بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد :

إنَّ من أجل ما يُنكِّد على صفاء الحياة العلميّة والعمليّة للعالِم والمتعلّم ، أن يُقصِّر في جانبين لا عُذر له في صرف كُلِّ عنايته إليهما ، وهما جانبا : الإيمان ، والعبادة ، فبصيانتهما ، وتقويتهما ، يُصان علمه وعمله ، ويحميه الله تعالى من ضياع الهدف ، وغياب الغاية من أعماله .

والاختصاص بالعلم الشرعي ، على كافّة صوره وأنواعه ، نوعٌ فريد من أنواع الاختصاص ، ومهمةٌ متميِّزة عن كافّة المهامّ ، لا يصحُّ أن تُساوى مع المهامِّ الأخرى في التهيؤ لها ابتداءً ، وفي عيشها استدامةً ، ولُبُّ هذا التميّز ، وأساس هذه الفرادة ، أنها كائنةٌ في كون العلم الشرعي نوع عبادة .

وإذا كان مما لا يُنكر أو يُنتقد ، كون علوم الشريعة قد آلت في أشكالها الماثلة ، إلى صناعات مُرتبة ، غلبت عليها رُوح الشكليات المُنظّمة ، فإن هذا لا يعني بحالٍ تفويتَ لُبِّها ، أو الانسياق مع ما تسوق إليه طبيعة الصناعة من جفاء الممارسة ، وحرفيّة التفنّن ، فالعبادة أقوى من كل ذلك .

وأُذكِّر هُنا بأنه لا تمانُع بين الانصراف إلى تجويد صناعة العلم بإتقان وجوهه المختلفة من التبويب ، والترتيب ، إلى المناقشة الفنيّة للموضوعات ، وبين قيام الغاية العظمى من هذه العلوم وهي إبانة الشريعة ، وتحقيق العبودية إذ لا تعدو هذه الصناعة أن تكون وسيلةً ، ومبعث اللوم عندما تتحول إلى غاية .

بل أقول : إنه لا يصح أن يُمنع من زيادة التجويد لصناعة العلوم الشرعيّة وأشكالها ، أو أن توضع لها الحدود العليا ، فيُنعت تجاوزها بالمبالغة ، فإنه لا حَد لكل ما كان مشروعاً في أصله ، وممدوحاً في زيادته ، وزيادة الإتقان للصناعة العلمية ممدوحة بكل حال ، ولا تُذم لذاتها ، بل لغيرها .


ولهذا فإن الكُتب والمطوّلات مهما سوّدت في مناقشة الرُّسوم والتعريفات ، وتشقيق المسائل ، وافتراض مالم يَقع ، فإن هذا مما لا يزيد طالب العلم الشرعي إلا غبطةً واعتزازاً ، إذا ما استدام في قلبه نيّة العبادة في كل ذلك ، ولا أجد أي سندٍ للربط الغريب بين قلّة العلم وبين البركة فيه .

والخُلاصة أن المفهوم الصحيح أن يُقال : إن زيادة العناية بالعبادة ، واستحضار غاية العلم العظمى ، هو الطريق إلى الموازنة مع زيادة العناية بالصناعة العلميّة للفنون الشرعية ، وليس من الصواب في شيء أن يؤمر المتعلم بالتقليل من عنايته بتفاصيل العلم ، لقلة عبادته ، هذا فهمٌ منكوس !


كتبه :
محمد الهذلي
١٤٣٩/٤/٨