- من الذي عليه حمل أمانة البيان و كفاية اللسان و تعلمه أول إنسان ، و وطيء ظهره لكل من يحسن الركوب من الأفعال؛ و أعطى للحروف معنى تفتقده إذا كانت فُرادا أو وِحْدان ؟ و من الذي لا يُرى غيره إلا في حضرته سواء في كلام الإنس أو الجان ؟ ---------------------------------------------------- - (( الأسماء )) : موضوعة لمسميات ذات حقائق و ماهيات مشار إليها بالحس أو بالمعنى ، و يلزم من ذلك تمايز المشار إليه عن غيره من بني جنسه أو نوعه فضلا عن سائر الموجودات ، فأي خلل في أداء هذه الوظيفة يؤدي لزوما الخلل في تصورات العلاقات التي تنشأ بين هذه الحقائق أو المسميات ، فكل مسمى له خصائص و مميزات و صفات كل منها له حقيقة أيضا ، و كل حقيقة من هذه الحقائق لها تعلق بالمسمى ، فقد تُسمى صفة أو عرض أو ذات أو ميزة أو غير ذلك . - مجمل هذه الحقائق مجتمعة معا تعطي الحقيقة الكاملة للمسمى ، و بدوره هذا المسمى يتعلق به حقائق لمسميات أخرى ، هذه الحقائق تدرك بالحس و بالعقل و بالفطرة و هذه هي الأسس الأولى و القواعد الكبرى للتواصل بين بني البشر ، و هي التي تسمى اللغة أو البيان ، و هي توصف عند المحققين بالفطرة اللغوية أو الموروثة أو الجينية . - نأتي على أصوات كل أمة تخصها هي كأمة معينة ؛ و هذه على العموم فهي التي تسمى اللسان ، وتسمى الآن باللغة ، فنقول لغة عربية أو انجليزية و هكذا ، هذه الأصوات المقطعة ذات الخصائص الصوتية المعينة ما هي إلا إنعكاس ظاهري محسوس و ملموس بالحس فقط عن طريق صوت يصل الأذن كما في الألسنة المسموعة ، أو رسم مكتوب أو إشارة حركية تصل العين ، أو شيء محسوس ذو ملمس معين يصل لملمس الجلد كما في لغة برايل و لغة اللمس . - نأتي على الملابسات و القرائن و الظروف و البواعث و الحال و المقام أو غير ذلك مما يشترك مع تلكم المسميات ، كل هذه تشترك في تحديد المعنى و المدلول لتتحسن الصورة المنطبعة في الذهن لتصل لدرجة ينعدم معها اللبس و الغموض أو على الأقل تكفي لتحقيق معنى التواصل و تبادل الأفكار و الأغراض و المشاعر و غير ذلك (هذه هي الكفاية البيانية) ، كل هذه الروافد تصل لنهر واحد يصب في مصب واحد لا يكاد يخطئه أحد و هي الصورة الذهنية و المعنوية الكاملة التي تجد صدى عند المتلقي لها بمقتضى الإنسانية و التماثل فيما بينهم لإتحاد الخالق الذي خلقهم من نفس واحدة علمها الأسماء و علمهم البيان . - و مما يؤكد و يعزز ما سبق أن الإنسان المنفرد عن الجماعة اللسانية لا يفقد اللغة بل تظل معه طيلة حياته و لكن من الممكن أن تضمُر لإهمالها إذا لم نجد وسيلة لتفريغها عن طريق وسيلة لنحقق بها التواصل مع الجماعة الإنسانية ، و المثال الحي على ذلك هيلين كيللر فقد فقدت السمع و البصر و بالتالي النطق في سن سنة و نصف ، ثم بعد ذلك بسنوات تعلمت لغة تواصل عن طريق اللمس ، تجدها تحكي عن كل المشاعر و الأحاسيس و الأفكار المنطقية العقلية التي هي بداخل كل واحد منا مكتمل اللسان ، و تركب جمل تامة كاملة تؤدي معناها كاملا ، ثم درست و تدرجت حتى الدكتوراة ، و أصبحت كاتبة و هي التي كتبت قصة حياتها بيدها بعد ذلك . - و كان مفتاح إدراكها معنى التواصل و تبادل الأفكار (اللسان) هو تذكرها كلمة (ماء) و ادراكها له (حسيا) بالملمس و بالبصر و الصوت الدال عليه ، و شعورها الحسي بالعطش و التروي ، و صفات الماء كسائل في إناء ، لونه شفاف ، عديم الطعم و الرائحه و اللون .... الخ .كل هذه الملابسات و القرائن التي تحف حفا الذات و الماهية و الحقيقة التي استقلت فاستحقت اسما لها هو (الماء) . كل هذا الجمع من الخصائص و الصفات متضمن بالقوة و الفعل في اسم (الماء) ، و لن أطيل في ذكر الموقف الذي أدى لذلك و لكن المهم هو إدراكها لماهية و حقيقة اللسان (طريقة التواصل المتبادل مع الغير) عن طريق معرفتها المسبقة للماء و أن له اسم مختص به يستحضر صورته و معرفته في الواقع الحسي ، و من هنا فقط بدأ سيل جارف من الأسئلة على اسماء الماهيات التي تحيطها من أرض و حشيش و شجر و أزهار و أم و أب و .....الخ . و هنا المكمن : أن الأصل في اللسان و اللغة هو الأسماء و يسهل الباقي بعدها . - و الباقي بعدها هو إدراك العلاقات المتكونة : على سبيل الجواز أو التمكن أو الإستحالة ، في صورها العقلية و الحسية و الفطرية ، و هذه إذا سلمت الخِلقة معها يكفيها أدنى رموز أو إشارات أو تعبيرات أو علامات أو كلام مسموع أو رسم مكتوب ، لينقل و يُقبل من الواحد للآخر ، فكل ما سبق قد يسمى السياق العام و يندرج تحته ضمن مكوناته إذا جاز الفصل ( و هو فصل نظري لمجرد التوضيح فقط و لا يوجد في الحقيقة و الواقع ) السياق الخاص و هذا السياق الخاص يتلون بتلون متعلقه الأساسي فإذا كان العقلي فهو سياق عقلي منطقي ، و إذا كان الحسي فهو سياق حسي ، وإن كان الفطرة و الوجدان فهو سياق فطري وجداني ضروري طبعي ، و من هؤلاء يتشكل سياقات أخرى متعددة قد تسمى : سياق تاريخي ، سياق إجتماعي ، سياق ثقافي ..... و هكذا . - كل سياق من هؤلاء له دلالة قوية جدا مقارنة بدلالة الحركة الإعرابية أو ما هو شأنه شأن تصوير العلاقات بين الحقائق و الماهيات لأنه قد سبق أنها من الضروريات العقلية الفطرية الحسية ، فكل ما ينسب من دلالة للحركة الإعرابية فهو في نطاق توضيح العلاقات فقط و هو ما يسمى بمعاني النحو ، فالتخصيص و الإضافة و الإسناد و غيرها من المعاني هي متحققة أصلا في كلا المتواصلين و متضمنة أصلا في اللسان (ما بقي منه بعد حذف الحركات الإعرابية) ، فلا يمكن تصور علاقة بين حقيقتين على سبيل التأثير إلا أن يكون هناك مؤثر و متأثر ، فاعل و منفعل أو مفعول ، و لا يمكن تصور علاقة بين حقيقتين على سبيل التمييز و التوضيح و النعت و الصفة إلا أن يكونوا واحد هو ذات و الأخر عرض أو حقيقة منوطة به (صفة ذاتية) لا تفارقه أبدا إلا أن يختل الاسم الخاص به فيتغير لغيره ليشير للمسمى الجديد لتغير حقيقته و ماهيته ، و هكذا باقي المعاني لا يمكن تصورها أو قبولها أو فهمها إلا أن تكون على نفس الطريق المؤدي إلى قبولها أو رفضها بناء على الحس و العقل و الفطرة . ----------------= - فما هو قدر الإعراب (الحركة و العلامة الإعرابية) و دوره في هذه العملية التي يتولد منها المعاني و المدلولات ؟ - و إن كان دوره علاماتي ( و هو أصل اشتقاقها أي العلامة الإعرابية) فلا بد أن تكون متعارف عليها بين الطرفين و إلا فقدت معناها و ماهيتها ، و لو كانت بهذه الأهمية الدلالية فأين هي الآن ؟! - و الكل متفق على أن هذه الحركات المدية القصيرة؛ ليست من أصل الكلمة بل تلحق بها لتشير و تُعلِّم على معنى زائد و متعلق بالذات (المسمى) ؛ نتج عن تفاعله أو وصفه أو تخصيصه أو اضافة أو غير ذلك من معاني ليست أصيلة في الإسم و لا في المسمى منفردا ، و بالنظر قليلا لهذه المعاني؛ نجد أنها قد كُفِيَت مؤنتها؛ من تعلق الأسماء ببعضها البعض؛ في علاقات تتنوع ما بين الفاعلية و المفعولية و التخصيص و الإضافة و التمييز و النعت و غير ذلك ، تُفهم و تُعلم بمجرد تجاور هذه المسميات؛ التي تدل على الذات و الفعل و الصفات ...الخ ، فمثلا إذا تجاور (الولد) مع فعل (ذهب) ؛و تجاور حرف (إلى) ثم تجاور مع (المدرسة) ، نتجت الفكرة مكتملة و صائبة و مقبولة عقلا و حسا و فطرة ، و ليس هناك أي حاجة لمزيد بيان أن ندلل على أن (الولد) هو الذي قام بالفعل فهو فاعل الذهاب ، و أن (ذهب) فعل الولد، و (إلى) حرف يبين مكان انتهاء فعل الذهاب ، و (المدرسة) هي البقعة التي على الأرض يقام فيها التدريس . فكل هذه معان فطرية عقلية حسية ضرورية ، حتى لو فتح حرف الدال بدلا من ضمه و لا حتى لو سكنه و لم يعطيه أي حركة ، و هكذا باقي الكلمات التي تأخذ حركة . فمعاني هذه المواقع الإعرابية التي استقرأوها من الكلام العربي هي ليست حكر و لا ملك الحركة الإعرابية بل هي مشاع في الوعي اللساني العربي كله ، مغروزه في اللسان ، و لا تفترق عنه في ماهيته ، و لا تفارق المتكلم و لا السامع ، و لا يكفي مجرد ملاحظة الترابط بينهما لأنه من الممكن أن يكون ربط و تعليل واهم و هذا له أسبابه المتعددة التي ترجح هذا الجانب من حيث الواقع و من حيث التنظير .