المدخل اللغوي ( الألسني) لمحو الدين من القواعد
اللسانيات هي الحل
ما معنى اللسانيات ؟ وكيف تكون حلا لغلاة تجديد الدين لمحو الدين نفسه ؟! اللسانيات تشير إلى علم دراسة اللغات التي يتفاهم بها البشر ويتواصلون من خلالها .وهذا يعني عند هذا الفريق أننا سوف نبحر في اتجاه اللغة لفهم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، والتراث الإسلامي ؛باعتبار هذه النصوص مادة لغوية في نهاية المطاف ، وحتى لا يكون الأمر عبارة عن دراسة مطلقة للغة هذه النصوص فإننا سوف نسترشد بمناهج علم اللغة الحديث حتى تكون دراستنا علمية ، وحتى تتسم بطابع العلم .
ومزية هذه الدراسة عند هؤلاء القوم تتمثل في ثلاث نقاط أساسية :

1- أنها تسقط الرقابة الشرعية المنوطة بالنصوص الشرعية بمعنى أنها سوف تجعلنا نتعامل مع النصوص بمعزل عن رقابة الفقهاء والمفسرين والأصولين ...

2- أنها تمكننا من محو القداسة عن هذه النصوص لأننا سوف نستعمل مناهج لغوية غربية والمناهج اللغوية لا تقدس منشئ النص موضوع الدراسة بل إن بعضها أعلن ما يطلقون عليه وفاة المؤلف فكل نص قابل للدراسة هو قابل في الآن نفسه للنقد والنقض . وإذا كان محمد عابد الجابري قام بنقد الأنساق الفقهية والمنظومات التراثية أي نقد الثقافة العربية الإسلامية فإن الجزائري محمد أركون تجاوز إلى أبعد من ذلك إلى العقل التأسيسي كما يسميه إلى موضوع الوحي والقرآن. ولم يكن نصر أبو زيد منه ببعيد .

3- أنها تؤدي في نهاية المطاف إلى الوصول إلى الهدف المنشود وهو تكوين مكنز علمي من نتائج بحثية يؤدي توظيفها براجماتيا ( من الناحية النفعية) إلى تعطيل سلطة هذه النصوص على الفكر والوجدان والتشريع والأخلاق وتفريغها من مضمونها ، ولا مانع من تأويلها تأويلا عبثيا فالمناهج التأويلية تسمح بهذا العبث والتراث التأويلي العربي نفسه ( بل أخجل أن أقول بعض التفاسير القديمة ) والشطح الصوفي يوفر غطاء دراسيا آمنا في هذا الاتجاه .

إن علم اللسانيات والنقد الأدبي عند أركون منحه القدرة على التمييز بين المعنى الحرفي الملاصق لخطاب ما وبين آثار المعنى المتولدة عن قراءته لدى القراء فقد يفهم القراء إيحاءات وأشياء من النص لم يكن يقصدها المؤلف ولم يفكر بها فالقراءة تخلق النص أيضا ويمكننا أن نطبق منهجيتها أيضا على النصوص الدينية التي تقرأ في كل الأوساط الاجتماعية والثقافية .[1]

وعلى الرغم من هذا الاندفاع نحو فكرة ألسنة النص ( القرآن والسنة والتراث ) والإلحاح حول تملكه وإلغاء كافة التفسيرات القديمة والسماح بابتكار تأويلات جديدة إلا أن القارئ العادي يدرك أن النصوص التي تسمح للقارئ بقراءتها قراءة تفكيكية مغايرة للمعنى الأصلي مبتعدة عنه هي تلك النصوص المكتظة بالرموز والألغاز والمبهمات ـ والمنهج التفكيكي في قراءة النصوص كان رد فعل طبيعي لمحاولة فهم نصوص أدبية مشفرة غير مفهومة كتبت بطريقة رمزية معقدة حين تقرؤها لا تجد لها معنى . فحين يطالبوننا بتطبيق هذا المنهج على قصائد أدونيس مثلا نقول لهم هذا ممكن . أما إذا ذهبوا إلى القرآن الكريم البين الواضح المحكم وقالوا لنا دعونا نقرؤه قراءة ثانية وثالثة ورابعة نقرؤه تحت درجة الصفر وفي وهج الشمس ونستنبط منه ما نشاء فهذه ملعبة حقيرة .

وما من ريب في أن هذه الإجراءات وحدها لا تكفي لإلجام النصوص الدينية الواضحة الجلية وهذا أمر قد أدركه قديما الشيخ محمد عبده حين رفض عددا من الأحاديث والآثار الصحيحة في باب علامات الساعة ونبش يومها في التراث ليستخرج منه مسألة حجية أحاديث الآحاد وهذه التقنية من الواضح أنها لم تعد كافية لتعطيل أكبر قدر ممكن من النصوص؛ لذلك لجأ حواة التجديد البدعي إلى تقنية جديدة.

وهي تقنية التشكيك في صحة نسبة الأحاديث النبوية إلى النبي والقدح في نزاهة المحدثين فهذه التقنية من التقنيات المحببة لدى حواة التجديد ولمحمد أركون باع غير قصير في نشر هذه الأفكار .وقد تجاوز ذلك إلى التشكيك في صدق الصحابة بقوله : " نحن نجد أن جيل الصحابة هو وحده الذي رأى وسمع وشهد الظروف الأولى والكلمات التي نقلت فيما بعد على هيئة القرآن أو الحديث أو السيرة ..إنه من الصعب التأكيد على أن كل سامع قد سمع بالفعل ورأى الشيء الذي نقله ..[2]

وإذا كان علم الحديث قد تكفل بالإجابة عن أطروحة أركون السابقة فلم يبق إذا أمام القوم سوى تقنية تاريخية النص .

وقاموا لأجل ذلك باستيراد منهج النقد التاريخي . الذي يخبرنا قبل كل شيء أننا أمام نصوص تاريخية لأمة قد خلت. وهاهنا يظهر السياق المغضوب عليه والمستبعد في منهج النظر اللغوي البنائي . والتفكيكي ولكنه حين يعود يعود لا ليفسر النص ويبين دلالته وإنما ليعطل النص فهذا النص نتاج لسياق اجتماعي أو سياسي معين في بيئة معينة وفي زمن معين . وليس ملزما لنا ولا مانع من أن يدندن الجميع حول هذه المسألة مسألة تاريخية النص.

وتاريخية النص تؤكد عند أركون أنه تم التلاعب بالقرآن لأن تحويل المنطوق إلى مكتوب كما حدث في الملابسات المحيطة بتدوين القرآن عملية معقدة وأن المكتوب تم التلاعب به والانتقاء منه وأنه ثمة نسخ من المصاحف القديمة قد أحرقت. فعلمية الجمع تمت في ظروف قاسية من الصراع السياسي على السلطة [3].ويخلص أركون إلى أن القرآن الأول الشفاهي المقدس ضاع إلى الأبد وأن القرآن الثاني الذي جمع بعد ذلك وتم التلاعب به وهو الموجود بين أيدينا اليوم . [4]

وهذا من الدهاء الممنهج فالرجل قبل أن يستبعد القرآن تاريخيا شكك فيه وفي الصحابة ولست في معرض الرد على هذه المهاترات في هذا المقام فالقرآن كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركه النبي لغيره ليكتبه. [5] والذي جمعه الصحابة هو المكتوب بين يدي النبوة. وهذا المكتوب تمت مراجعته على المحفوظ في الصدور .

وخلاصة القول وصفوته عند هذا القطيع أنهم لا يريدون تجديد الدين وإنما استبعاد الدين من الحياة بأي وسيلة من الوسائل وقد حاولت هذه المدرسة في نهاية المطاف أن تتوافق مع متطلبات الرأسمالية العالمية فرأت أنه على تجديد الدين أن يدخل تحت هيمنة الشركات العابرة للقوميات وهذه الشركات الكبرى مصلحتها في أن يعيش الإنسان منفردا بلا ضوابط وبلا مرجعيات وبلا حلال وحرام إنها هي وحدها التي تشرع له ما يحتاج إليه ، وهي وحدها التي تعيد بناء نفسيته وعقليته عبر أذرعها الإعلامية المترامية الأطراف ، وفي هذه الأثناء تكون وظيفة تجديد الدين إيجاد دين لا يلتقي عليه أحد ولا يجتمع تحت مظلته أحد إنه دين ذاتي فردي تتعدد صوره بتعدد الأفراد والأجيال إنه أشبه بالخواطر والرؤى الذاتية التي تخص كل فرد بعينه ، وهذا ما حاول أركون ومن شاكله أن يجرنا إليه بأدوات لغوية أو(ألسنية )كما يسمونها في الجزائر وبلاد المغرب العربي .. ) فهل استوعبنا الدرس ؟!