السلام عليكم،

حكمة الصوم في الإسلام *
مقال للشيخ والإمام محمد البشير الإبراهيمي الجزائري رحمه الله تعالى
("آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي" ج4/ص195>199)

يسمّي الناس هذا الشهر العظيم بشهر الصوم، أو شهر الإمساك فيقتصرون على الظاهر من أمره، فيبتدئ التقصير منهم في جَنْبِه من تسميته بأهون خصائصه ووصفه بأيسر صفاته، ووزنه بأخفّ الموازين، وشيوع هذه المعاني السطحية بين الناس يُفضي بالنفوس إلى تأثّرات باطنية، تبعدُها عن الحقائق العليا وتنزل بها إلى المراتب الدنيا، وقد توجّهها إلى جهات معاكسة للوجهة المؤدية إلى الله، ومن نتائج ذلك أن الناس أصبحوا يتعاملون مع الله على نحو من معاملة بعضهم بعضًا، فالنفوس الراهبة تخاف الله خوفًا تفضله على قياس الخوف من الملوك والأقوياء، مع أن الخوف من المخلوق يقتضي البعد عنه، والحذر منه والبغضَ له، أما الخوف من الله فإنه يقرب إليه، ولا يبعد عنه، ويثمر الحبّ والرضى والسكينة والاطمئنان، فأنّى يقاس أحدهما على الآخر! ولكنه الضلال في فهم العبادة جر إلى الضلال في فهم آثارها ومعانيها، ثم إلى الحرمان من آثارها ومعانيها؛ والنفوس الراغبة تطمع في الله طمعًا تقيسه بمقياس الطمع في المخلوق، فتلحف في السؤال ثم تضجر، وتعبده تملّقَا لا تعلّقًا، وكأنها تعطيه لتأخذ منه، وكأن العبادة عملية تجاريّة بين طرفين، مبنى أمرها على المصالح والمعاوضات، ومن غريب أمر هذه النفوس أنها تستأنس لهذا المعنى بعبارات القرآن مثل قوله تعالى: {هَئ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} الآية، وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} الآية، وقوله: {فَاسْتَبْشِرُو ا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ ائمُؤْمِنِينَ} الآية، ولم تدرِ أن هذه أمثال ضربها الذي لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها، بالمُحَسّات المدركة لجميع الناس، ليستدرجهم منها إلى المعقولات العليا التي لا يعقلها إلا العالمون.
ما مسخ العبادات عندنا وصيّرها عادمة التأثير، إلا تفسيرُها بمعاني الدنيا، وتفصيلُها على مقاييسها، فالخوف من الله كالخوف من المخلوق، والرجاء في الله على وزن الرجاء في غيره، ودعاؤه كدعاء الناس، والتوكّل كالتوكّل، والقرب كالقرب، والعلاقات كالعلاقات، وعلى هذه الأقيسة دخلت في المعاملات مع الله معاني التحيّل والمواربة والخلابة، فدخلت معها معاني الإشراك، فذهبت آثار العبادات وبقيت صُوَرُها. فلم تنهَ الصلاة عن الفحشاء والمنكر، ولم يهذّب الصوم النفوس، ولم يكفكف من ضراوتها، ولم يزرع فيها الرحمة، ولم يغرها بالإحسان.
ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن، وآيات الأكوان، لما ضلّوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله- وهي العبادات- وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف فمن وحّد الله حق توحيده، قدره حق قدره، فعرفه عن علم، وعبده عن فهم، ولم تلتبس عليه معاني الدين بمعاني الدنيا، وإن كانت الألفاظ واحدة، وإن أَدْرِي أمن رحمة الله بنا، أم من ابتلائه لنا أن جعل لغة الدين والدنيا واحدة؟
أما شهر رمضان عند الأيقاظ المتذكّرين، فهو شهر التجليات الرحمانية على القلوب المؤمنة، ينضحها بالرحمة، وينفح عليها بالرّوح، ويخزها بالمواعظ، فإذا هي كأعواد الربيع جدّةً ونضرة، وطراوة وخضرة، ولحكمة ما كان قمريًا لا شمسيًا، ليكون ربيعًا للنفوس متنقلًا على الفصول، فيروّض النفوس على الشدة في الاعتدال، وعلى الاعتدال في الشدة.
إن رمضان يحرّك النفوس إلى الخير، ويسكّنها عن الشر، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبعد عن الشر من الطفولة البلهاء، ويطلقها من أسر العادات. ويحرّرها من رقّ الشهوات، ويجتثّ منها فساد الطباع، ورعونة الغرائز، ويطوف عليها في أيّامه بمحكمات الصبر، ومثبّتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقرب منه.
هو مستشفى زمانيّ، يستطبّ فيه المؤمن لروحه بتقوية المعاني الملكية في نفسه، ولبدنه بالتخفّف من المعاني الحيوانية.
...
لكل عبادة في الإسلام حكمة أو حِكَم، يظهر بعضُها بالنصّ عليه أو بأدنى عمل عقليّ، ويخفى بعضها إلا على المتأمّلين المتعمّقين في التفكير والتدبّر، والموفّقين في الاستجلاء والاستنباط، والحكمة الجامعة في العبادات كلّها هي تزكية النفس وتطهيرها من النقائص الروحية، وتصفيتها من الكدرات، وإعدادُ ها للكمال الإنساني، وتقريبها للملإ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية، وينفرد الصوم من بين العبادات بأنه قمعٌ للغرائز عن الاسترسال في الشهوات التي هي أصل البلاء على الروح والبدن، وفطم أمهات الجوارح عن أمهات الملذات، ولا مؤدب للإنسان كالكبح لضراوة الغرائز فيه، والحدّ من سلطان الشهوات عليه، بل هو في الحقيقة نصر له على هذه العوامل التي تبعده عن الكمال، وكما يحسن في عرف التربية أن يؤخذ الطفل بالشدة في بعض الأحيان، وأن يعاقب بالحرمان من بعض ما تميل إليه نفسه، يجب في التربية الدينيّة للكبار المكلّفين أن يؤخذوا بالشدة في أحيان متقاربة كمواقيت الصلاة {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ائخَاشِعِينَ}، أو متباعدة كشهر الصوم، فإنه لا يأتي إلا بعد أحد عشر شهرًا، كلها انطلاق في المباحات، وإمعان فيها، واسترسال مع دواعيها، وإن شهرًا في التقييد الجزئي بعد أحد عشر شهرًا في الانطلاق الكلي لقليل، وإن جزءًا من اثني عشر جزءًا ليسير في حكم المقارنات النسبية، فهو يسر في الإسلام ما بعده يُسر، وسماحة ما بعدها سماحة.
لو أن مسرفًا في تعاطي الشهوات، يطاوع بطنه في التهام ما حلا من المطاعم وما مرّ، وما برد منها وما حرّ، ويطاوع داعيته الأخرى باستيفاء اللذة إلى أقصى حد، لكانت عاقبة أمره شقاءً ووبالًا، ونقصًا في صحته واختلالًا، ولكانت الحمية منه في بعض الأوقات واجبًا مما يأمر به الطبيب الناصح، تخفيفًا على الأجهزة البدنية، وادّخارًا لبعض القوّة إلى الكبر، وإبقاءً على اعتدال المزاج، وتدبيرًا منظمًا للصحة، بلى ... وإن ذلك لهو الحكمة البارزة في الصوم، تطبيقًا للتدبير في شهر، وإرشادًا إليه في بقية الأشهر: وإذا كان كثير من المسلمين قد أفسدوا اليوم هذه الحكمة بالإفراط في التمتّع بالشهوات في ليالي رمضان حتى كأنها واجبات فاتتهم، فهم يقضونها مضاعفة مع واجبات الليل، وأفسدوا أجر التعب فيه بنوم نهاره، وسهر ليله في غير طاعة، فإن ذلك لا يقدح في الحكمة الدينية، لأن من كمال هذه الحكمة أن يقتصد المسلم في كل شيء وفي كل وقت، وأن يجمع بين سنّة الدين وبين سنّة الكون في جعل الليل لِباسًا والنهار مَعاشًا.
...
إن هذا الاستعداد المتناهي الذي يستعدّه مسلمو اليوم لرمضان بالتفنن والاستكثار من المطاعم والمشارب مخالف لأوامر الدين، منافٍ لحفظ الصحة، مناقض لقواعد الاقتصاد. ولو كان هؤلاء متأدّبين بآداب الدين لاقتصروا على المعتاد المعروف في طعامهم وشرابهم، وأنفقوا الزائد في طرق البر والإحسان التي تناسب رمضان، من إطعام الفقراء واليتامى والأيامى، والغالب أن يكون لكل غنيّ مسرف في هذا النوع جارٌ أو جيران من الفقراء والأيامى واليتامى، وهم أحقّ الناس ببرّ الجار الغني، ولو فعل الأغنياء والمسرفون ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربة أخرى ذات قيمة عظيمة عند الله، وهي الإحسان إلى المعدمين، وذات مزية في المجتمع، لأنها تقرّب القلوب في الشهر المبارك، وتشعر الصائمين كلّهم بأنه شهر إحسان ورحمة وتوكيد للأخوة الإسلامية.
وإذا كان من لطائف الحكم المنطوية في فريضة الصوم قمع الغرائز، فمنها أيضًا إمرار العوارض الجسمية على من لم يتعوّدها، ففي الناس مترفون منعّمون، يستحيل في العادة أن يذوقوا ألم الجوع لما تيسّر لهم من أسباب الشبع، فكان في هذا التجويع الإجباري بالصوم إشراك لهم مع الفقراء في الجوع حتى يذوقوا طعمه، ويتصوّروه على حقيقته، إذا وقف أمامهم سائل جائع يشكو الجوع ويشكو آلامه ويطلب العون بلقمة على دفعه، ومن ذاق الألم من شيء رقّ للمتألمين منه.
وتصوّر أنت غنيًّا واجدًا ميسّر الأسباب لا يطلب شيئًا من شهوات البطن إلا وجده محضرًا، ثم يقف أمامه فقير عادم لم يذق الطعام منذ ليال، فهو يتفنن في وصف الجوع وآلامه، والمضطر حين يطلب الإحسان، أخطب من سحبان، فهل ترى نفس هذا الغني المنعّم تتحرك للخير، وتهتزّ للإحسان، كما تتحرّك وتهتزّ، وتسرع إلى النجدة نفس من سبق له الحرمان من الطعام والتألّم لفقده؟
...
ومن مزايا هذه العبادة في غير هذا الباب أنها عبادة سلبيّة، بمعنى أنها ليس فيها عمل إيجابي من أعمال الجوارح، كالصلاة والحج، وحتى الزكاة فإن فيها نقلًا ودفعًا، وإخراجًا، وإنما الصّوم إمساك عن شيء كان مباحًا في أيام غير رمضان، ثم يعود إلى أصله بعد خروج رمضان، والإمساك وإن كان عملًا إلا أنّه سلب وانتفاء، وسرّ هذه المزيّة أنه أبعد العبادات عن الرياء الماحق للأعمال، حتى إن التسميع فيه- وهو قول الصائم: إني صائم- لا يحمله السامع على أنه تمدّح بالصوم، وليس فيه عمل يُرى، ولا أثر حقيقي أو مصطنع كأثر السجود في الجباه، إلا الشحوب الذي يكون من المرض كما يكون من الصوم، ولهذا البعد من الرياء ورد في حديث قدسي: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».
ومن عظم منزلة الصوم عند الله أن شرعه عقوبةً وكفارةً عن ارتكاب بعض المخالفات كالحنث في اليمين، والتمتعّ بالعمرة إلى الحج، والظهار، وقتل الخَطإ، وفطر العمد في رمضان، ولم يجعل هذا لغيره من العبادات والأركان، فلا تكفير عن ذنب بصلاة ولا حجّ ولا مال من جنس الزكاة.
...
وفي التعريف الفقهي للصوم بأنه إمساك عن شهوتين اقتصارٌ على ما يحقق معناه الظاهري الذي تناط به الأحكام بين الناس، وتظهر الفروق، فيقول الفقيه: هذا مجزئ، وهذا غير مجزئ ويقول العامي: هذا مفطر وهذا صائم، أما حقيقة الصوم الكامل التي يناط بها القبول عند الله، فهو إمساك أشدّ وأشقّ لأنه يتناول الإمساك عن شهوات اللسان أيضًا، من كذب وغيبة ونميمة وشهادة زور وأَيْمان غموس وخوض في الأعراض، وغير ذلك مما يسمّى حصائد الألسنة. فالصائم الموفّق هو الذي يفطم لسانه عن هذه الشهوات الموبقة، وأشدّها ضررًا الغيبة وإشاعة الفاحشة.
وهذا النوع من الإمساك يدخل في معنى الصوم لغة وفي مفهومه شرعًا، ونصوص الدين تدل على أنه شرط في القبول، مثل: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ ائجُوعُ وَائعَطَشُ»، ومن اللطائف القرآنية أن الله تعالى وصف المغتاب بأنه {يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} وهذه الكناية البديعة تصوّر هذا النوع من الإفطار الخفيّ أبشع تصوير، يستشعر السامع منه أن المأكول لحم إنسان، وكفى به شناعة، وبأنه ميت، والميت يذكّر بالميتة، وذلك أشنع وأبلغ في التنفير.
أما هذه الحالات التي أصبحت لازمةً للصوم بين المسلمين، ويعتذرون لفاعلها بأنه صائم، مثل سرعة الغضب، والانفعال، واللجاج في الخصومة على التوافه، والاندفاع في السباب لأيسر الأسباب- فكلها رذائل في غير رمضان، فهي فيه أرذل، لأنها تذهب بجمال الصوم وبأجره، وكل قبيح اقترن بجميلٍ شانه، وأذهب بهاءه ورونقه، وكم رأينا من آثار سيئة ترتّبت على ذلك، والجاهلون بسرّ الصوم وحكمه يعتقدون أن ذلك كلّه من آثار الصوم وعوارضه، وكذبوا وأخطأوا ... فإن الصوم يؤثر في نفوس المؤمنين الضابطين لنزواتهم عكسَ تلك الآثار: هدوء واطمئنان وتسامح وتحمّل، وورَد لدفع ذلك من آداب النبوّة أمرُ الصائم إذا شارّه غيره أن يقول: «إِنِّي صَائِمٌ».
فعلى الدعاة إلى الحق والوعّاظ المذكّرين وخطباء المنابر أن يحيوا آداب الصوم في نفوسهم، ثم يذكّروا الناس بها حتى تحيا في نفوس الناس، ومن صبر على الصوم المديد، في الحر الشديد، ابتغاء القرب من الله فليصبر على ما هو أهون ... ليصبر على الأذى المفضي إلى اللجاج المبعد عن الله. اهـ.

-------------------------------------------------------
*- نشرت في العدد 232 من جريدة «البصائر»، 5 جوان 1953.

والحمد لله ربّ العالمين