تخرج حروف (الجيم ، والشين، ، والياء غير المدية) من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك، ويقال: إن الجيم قبل الشين . وقال المهدوي: إن الشين تلي الكاف، والجيم والياء يليان الشين، وهذه هي الحروف الشجرية.[1]
وكلام المهدوي هاهنا دقيق ، وعلى درجة عالية من الأهمية ، وكون الجيم تقع بعد الشين عند المهدوي فإن هذا بلا شك يؤكد أن إحساس الشيخ عند نطقه بالجيم القرآنية الخالصة قاده إلى أنها أقرب إلى حروف الطرف منها إلى حروف أقصى اللسان ، وهذا يعني استحالة أن تكون الجيم التي وصفها المهدوي هي الجيم القاهرية .
وقد يقال : إن المهدوي هاهنا فرد واحد لا يؤبه له ، ولذلك فإننا ننبه القارئ أن المهدوي لم يكن وحده في هذا المضمار فمكي بن أبي طالب القيسي ( ت: 471هـ) قدم في الرعاية الشين على الجيم . [2]
وإذا أضفنا إلى ذلك الملاحظة الذاكية التي ذكرها عبد الصبور شاهين بقوله :" ليس من الممكن بالتجربة نطق صوت من وسط الفم من مخرج الشين والياء وهو (مجهور شديد ) ؛ نظرا لعدم تحكّم اللسان في هذه المنطقة من الفم في الهواء المحتبس تحكما كاملا شبيها بما يحدث في الكاف أو القاف ( من أصوات أقصى الفم ) ، أو بما يحدث في التاء أو الباء ( من أصوات مقدم الفم ) مثلا .
فإذا أراد الناطق إحداث هذا الصوت الانفجاري في هذه المنطقة الوسطى ، لحقت شدة الصوت أثارة من رخاوة ، هي التي جعلت الجيم الفصحى توصف بأنها معطشة أو مركبة مزدوجة الصفة " . [3]
وإذا رجعنا إلى شرح الهداية للمهدوي وجدنا الشيخ يتحدث عن إدغام الدال في الجيم معللا ذلك بأن الدال أقرب إلى الجيم من الذال ، وأن الإدغام فيها أقوى . [4]
فإن هذا كله يؤكد لنا صحة الجيم القرآنية العربية الفصيحة المركبة التي ينطق بها القراء اليوم والتي تنطق كما لو كانت (dj) .
وقد ذهب الدكتور جبل في كتابه المختصر أن هذه الجيم المعطشة التي تخرج من مقدم وسط اللسان هي الفصيحة ، وقد أكد ذلك بأن سيبويه قد عدّ الجيم التي كالكاف ( الجيم القاهرية) ، والجيم التي كالشين ( الجيم الشامية ) من الحروف غير المستحسنة .. [5]
والغريب أن الدكتور جبل عاد بعد ذلك ورأى في كتابه تحقيقات في التلقي والأداء أن الجيم العربية الفصحى هي الجيم القاهرية التي تنطق كما لو كانت كافا مجهورة ( g )!! وذهب إلى أكثر من ذلك فرفض القول بأن الجيم الفصيحة هي الجيم المعطشة التي تنطق كما لو كانت (dj) ؛ إذ لو كانت كذلك لأدغمت الدال في الجيم في نحو : (قد جاءكم ) والأمر ليس كذلك حسب رأيه !! [6]
وواضح من ذلك أن فضيلة الدكتور جبل تراجع عن قوله الأولى وتبنى ما كان قد ذهب إليه بروكلمان من أن الجيم العربية التي تنطق ( g ) والتي تحتفظ بالنطق العربي القديم مازال لها وجود على ألسنة المصريين ، وأن هذا الصوت القديم تطور إلى الجيم المركبة .[7]
فكأن الشيخ رأى أن المركبة المعطشة التي كان يدعو إليها في ضوء ذلك أضحت فرعا عن أصل ، وأن الأصل الذي ينطقه المصريون يتوافق مع ترتيب سيبويه ،ولهذا تراجع عن قوله الأول . وعملية التحقيق والمراجعة التي قام بها الدكتور جبل لنا عليها ملاحظة جوهرية :مؤداها ما سبق وقرره ابن خروف من أن سيبويه لم يكن يقصد ترتيبا فيما كان من مخرج واحد .
و هذا يعني أن مكي والمهدوي لم يخالفا سيبويه ، وأن أداء القراء اليوم للجيم المعطشة هو تحرير دقيق لنطق الحرف كما قرره عبد الصبور شاهين ، وأن مزعمة بروكلمان بأن الجيم القاهرية هي الأصل والمعطشة فرع ليست بشيء فالرجل أقام تصوره على مجموعة من النقوش القديمة التي لا تبين بأي حال طريقة النطق سوى من خلال التخيّل والتصوّر ، والأقرب للمنطق أن المعطشة المركبة هي الأصل وأن القاهرية هي الفرع .فالتطور لا يتصوّر بعيدا عن التيسير والبعد عن التركيب . ونظرية السهولة التي تنادي بأن الإنسان في نطقه لأصوات لغته يميل إلى الاقتصاد في المجهود العضلي تدعم ما نذهب إليه .[8]
أما رفض الدكتور جبل القول بأن الجيم الفصيحة تنطق كما لو كانت (dj) ؛ إذ لو كانت كذلك لأدغمت الدال في الجيم في نحو : (قد جاءكم ) . فرفض غير دقيق ويكفي للرد على فضيلته أن نذكّر القارئ الرشيد بأن إدغام الدال في الجيم من ( قد جاءكم ) قرأ به : أبو عمرو ، وهشام ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف.[9]
ولا ننسى في نهاية هذا المبحث أن نذكر القارئ أن ملا علي القاري قد نص في المنح الفكرية أن أهل مصر والشام يخرجون الجيم من دون مخرجها .[10] وهذا يعني أن قراءة القرآن بالجيم القاهرية ( g ) أو الجيم الشامية ( j ) خطأ قرائي يحتاج إلى تثقيف.


[1] - النشر في القراءات العشر (مرجع السابق) : ج 1 / ص 226

[2] - الرعاية ( مرجع سابق ) :ص139

[3] - في التطور اللغوي : عبد الصبور شاهين ( بيروت : مؤسسة الرسالة 1985) ص88

[4] - شرح الهداية : لأبي العباس أحمد بن عمار المهدوي ، تحقيق :حازم سعيد حيدر ( الرياض : مكتبة الرشد : 1415) ج1/ص83

[5] - المختصر في أصوات اللغة العربية ( مرجع سابق) : ص102

[6] - تحقيقات في التلقي والأداء ( مرجع سابق ) : ص115، 128

[7] - فقه اللغات السامية ( مرجع سابق) : ص48

[8] - يطالع عوامل تطور الأصوات اللغوية في كتاب الأصوات اللغوية للدكتور إيراهيم أنيس :ص188

[9] - إتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربعة عشر: ( مرجع سابق ) ص 251

[10] - المنح الفكرية ( مرجع سابق ) :ص27