تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: اعتبار الدلائل والقرائن -بن القيم رحمه الله

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي اعتبار الدلائل والقرائن -بن القيم رحمه الله

    وقد ظهر بهذا ان ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة فإنه صلى الله عليه وسلم أمر ان يقاتل الناس حتى يدخلوا في الاسلام ويلتزموا طاعة لله ورسوله ولم يؤمر ان ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم بل يجرى عليهم احكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه ويجرى أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم - فأحكام الدنيا على الاسلام - وأحكام الآخرة على الإيمان - ولهذا قبل إسلام الأعراب ونفى عنهم ان يكونوا مؤمنين وأخبر أنه لا ينقصهم مع ذلك من ثواب طاعتهم لله ورسوله شيئا وقبل إسلام المنافقين ظاهرا وأخبر أنه لا ينفعهم يوم القيامة شيئا وأنهم في الدرك الأسفل من النار
    فأحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر للعباد ما لم يقم دليل على ان ما أظهروه خلاف ما أبطنوه كما تقدم تفصيله وأما قصة الملاعن فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال بعد ان ولدت الغلام على شبه الذي رميت به: "لولا مامضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" فهذا والله أعلم إنما أراد به لولا حكم الله بينهما باللعان لكان شبه الولد بمن رميت به يقتضى حكما آخر غيره ولكن حكم الله باللعان ألغي حكم الشبه فإنهما دليلان وأحدهما أقوى من الآخر فكان العمل به واجبا وهذا كما لو تعارض دليل الفراش ودليل الشبه فإنا نعمل دليل الفراش ولا نلتفت إلى الشبه بالنص والاجماع فأين في هذا ما يبطل المقاصد والنيات والقرائن التي لا معارض لها وهل يلزم من بطلان الحكم بقرينة قد عارضها ما هو أقوى منها بطلان الحكم بجميع القرائن وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام
    وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعا غير هذا وهذا شأن عامة المتداعيين لا بد أن يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا وينفذ حكم الله عليهما تارة بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل وتارة بغير ذلك إذا لم يكن مع المحق دليل
    وأما حديث ركانة لما طلق امرأته ألبتة وأحلفه النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما أراد واحدة فمن أعظم الادلة على صحة هذه القاعدة وان الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإن خالفت ظواهر ألفاظهم فإن لفظ ألبتة يقتضى أنها قد بانت منه وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح وأنه لم يبق له عليها رجعة بل بانت منه ألبتة كما يدل عليه لفظ ألبتة لغة وعرفا ومع هذا فردها عليه وقبل قوله أنها واحدة مع مخالفة الظواهر اعتمادا على قصده ونيته فلولا اعتبار القصود في العقود لما نفعه قصده الذي يخالف ظاهر لفظه مخالفة ظاهرة بينة فهذا الحديث أصل لهذه القاعدة وقد قيل: منه في الحكم ودينه فيما بينه وبين الله فلم يقض عليه بما أظهر من لفظه لما أخبره بأن نيته وقصده كان خلاف ذلك
    وأما قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل في حكم الدنيا استعمال الدلالة التي لا يوجد أقوى منها يعني دلالة الشبه فإنما أبطلها بدلالة أقوى منها وهي اللعان كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش واعتبرها حيث لم يعارضها مثلها ولا أقوى منها في إلحاق الولد بالقافة وهي دلالة الشبه فأين في هذا إلغاء الدلالات والقرائن مطلقا [مهم جدا ]
    أحكام الدنيا تجري على الاسباب:
    وأما قوله: إنه لم يحكم في المنافقين بحكم الكفر مع الدلالة التي لا أقوى منها وهي خبر الله تعالى عنهم وشهادته عليهم
    فجوابه ان الله تعالى لم يجر أحكام الدنيا على علمه في عباده وإنما أجراها على الاسباب التي نصبها أدلة عليها وإن علم سبحانه ونعالى أنهم مبطلون فيها مظهرون لخلاف ما يبطنون وإذا أطلع الله رسوله على ذلك لم يكن ذلك مناقضا لحكمه الذي شرعه ورتبه على تلك الاسباب كما رتب على المتكلم بالشهادتين حكمه وأطلع رسوله وعباده المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولهم اعتقادهم وهذا كما اجرى حكمه على المتلاعنين ظاهرا ثم أطلع رسوله والمؤمنين على حال المرأة بشبه الولد لمن رميت به وكما قال: إنما أقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد يطلعه الله على حال آخذ ما لا يحل له أخذه ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم وأما الذي قال:يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحا ولا كناية وإنما أخبره بالواقع مستفتيا عن حكم هذا الولد أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه ام ينفيه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح الصدر له ولا يقبله على إغماض فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقول من يشاتم غيره أما أنا فلست بزان وليست امي بزانية ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وانكى من التصريح وأبلغ في الأذى وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح فهذا لون وذلك لون وقد حد عمر بالتعريض في القذف ووافقه الصحابة رضى الله عنهم أجمعين -----وأما قوله رحمه الله إنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم فإنه يريد ما رواه عن مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال قائل: مدح أباه وأمه وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين وهذا لا يدل على أن القائل الاول خالف عمر فإنه لما قيل: له إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا فهم أنه أراد القذف فسكت وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة وقد صح عن عمر من وجوه أنه حد في التعريض فروى معمر عن الزهري عن سالم عن ابيه أن عمر كان يحد في التعريض بالفاحشة وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن صفوان وأيوب عن عمر أنه حد في التعريض وذكر أبو عمر ان عثمان كان يحد في التعريض وذكره ابن أبي شيبة وكان عمر بن عبد العزيز يرى الحد في التعريض وهو قول أهل المدينة والاوزاعي وهو محض القياس كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكتابة واللفظ إنما وضع لدلالته على المعنى فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن في تغيير اللفظ كثير فائدة --[مهم جدا]
    قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها وهي ان الشارع انما قبل توبة الكافر الاصلي من كفره بالاسلام لانه ظاهر لم يعارضه ما هو أقوى منه فيجب العمل به لانه مقتض لحقن الدم والمعارض منتف فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والاسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولاظنية أما انتفاء القطع فظاهر وأما انتفاء الظن فلأن الظاهر انما يكون دليلا صحيحا إذا لم يثبت ان الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم ان الباطن بخلافه ولهذا اتفق الناس على انه لا يجوز للحاكم ان يحكم بخلاف علمه وان شهد عنده بذلك العدول وإنما يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها وكذلك لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل ان يقول لمن هو أسن منه وهذا ابني لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقا وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العدل والأمر والنهى والعموم والقياس إنما يجب إتباعها إذا لم يقم دليل أقوى منها يخالف ظاهرها
    وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه واستهانته بالدين وقدحه فيه فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الدليل الضعيف الذي قد أظهر بطلان دلالته ولا يخفى على المنصف قوة هذا النظر وصحة هذا المأخذ -

    وهذا مذهب أهل المدينة ومالك واصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من اصحابه بل هي أنص الروايات عنه وعن أبي حنيفة واحمد انه يستتاب وهو قول الشافعي وعن أبي يوسف روايتان إحداهما انه يستتاب وهي الرواية الاولى عنه ثم قال: آخرا أقتله من غير استتابه لكن إن تاب قبل ان يقدر عليه قبلت توبته وهذا هو الرواية الثالثة عن احمد
    ويالله العجب كيف يقاوم دليل إظهاره للاسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة وإظهاره كل وقت للاستهانة بالاسلام والقدح في الدين والطعن فيه في كل مجمع مع استهانته بحرمات الله واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الادلة ولا ينبغي لعالم قط ان يتوقف في قتل مثل هذا ولا تترك الادلة القطعية لظاهر قد تبين عدم دلالته وبطلانها ولا تسقط الحدود عن أرباب الجرائم بغير موجب
    نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الاقوال والاعمال ما يدل على حسن الاسلام وعلى التوبة النصوحة وتكرر ذلك منه لم يقتل كما قاله ابو يوسف واحمد في إحدى الروايات وهذا التفصيل أحسن الاقوال في المسألة
    ومما يدل على ان توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} قال: السلف في هذه الآية أو بأيدينا بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم وهو كما قالوا: لان العذاب على ما يبطنونه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل فلو قبلت توبتهم بعد ما ظهرت زنذقتهم لم يمكن المؤمنين ان يتربصوا بالزنادقة ان يصيبهم الله بأيديهم لانهم كلما أرادوا ان يعذبوهم على ذلك أظهروا الاسلام فلم يصابوا بأيديهم قط والادلة على ذلك كثيرة جدا-------------------------
    وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون نحن أسعد بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنعين علينا بخلافها وبالله التوفيق ----[ من-اعلام الموقعين عن رب العالمبن- بتصرف]



  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    المشاركات
    1,179

    افتراضي

    كلامه رحمه الله مستوفى في كتابه ( الطرق الحكمية )
    فاصل الكتاب جواب عن سؤال وجه اليه رحمه الله

    أَمَّا بَعْدُ: وَسَأَلْت عَنْ الْحَاكِمِ، أَوْ الْوَالِي يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ وَالْقَرَائِنِ الَّتِي يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا الْحَقُّ، وَالِاسْتِدْلَا لِ بِالْأَمَارَاتِ وَلَا يَقِفُ مَعَ مُجَرَّدِ ظَوَاهِرِ الْبَيِّنَاتِ وَالْإِقْرَارِ، ......


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الطيبوني مشاهدة المشاركة
    كلامه رحمه الله مستوفى في كتابه ( الطرق الحكمية )
    فاصل الكتاب جواب عن سؤال وجه اليه رحمه الله
    جزاك الله خيرا اخى الكريم الطيبونى على هذه الفائدة وهذا كلام بن القيم فى الطرق الحكمية لتتم وتكتمل الفائدة--أما بعد : وسألت عن الحاكم ، أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق ، والاستدلال بالأمارات ولا يقف مع مجرد ظواهر البينات والإقرار ، حتى إنه ربما يتهدد أحد الخصمين ، إذا ظهر منه أنه مبطل وربما ضربه ، وربما سأله عن أشياء تدله على صورة الحال .

    فهل ذلك صواب أم خطأ ؟ فهذه مسألة كبيرة عظيمة النفع ، جليلة القدر ، إن أهملها الحاكم أو الوالي أضاع حقا كثيرا ، وأقام باطلا كثيرا ، وإن توسع فيها وجعل معوله عليها ، دون الأوضاع الشرعية ، وقع في أنواع من الظلم والفساد وقد سئل أبو الوفاء ابن عقيل عن هذه المسألة ، فقال : ليس ذلك حكما بالفراسة ، بل هو حكم بالأمارات . وإذا تأملتم الشرع وجدتموه يجوز التعويل على ذلك ، وقد ذهب مالك رحمه الله إلى التوصل بالإقرار بما يراه الحاكم وذلك مستند إلى قوله تعالى : { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين } ولذا حكمنا بعقد الأزج ، وكثرة الخشب في [ ص: 4 ] الحائط ، ومعاقد القمط في الخص ، وما يخص المرأة والرجل في الدعاوى .

    وفي مسألة العطار والدباغ إذا اختصما في الجلد ، والنجار والخياط إذا تنازعا في المنشار والقدوم ، والطباخ والخباز إذا تنازعا في القدر ، ونحو ذلك ، فهل ذلك إلا الاعتماد على الأمارات ؟ وكذلك الحكم بالقافة والنظر في أمر الخنثى ; والأمارات الدالة على أحد حاليه . والنظر في أمارات جهة القبلة ، واللوث في القسامة . انتهى .

    فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ، ودلائل الحال ، ومعرفة شواهده ، وفي القرائن الحالية والمقالية ، كفقهه في جزئيات وكليات الأحكام : أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها . وحكم بما يعلم الناس بطلانه لا يشكون فيه ، اعتمادا منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله . فهاهنا نوعان من الفقه ، لا بد للحاكم منهما : فقه في أحكام الحوادث الكلية ، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس ، يميز به بين الصادق والكاذب ، والمحق والمبطل . ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع . ومن له ذوق في الشريعة ، واطلاع على كمالاتها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ، ومجيئها بغاية العدل ، الذي يسع الخلائق ، وأنه لا عدل فوق عدلها ، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح : تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها ، وفرع من فروعها ، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها وحسن فهمه فيها : لم يحتج معها إلى سياسة غيرها ألبتة .

    فإن السياسة نوعان : سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها ، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر ، فهي من الشريعة ، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها .

    ولا تنس في هذا الموضع قول سليمان نبي الله صلى الله عليه وسلم للمرأتين اللتين ادعتا الولد . فحكم به داود [ ص: 5 ] صلى الله عليه وسلم للكبرى فقال سليمان " ائتوني بالسكين أشقه بينكما " فسمحت الكبرى بذلك فقالت الصغرى : " لا تفعل يرحمك الله ، هو ابنها " فقضى به للصغرى ، فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة ، فاستدل برضا الكبرى بذلك ، وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها ، وبشفقة الصغرى عليه ، وامتناعها من الرضا بذلك : على أنها هي أمه ، وأن الحامل لها على الامتناع هو ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله تعالى في قلب الأم ، وقويت هذه القرينة عنده ، حتى قدمها على إقرارها ، فإنه حكم به لها مع قولها " هو ابنها " .

    وهذا هو الحق ، فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه أبدا .

    ولذلك ألغينا إقرار المريض مرض الموت بمال لوارثه لانعقاد سبب التهمة واعتمادا على قرينة الحال في قصده تخصيصه .

    ومن تراجم قضاة السنة والحديث على هذا الحديث ترجمة أبي عبد الرحمن النسائي في سننه " قال : " التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل كذا ; ليستبين به الحق " .

    ثم ترجم عليه ترجمة أخرى أحسن من هذه ، فقال : " الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه ، إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به " فهكذا يكون الفهم عن الله ورسوله .

    ثم ترجم عليه ترجمة أخرى فقال : " نقض الحاكم ما حكم به غيره ممن هو مثله ، أو أجل منه " فهذه ثلاث قواعد ورابعة : وهي ما نحن فيه وهي الحكم بالقرائن وشواهد الحال .

    وخامسة : وهي أنه لم يجعل الولد لهما ، كما يقوله أبو حنيفة ، فهذه خمس سنن في هذا الحديث .

    ومن ذلك : قول الشاهد الذي ذكر الله شهادته ، ولم ينكر عليه ، ولم يعبه بل حكاها مقررا لها ، فقال تعالى : { واستبقا الباب ، وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ، إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي ، وشهد شاهد من أهلها ، إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من [ ص: 6 ] دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب .

    وهذا لوث في أحد المتنازعين ، يبين به أولاهما بالحق .

    وقد ذكر الله سبحانه اللوث في دعوى المال في قصة شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر ، وأمر بالحكم بموجبه .

    { وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بموجب اللوث في القسامة ، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ، ويستحقون دم القتيل } ، فهذا لوث في الدماء ، والذي في سورة المائدة لوث في الأموال ، والذي في سورة يوسف لوث في الدعوى في العرض ونحوه .

    وهذا حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه رضي الله عنهم برجم المرأة التي ظهر بها الحبل ، ولا زوج لها ولا سيد .

    وذهب إليه مالك وأحمد - في أصح روايتيه - اعتمادا على القرينة الظاهرة .

    وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف - بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل ، أو قيئه خمرا ، اعتمادا على القرينة الظاهرة .

    ولم تزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم ، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار ، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ، ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة ، وهل يشك أحد رأى قتيلا يتشحط في دمه ، وآخر قائما على رأسه بالسكين : أنه قتله ؟ ولا سيما إذا عرف بعداوته ، ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يمينا أن ذلك الرجل قتله ، ثم قال مالك وأحمد : يقتل به .

    وقال الشافعي : يقضى عليه بديته وكذلك إذا رأينا رجلا مكشوف الرأس - وليس ذلك عادته - وآخر هاربا قدامه بيده [ ص: 7 ] عمامة ، وعلى رأسه عمامة : حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعا ، ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا وجزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف .

    وهل القضاء بالنكول إلا رجوع إلى مجرد القرينة الظاهرة ، التي علمنا بها ظاهرا أنه لولا صدق المدعي لدفع المدعى عليه دعواه باليمين ؟ فلما نكل عنها كان نكوله قرينة ظاهرة ، دالة على صدق المدعي ، فقدمت على أصل براءة الذمة .

    وكثير من القرائن والأمارات أقوى من النكول ، والحس شاهد بذلك ، فكيف يسوغ تعطيل شهادتها ؟ ومن ذلك : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه ، وادعى نفاده فقال له : العهد قريب ، والمال أكبر من ذلك } .

    فهاتان قرينتان في غاية القوة : كثرة المال ، وقصر المدة التي ينفق كله فيها .

    وشرح ذلك : { أنه صلى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بني النضير من المدينة ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم ، غير الحلقة والسلاح ، وكان لابن أبي الحقيق مال عظيم - بلغ مسك ثور من ذهب وحلي - فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر - وكان بعضها عنوة وبعضها صلحا - ففتح أحد جانبيها صلحا . وتحصن أهل الجانب الآخر . فحصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما ، فسألوه الصلح ، وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل فأكلمك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة . وترك الذرية لهم ، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض ، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة ، إلا ثوبا على ظهر إنسان . فقال رسول ، الله صلى الله عليه وسلم : وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا فصالحوه على ذلك } .

    قال حماد بن سلمة : أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم ، فغلب على الزرع والأرض والنخل ، فصالحوه على أن يجلوا منها ، ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ، واشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر ، حين أجليت النضير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ قال : أذهبته النفقات والحروب ، قال العهد قريب ، والمال أكثر [ ص: 8 ] من ذلك فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير ، فمسه بعذاب ، وقد كان قبل ذلك دخل خربة ، فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا . فذهبوا فطافوا ، فوجدوا المسك في الخربة . فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق - وأحدهما زوج صفية - بالنكث الذي نكثوا } .

    ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة وعقوبة أهل التهم ، وجواز الصلح على الشرط ، وانتقاض العهد إذا خالفوا ما شرط عليهم وفيه من الحكم : إخزاء الله لأعدائه بأيديهم وسعيهم ، وإلا فهو سبحانه قادر على أن يطلع رسوله على الكنز فيأخذه عنوة .

    ولكن كان في أخذه على هذه الحال من الحكم والفوائد ، وإخزاء الكفرة أنفسهم بأيديهم ما فيه ، والله أعلم .

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •