قانون الإزاحة والتزاحم!
الشعارات الثورية، من خلال تبني دعوات الوحدة الإسلامية والتقارب، وباتخاذ قضية القدس ومقاومة اليهود رافعة شعبية لدى الإسلاميين والقوميين واليساريين-باعتبارها قضية دينية مقدسة، وعربية، وتخص الضعفاء-. ثم من خلال التفرد بالعمل الخيري والمنح التعليمية؛ خاصة بعد أن مهدت أمريكا لإيران الطريق بحربها على المؤسسات الخيرية الإسلامية؛ بذريعة مواجهة الإرهاب.
ومع ذلك فلم يسلم المشروع الإيراني من مكدرات أبانت عواره، وأصابته بالضعف، ومنها:
الانكشاف القيمي والأخلاقي، خاصة بعد التدخلات الدموية العنيفة في العراق وسورية واليمن، وتبخرت جميع الشعارات الإيرانية على جانبي بغداد، وفي أكناف دمشق، وعند أطراف صنعاء.
التفكك الداخلي، فإيران من الداخل ليست سوى قطع غير متجانسة من الأعراق والمذاهب والأديان، ويعاني أغلبها من التهميش، وليس هناك رابطة واحدة تجتمع عليها هذه القوميات المختلفة.
طغيان القوة وغرورها الذي خدع السياسي الإيراني، فاستعجل تحريك أذرعته في المنطقة وتثويرها على دولها، وما جره ذلك من استنزاف اقتصادي هائل، ومن الطبيعي أن ينجم عن المشكلات الاقتصادية تململ شعبي، وربما ينفجر بركان شبابي في وسط طهران، ينهي حقبة الملالي والآيات في أي وقت.
وتحمل أبواب هذا التقرير المتقن العناوين التالية حسب الترتيب:
الباب الأول: النظرية والفكر: وهو أشبه بالمقدمة الفكرية والتاريخية لتأصيل مشروع المواجهة، والتعريف بالمشروع الإيراني، مع الاقتراب من موضوعات التشيع السياسي، والتقية، والتقريب، وهي مداخل مهمة لمن أراد التعامل مع الملف الإيراني بعمق وشمولية.
الباب الثاني: أهل السنة في إيران: وفيه وقوف على قضية الأحواز، وواقع العرب والبلوش والتركمان والكرد والأذريين، وموقف حكومة إيران منهم، مع سبل توحيد جهود أهل السنة في إيران، وتزداد أهمية هذا الباب إذا تأملنا نسبة المكون غير الفارسي أو غير الشيعي في إيران، ولاحظنا تركز الثروات في مناطقهم.
الباب الثالث: العالم الإسلامي: وشمل التمدد الإيراني في اليمن والعراق وسورية ولبنان وأفريقيا وأندونيسيا، ويختم الباب بمقترح لإحتواء الجماعات الشيعية العربية، ولعل هذا الباب أن يوقظ بلاد المسلمين من رقدتها؛ حين أهملت تمتين العلاقات مع مجموعات العمل الإسلامي بل ودمرتها أحياناً أو كادت، في مقابل ما تفعله إيران لتنشيط مجموعات شيعية؛ بل وفي استنبات أخرى!
الباب الرابع: العلاقات الدولية: وفيه حديث عن موضوعين مهمين هما القنبلة النووية، والعلاقات الإيرانية الإسرائيلية، وثالثهما يبحث موقف دول الخليج التي وجدت نفسها وحيدة أمام إيران بعد تراجع أمريكا عن دور الحماية التقليدي، ولا يقل هذ المقال أهمية عن صاحبيه.
الباب الخامس: العمل الإسلامي: وفيه مقالتان عن الحوثيين وتعامل الجماعات الإسلامية والقبائل اليمنية معهم قبل الثورة وبعدها، والثانية عن الإعلام الفضائي الشيعي وحجم المواجهة السنية له، وكم يجدر بالحكومات العربية أن تلتفت للقنوات التي تستطيع مجابهة المد الصفوي بدلاً من الانفاق على قنوات تلمع رجالات إيران؛ وتجعل حسناً ما ليس بحسن في حكاية لم تعد سراً!
الباب السادس: قضايا اقتصادية: وفيه بحث لأثر رفع الحظر والعقوبات عن إيران بعد الاتفاق النووي، إضافة إلى مدى جدوى استخدام النفط كسلاح لمواجهة المشروع الإيراني.
والملاحظ أن محتويات هذا التقرير على شموليتها لم تفرد بالبحث موضوعين مهمين للغاية، هما:
الأول: العلاقات الإيرانية الغربية، خاصة مع انكشاف كثير مما كان وراء آكام السياسية وأكاذيبها، ووجود مؤلفات وربما وثائق عنها.
الثاني: دور تركيا في مواجهة المشروع الإيراني، ولهذا الموضوع أهمية واقعية بحكم الجوار التركي، والحضور القوي لها في المنطقة الإسلامية والدولية، وله امتداد تاريخي مهيب، حيث كان العنصر التركي من أبرز المقاومين للمد الباطني في القرن الهجري الرابع وما تلاه من الحقبة الصليبية والمغولية، وفي القرن العاشر إبان ظهور الدولة الصفوية.
وكنت أتمنى أن يحوي هذا التقرير المتين ما يلي:
1- مختصر من ثلاث صفحات على الأكثر لكل باب.
2- تعريف أوسع بالباحثين والكتاب وسبل التواصل معهم.
3- استخدام الألوان في الأشكال والرسوم، وتقليص حجم الورق قليلاً.
4- جمع التوصيات والمشاريع العملية المقترحة في كراس مستقل، أو تمييزها بلون واضح.
وهذه الملحوظات لا تقلل من أهمية هذا التقرير، وعظيم فائدته، ولذا فتتمة لهذا الجهد المشكور من مجلة البيان وشركائها في مشروع التقرير الارتيادي، وحتى تبلغ الفائدة من هذا التقرير أعلى مستوى ممكن لها، يمكن اقتراح ما يلي:
1. إهداء نسخ منه لمراكز صنع القرار في البلدان العربية، وبلدان الخليج على وجه الخصوص.
2. تزويد وزارات الخارجية والمخابرات الخليجية والعربية بنسخ منه، وكذلك المنظمات الخليجية والعربية.
3. إيداع التقرير في المكتبات الوطنية الجامعية والعامة.
4. إطلاع المفكرين والكتاب المهتمين عليه.
5. ترجمة محتوياته أو أهمها إلى اللغة التركية والملاوية والأردية.
6. نشر تغريدات مختصرة عن كل مقالة.
7. الإفادة من محتوى التقرير وخبرة كتابه في البرامج التلفزيونية الحوارية، وفي المؤتمرات المختصة.
وأشير في الختام إلى أن عنوان التقرير يوضح رسالة مهمة؛ نأمل أن يعيها كل مسلم، فقد دأبت آلة الدعاية الإيرانية والشيعية على تصوير الخلاف بأنه شيعي-وهابي، أو شيعي-سلفي، كي تخرج عامة الأمة من دائرة المقاومة، ولاشك أنه تلبيس وتجهيل، فأمة الإسلام كلها تقع في المرمى الإيراني، ولا فرق في نظر الباطنية بين المذاهب الفقهية السنية، أو حتى بين المدارس الفكرية، ولا أدل على ذلك من كمية الدم المسفوك، والدمار العريض، والاعتداءات القبيحة على الأعراض والأنفس، التي عانى منها عوام أهل السنة في العراق وسورية واليمن؛ وجلهم لا يعرف من المصطلحات التي يفوه بها الإعلام الإيراني شيئاً!
وثمة أمر آخر يلفت التقرير النظر إليه، فحكومات البلاد السنية بحاجة إلى مراعاة البعد العقدي، وتوقير الموروث الثقافي في سياساتها وتحركاتها، فمن المنطقي أن المصالح العليا لأي أمة لن تتعارض أبداً مع ثوابتها الشرعية، وأيضاً من المهم قطع الطريق على إيران، وحرمانها من استثمار المجموعات الشيعية من مواطني البلاد العربية، ولا يوجد علاج ناجع وكفيل بقطع دابر أي تدخل إيراني إلا العدل، وأخيراً ليت الأجهزة العربية المعنية ألا تحرم المجموعات الإيرانية المخالفة لحكم الملالي من التواصل والتنسيق بذريعة توجهها الإسلامي؛ فقد تكون أنفع من التيارات القومية والليبرالية.