الأبيض والأسود في العِلْم:
كلما ضاق الأفق وقلَّت الممارسة وضعف النظر: لم تر العيون من الألوان إلا المتضادين: الأبيض والأسود، مع أن أصناف العلوم حمَّالةٌ لغيرهما من الألوان.
مَن خبَر العلوم أدرك فيها الإثراء الفكري اللا محدود من الآراء والوجوه والأقوال والمذاهب في:
التفسير والقراءات، والنحو والبيان، والفقه والأصول والفتاوى، وغيرها.
وكل ما سبق فمُدَوَّنٌ محرَّر يحتاج من المتخصص غالبًا إلى درسه وفهمه وتحقيقه ونقله في المواصع اللائقة به.
وكنموذج #فالقياس له أصل في الشرع وشواهد، وهو من أصول الاستدلال المعتبرة حيث لا يوجد نص، لكن طائفة بالغوا في اعتباره على حساب النصوص، و أخرى بالغوا في إنكاره فاضطرتهم مخالفته إلى قبائح لا يرتضيها العقل الصحيح.
وأما #الحديث وعلومه وتطبيقاته فهو أقل تلك العلوم قبولا لفكرة الإثراء الفكري لدى المشتغلين به.
فتراهم يتطلبون له إما الأبيض وإما الأسود.
1- فالراوي عند #طائفة: إما مقبول الرواية فحديثه صحيح أو حسن.. بناء على كونه ثقة أو صدوق..
وإما مردود الرواية فحديثه ضعيف أو منكر...
أما تخطأة الصدوق بلْهَ الثقة عندهم فخلاف الأصل ولا مْلجيء له عندهم، فيحتملون صوابه بالتجويزات العقلية ما أمكنهم ذلك.
ويدفعهم إلى ذلك أن قضية القرائن المْفضية إلى اختلاف الحكم بحسب كل حالة: لا تخضع لنظرية الأبيض والأسود فتتشوش الصورة لديهم.
وعند الطائفة #المقابلة: يردُّون الراوي لأدنى مغمز ولو لم يكن مؤثرا، ويعتبرون كل حديث فيه ضعف: منكرا أو باطلا، ولا يقيمون رأسًا للاستشهاد بما يصلح في مظانه.
2- والتفرد لما كان ليس بعلة في نفسه فهو عند #طائفة: إما مقبول من الراوي مقبول الحديث، وإما مردود من مردوده.
أما ردُّه لكون المتفرد -على ثقته- قد انفرد عن أصحاب شيخٍ مكثرٍ يُجمعُ حديثُه: فهذا على خلاف نظرية الأبيض والأسود؛ مستدلين بأن هذا الراوي نفسه قد قُبل منه التفرد بغير هذا الحديث، فينبغي أن يطرد قبوله.
وعند الطائفة #المقابلة: فالتفرد نفسه علة يردون بها الحديث ولو كان في الصحيحين.
3- والزيادة من المقبول سواء كانت في الإسناد أو المتن فهي عند #طائفة: مقبولة مطلقًا ما لم تكن مخالفِة، وجُلُّ زيادات المتون غير مخالفة، وأكثر زيادات الأسانيد كذلك، وجميعها يحتمل التجويزات العقلية كتعدد المجالس وعدم نشاط مَن نقص أو تعدد الشيوخ عند المخالفة ونحو ذلك.
ولا يقبلون ردَّ زيادةٍ من مقبول لأنه خلاف الأصل.
وعند الطائفة #المقابلة: يردون كل زيادة مهما كان صاحبها ومَن خرجها واعتمدها من أهل النقد والنظر، ويردونها أحيانا لمجرد استشكال معناها عندهم.
#أصحاب نظرية الأبيض والأسود في الحديث-وغيره- يعتبرون سائر الألوان: فوضى، وتضيق صدورهم وعقولهم عنها؛ لأنها تتطلب مزيد من الجهد لضبط عدساتهم، ويرمون مخالفيهم بالبدعة، بدعة الخروج عن المألوف السهل:الأبيض أو الأسود.
تأملوا كتب التفسير لاسيما المسندة كالطبري، وكتب الفقه المقارن المطولة، وكتب علل الحديث وسؤالاته وتواريخه: لتعلموا كم للعقل من مجالات للفهم والتحرير والتحقيق، يطمسها أصحاب نظرية اللونيْن.
والله تعالى الموفق.