الحمد لله الملك الحق المبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الفاعل لكل مبتدأ ومبتدع ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم ! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم ما رفعت منصب المنخفض لجلالك وجبرت بالسكون إليك كسر الجازم بوحدتك : في ذاتك ، وصفاتك ، وأفعالك .
اللهم ! إنّا نعوذ بك من فتنة القول ، ونعوذ بك من فتنة العمل ، ونعوذ بك من الرأي وغلطته ، ومن الظن وخبطته ، ومن الطبع وسَوْرَته . اللهم ! جنبنا معاندة الحق ، و مجانبة الصدق ، وشراسة الخُلُق ، والعُجْب بالعلم ، و البَهَت بالجهل ، والاستعانة باللجاج ،والإخلاد إلى العاجلة ، والخفوق مع كل ريح ، واتباع كل ناعق.
" تنبيه سبق ان نشرنا في مجلس العقيدة مقالا بعنوان أضواء جديدة في الدس على الشعراني وهو مكمل لهذا الموضوع "

المطلب الأول – التعريف بالطبقات الوسطى :
انتهى الشيخ الشعراني من الطبقات الكبرى سنة957ه وانتهى من كتابة الطبقات الصغرى سنة 961ه وأطلق على الاثنين معا اسم لواقح الأنوار القدسية في طبقات العلماء والصوفية وانتهى من الطبقات الوسطى سنة 968ه. فما الفرق بين الكتب الثلاثة ؟
أولا – الطبقات الكبرى والصغرى في الحقيقة هما كتاب واحد ، بدأه بالصحابة والتابعين وطبقات الصالحين على مر القرون حتى وصل إلى القرن العاشر وتمثل الصغرى فيه نهايته وذيله ولذلك لم يضع لها الشعراني عنوانا أو مقدمة لأنه جزء متمم للطبقات الكبرى ، والعناوين التي وضعت لهذه الخاتمة من وضع النساخ لذلك تارة يسمونها الصغرى وتارة أخرى يسمونها ذيل الطبقات،والشعرا ني لم يضع لها مقدمة لأنها من وجهة نظرة ليست كتابا مستقلا .. وقد خصها الشعراني بمن رآهم من علماء عصره من مشايخه وأقرانه ممن لهم كلام في الطريق أو حال ينهض همة الطالب .أما علماء العلوم الشرعية الذين لم يكن لهم كلام في الطريق فقد أخرجهم من الطبقات وصنع لهم كتاب آخر سماه المفاخر والمآثر في علماء القرن العاشر .
ومن هنا يعلم أن الشيخ كان ينظر إلى طبقات الصوفية الكبرى والصغرى على أنهما كتاب واحد ولذلك ختم الطبقات الصغرى بقوله وليكن ذلك آخر كتابنا المسمى بلواقح الأنوار القدسية في مناقب العلماء والصوفية ( الطبقات الصغرى 138)
ثانيا – الطبقات الوسطى :
من الواضح أن الشيخ ختمها سنة 968وقال في اللوح الأول منها إنه ختمها برجال سنة 968 ه من القرن العاشر أي أنه أضاف إليها رجال لم يضفهم في الكبرى والصغرى . وهذا مستغرب لأن الشيخ لم يرتب طبقاته ترتيبا زمنيا ، كما أنه لم يرتبها حسب الوفيات لأنه ذكر في الصغرى أقرانه وهم على قيد الحياة . وبشيء من التسمح ندرك أن الشيخ أراد أن يضيف شخصيات جديدة فاتته في الكبرى والصغرى هذه واحدة .
نحن ندرك أن كتاب حلية الأولياء كان يختم في زاوية الشعراني بصفة دورية كما أخبرنا بذلك في كتابه لطائف المنن ، كما أن كتاب لواقح الأنوار القدسية بعد انتهاء الشيخ منه صار معدا ليدرس في زاويته، والشيخ نص على أن حساده وأعداءه الذين ذكرهم في الطبقات كانت سيرهم تقرأ في الزاوية جنبا إلى جنب مع سير أولياء الله الصالحين الموجودين ، وهذا يعني أن كتاب الطبقات قد صار مادة دراسية داخل الزاوية . وهذا ما دفع الشعراني إلى محاولة اختصار الطبقات الكبرى في نسخة مدرسية فكانت فكرة الطبقات الوسطى,
فسمة الاختصار هي الصفة المميزة للطبقات الوسطى ، صحيح أنك من الممكن أن تجد الشعراني شذ على هذه القاعدة الأساسية في عدد محدود جدا من تراجم الطبقات الوسطى، لكننا في النهاية أمام نسخة مختصرة لكتاب لواقح الأنوار القدسية في طبقات العلماء والصوفية ، و قد يفهم القارئ من قولنا إن الوسطى كانت نسخة مختصرة من الكبرى أنه لا توجد إضافات في الوسطى وهذا ليس صحيحا لوجود إضافات لا تغير من طبيعة الاختصار ومن ذلك أنه ذكر عند ترجمة الشيخ رسلان الدمشقي في الوسطى قصة لم يذكرها في الكبرى وهي :" وكان يقول: لا تأكل النار لحما دخل زاويتي ووقع أن رجلا أدركته الصلاة ومعه لحم نيء فدخل به الزاوية ثم أوقد عليه النار إلى أن عجز ولم ينضج وظهر بذلك صدق مقالة الشيخ " . الطبقات الوسطى لوح 180 والقصة في شذرات الذهب جزء 5 صفحة 448 وليست في الكبرى .
كما أنك تتعجب من الكبرى حين تطالع ترجمة الشيخ محمد المنوفي حيث تجد ترجمة مقتضبة لشيخ كبير من كبار رجالات التصوف وعلى الرغم من أن الشعراني كان ينقل من كتاب مناقب المنوفي والمادة العلمية متاحة أمامه إلا أنه كتب عن الرجل باقتضاب يثير التساؤل ؟! ثم فوجئنا به في الوسطى يعيد الأمر إلى نصابه ويبسط للشيخ ترجمة واسعة فضفاضة .
أما بالنسبة لزيادات الوسطى في التراجم فهذا كان مقصدا من مقاصدها فقد حاول الشيخ أن يعيد الأمر إلى نصابه فذكر من فاته ذكرهم وسقطوا منه سهوا ومن ذلك أنك حين تتأمله في الكبرى وهو يذكر تلامذة أبي الفتح الواسطي في حيز واحد تقريبا ثم تراه يسقط الشيخ عبد الله البلتاجي ويذكر من هم أقل منه شهرة ؟! فتتساءل أين ذهب البلتاجي ؟ ولماذا أسقطه ؟! فإذ به يفرد له ترجمة في الطبقات الوسطى .. وإذا تساءلنا أين شيخ الإسلام ابن دقيق العيد ولماذا لم يذكره في الصغرى ؟! فإنك تجد أنه ذكره في الوسطى في ترجمة مقتضبة .. كذلك من الأمور اللافتة للنظر أنه بدأ الوسطى بترجمة للرسول صلى الله عليه وسلم ؟!
وهذا كله يجعلك تدرك أن الوسطى على الرغم من كونها نسخة مختصرة إلا انها اشتملت على استدراكات كثيرة للشيخ . واحتوت على إضافات ليست قليلة .
المطلب الثاني – حجية الطبقات الوسطى على التحريف والتخريف :
الطبقات الوسطى ليست حجة على الطبقات الكبرى . وخلوها من بعض القصص الذي هو أقرب للوهم لا يعني أن ذلك دليل على أن هذه القصة أو تلك العبارة مدسوسة على الكبرى ؛ ذلك أن الوسطى قائمة أساسا على الاختصار والحذف فإذا حذفت قصة أو خبرا أو أثرا فإن هذا لا يعني أنه مدسوس على الكبرى ..
الأمر الآخر – أن العبارات والحكايات الواردة في الوسطى من جنس العبارات والحكايات الواردة في الكبرى ، فترجمة السيد البدوي هي هي بكل تفاصيلها فالموجود في الكبرى هو عينه الموجود في الوسطى ، وسوف ننقل للقارئ ترجمة عبد الله البلتاجي من الوسطى وهي ليست في الكبرى وسوف نرى فيها قصة بعثه بعد موته ليبحث عن حمارة ضاعت من أحد زواره ؟! وقصة التاجر الذي خطب ابنته فصار شيخا للإسلام لمدة ثلاث سنوات !! وإليكم هذه الترجمة ..
ومنهم سيدي عبد الله البلتاجي[1] رضي الله عنه
هو من أجل مشايخ سيدي عبد العزيز الدريني ، وكان إماما في العلوم النقلية والكشفية ، صاحب التصريف الكبير والأنفاس الطاهرة ، وله كرامات كثيرة جمعت في مجلد ضخم ، وكان سيدي عبد السلام القليبي يهدي له كل سنة حمل حمارته بصلا ، فيحملها له من فاكهة الشام وليس ببلاده حينئذ فواكه ، وزاره سيدي يوسف العجمي مرة فضاعت حمارة الشيخ يوسف فقال له وهو في القبر يا عبد السوء أعد لي حمارتي وإلا لم أعد أزورك ، فطلع فطلع الشيخ عبد الله من القبر وأتاه بالحمارة من البرية وقد جعل بردعتها على رأسه ، وقال يا يوسف إذا جئت لزيارتنا مرة أخرى فقيد حمارتك بقيد حديد وهو مبتسم .
وكان يقول لايبلغ الرجل عندنا مراتب الكمال إلا إن علم شرائع الأنبياء ثم يستخرجها كلها من القرآن العظيم ، وكان يقول كل فقير لا يؤثر إخوانه على نفسه في جميع الأغراض فروا منه بقلوبهم . وكان يقول من لم ينظر في أخلاق السلف الصالح وما كانوا عليه شقي ولا ينفعه عمله . وكان يقول كل فقير كان له فراش للنوم فهو والبهايم سواء ، وكان يقول من أكل من أطعمة الناس اسود قلبه ولا تفي أعماله بجلائه ،فالصادق من أكل من عمل يده والسلام .
وكان له ابنه فقالت أمها لا أزوج بنتي إلا لشيخ الإسلام فقال لها الشيخ قد خطبها مني فلان التاجر وأنا أستحي أن أزوجها لغيره فقالت لابد من تزويجها لشيخ الإسلام فاستبعد الناس ذلك ، وبلغ الخبر السلطان أن صهر الشيخ من العلماء الكبار فأرسل إليه وولاه شيخ الإسلام بمصر ، وقال له الشيخ كل سؤال جاءك فانظر تجد الجواب مكتوب في الحائط أمامك فلم يزل شيخ الإسلام إلى أن مات بعد ثلاث سنين . وكرماته مشهورة كثيرة في بلاد الغربية وغيرها رضي الله تعالى عنه . أ. ه ـ
ولسنا هاهنا في معرض الهجوم والانتقاص من الشيخ لأن الشيخ كان يرى أن قبول هذه الروايات من علامات صدق الإيمان بالله عز وجل ، فكأنه إن ردها يكون مستصغرا قدرة الله وناكرا فضل الله على عباده فطالما أن الله قادر ، وهذه الكرامة في قدرة الله عز وجل فإن إيمانه بالله وبصفاته يجعله من الموقنين بوقوعها . هذا منهج الشيخ بدون فلسفة .. وقد ذكر الشيخ في الطبقات من عبارات الصالحين ما تحمل هذا المعنى ومنها قول مطرف بن الشخير من كذب صاحب كرامة فهو أكذب [2] فإذا رأيت أنت أن هذه الروايات هي خرافات وتخريفات فإن من منهج الشيخ الذي ذكرناه في مبحث الدس المنشور على هذا الموقع أن يأخذك من رجلك ويطردك خارج الزاوية .
والنتيجة العلمية التي يصل إليها الباحث المنصف بعيدا عن الدخول في المناقشات الجانبية أن الطبقات الوسطى للشعراني ليست حجة على الطبقات الكبرى إلا إذا كان الشعراني قد ذكر أمرا في الكبرى وذكر خلافه في الوسطى وهذا لم نقف عليه . ومسألة أن هذه الروايات التي ذكرها الشعراني لا تتلاءم مع قناعاته السنية ودعوته لنبذ البدعة والاعتصام بالسنة وعقليته الفقهية ليست بشيء لأن كل هذه الأمور قابلة للنقاش في الفكر الصوفي فما تراه أنه بدعة قد يراه أنه مما ندبت إليه الشريعة وما تراه تخريفا قد يراه هو تجليات ملكوتية تدرك بالذوق وما تراهأنت أنه أحوال شيطانية يراه هو أحوال ربانية ومقامات علوية !! وهكذا لن تصل لشيء وليس من وكدنا أن نحقق في هذا الأمر_ على الرغم من أهميته _ لأنه ليس مناطا لعنوان هذا البحث .



[1] - ترجمته في رسالة صفي الدين بن أبي منصور ص75 باسم أبي محمد البلتاجي وذكره ضمن كبار تلامذة أبي الفتح الواسطي . وكذا ذكره ابن الملقن في طبقات الأولياء طبقات الأولياء صفحة 486 وترجمته في الكواكب الدرية للمناوي 2/431وذكر أنه من تلامذة أحمد الرفاعي وأن أصله أعجمي وقد ذكره عبد الغفار القوصي في كتابه الوحيد ج1/ص201وفي طبقات الشافعية ما يؤكد أنه كان من أصحاب عز الدين بن عبد السلام وأنه كان مشهورا بالولاية نجد ذلك في تلك القصة :" كان في الريف شخص يقال له عبد الله البلتاجي من أولياء الله تعالى وكانت بينه وبين الشيخ عز الدين صداقة وكان يهدي له في كل عام فأرسل إليه مرة حمل جمل هدية ومن جملته وعاء فيه جبن فلما وصل الرسول إلى باب القاهرة انكسر ذلك الوعاء وتبدد ما فيه فتألم الرسول لذلك فرآه شخص ذمي فقال له لم تتألم عندي ما هو خير منه قال الرسول فاشتريت منه بدله وجئت فما كان إلا بقدر أن وصلت إلى باب الشيخ ولم يعلم بي ولا بما جرى لي غير الله تعالى وإذا بشخص نزل من عند الشيخ وقال اصعد بما جئت فناولته شيئا فشيئا إلى أن سلمته ذلك الجبن فطلع ثم نزل فقلت أعطيته للشيخ فقال أخذ الجميع إلا الجبن ووعاءه فإنه قال لي ضعه على الباب فلما طلعت أنا قال لي يا ولدي ليش تفعل هذا إن المرأة التي حلبت لبن هذا الجبن كانت يدها متنجسة بالخنزير ورده وقال سلم على أخي ." طبقات الشافعية الكبرى جزء 8 صفحة 213

[2] - أصل هذا أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة قال كان مطرف بن عبد الله بن الشخير وصاحب له سريا في ليلة مظلمة فإذا طرف سوط أحدهما عنده ضوء فقال لصاحبه أما إنا لو حدثنا الناس بهذا كذبونا فقال مطرف المكذب أكذب يقول المكذب بنعمة الله أكذب . الجامع جزء 11 صفحة 281/ رقم 20543