قال العلامة بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه: (لا جديد في أحكام الصلاة):
((1 - منها إحداث هيئة في المصافة للصلاة:في «تسوية الصف» ثلاث سنن:
1 - استقامة الصف, وإِقامته, وتعديله, بحيث لا يتقدَّم صدر أَحد ولا شيء منه على من هو بجنبه, فلا يكون فيه عِوَج.
ومن ألفاظ التسوية للصف:
«استووا» , «اعتدلوا» , «أَقيموا الصف». . .
وتُضبط استقامة الصف بالأَمر بالمحاذاة بين الأَعناق والمناكب, والركب, والأَكعب.
وظاهرٌ من هديه - صلى الله عليه وسلم - تناوب هذه الأَلفاظ.
2 - سَدُّ الخَلَلِ, بحيث لا يكون فيه فُرَج.
ولهذا من الأَلفاظ: «سُدُّوا الخلل» , «لا تذروا فرجات للشيطان». . .
وضبط هذه السنة بالتراص: «تراصُّوا». . .
3 - وصل الصف الأَول فالأَول وإِتمامه.
وله من الأَلفاظ: «أَتموا الصف الأَول فالأَول» , «من وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله». . .
وبين ذلك سُنَنٌ - وهي من السنن المهجورة -: مثل الدعاء والاستغفار للصف المتقدِّم ثلاثاً, ثم من يليه مرتين.وإِتيان الإِمام إِلى ناحية الصف لتسويته, وإِرسال الرجال لتسوية الصفوف إِلى غير ذلك من الهدي النبوي في سبيل تحقيق هذه السنن الثلاث للصف. استقامته, وَسَدِّ خَلَلِه, وإِتمام الأَول فالأَول.
وكل هذا يدل على ما لتسوية الصفوف من شأْن عظيم في إِقامة الصلاة, وحُسْنِها, وتمامها, وكمالها, وفي ذلك من الفضل والأَجر, وائتلاف القلوب واجتماعها, ما شهدت به النصوص. وقد تميزت هذه الأُمة المرحومة, وخُصَّت بأَن صفوفها للصلاة كصفوف الملائكة, فالحمد لله رب العالمين.
ومن الهيآت المضافة مُجَدَّداً إِلى المصَافَّة بِلاَ مُسْتَنَد: ما نراه من بعض المصلين: من ملاحقته مَنْ عَلَى يمينه إِن كان في يمين الصف, ومن على يساره إِن كان في ميسرة الصف, وَلَيِّ العقبين لِيُلْصِقَ كعبيه بكعبي جاره.
وهذه هيئة زائدة على الوارد, فيها إِيغال في تطبيق السُّنَّةِ. وهي هيئة منقوضة بأَمرين: الأَول: أَن المصافة هي مما يلي الإِمام, فمن كان على يمين الصف, فَلْيُصافَّ على يساره مما يلي الإِمام, وهكذا يتراصون ذات اليسار واحداً بعد واحد على سمت واحد في: تقويم الصف, وسد الفُرج, والتراص والمحاذاة بالعنق, والمنكب, والكعب, وإِتمام الصف الأَول فالأَول.أَما أَن يلاحق بقدمه اليمنى - وهو في يمين الصف - من عَلَى يمينه, وَيَلْفِت قَدَمَهُ حتى يتم الإِلزاق؛ فهذا غلط بَيِّن, وتكلف ظاهر, وفهم مستحدث فيه غُلُوٌّ في تطبيق السنة, وتضييق ومضايقة, واشتغال بما لم يُشرع, وتوسيع للفُرج بين المتصافين, يظهر هذا إِذا هَوَى المأْموم للسجود, وتشاغل بعد القيام لملأ الفراغ, ولي العقب للإِلزاق, وَتَفْويتٌ لِتوجيه رؤوس القدمين إِلى القبلة.
وفيه ملاحقة المصلي للمصلي بمكانه الذي سبق إِليه, واقتطاع لمحل قدم غيره بغير حق. وكل هذا تَسَنَّنٌ بما لم يُشرع.
الثاني: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَمر بالمحاذاة بين المناكب والأَكعب, قد أَمر أَيضاً بالمحاذاة بين «الأَعناق» كما في حديث أَنس - رضي الله عنه - عند النسائي (814).
وكل هذا يعني: المصافة, والموازاة, والمسامتة, وسد الخلل, ولا يعني العمل على «الإِلزاق» فإِن إِلزاق العنق بالعنق مستحيل, وإِلزاق الكتف بالكتف في كل قيام, تكلف ظاهر. وإِلزاق الركبة بالركبة مستحيل, وإِلزاق الكعب بالكعب, فيه من التعذر, والتكلف, والمعاناة, والتحفز, والاشتغال به في كل ركعة, ما هو بيِّن ظاهر. فتنبين أَن المحاذاة في الأَربعة: العنق. الكتف. الركبة. الكعب: من بابة واحدة, يُراد بها الحث على إِقامة الصف والموازاة, والمسامتة, والتراص على سمت واحد, بلا عوج, ولا فُرج, وبهذا يحصل مقصود الشارع.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: (والمراد بتسوية الصفوف: اعتدال القائمين فيها على سمت واحد, أَو يراد بها سد الخلل الذي في الصف. . .).
وهذا هو فقه نصوص تسوية الصفوف, كما في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: «كان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسوينا في الصفوف كما يُقوم القِدْح حتى إِذا ظن أَن قد أَخذنا ذلك عنه وفقهنا أَقبل ذات يوم بوجهه إِذا رجل مُنْتَبِذٌ بصدره فقال:لتسون صفوفكم أَو ليخالفن الله بين وجهكم» رواه الجماعة إِلاَّ البخاري, واللفظ لأَبي داود (رقم / 649). فهذا فَهْم الصحابي - رضي الله عنه - في التسوية: الاستقامة, وسد الخلل, لا الإِلزاق وإِلصاق المناكب والكعاب.
ولهذا لما قال البخاري - رحمه الله تعالى - في «صحيحه»: «باب إِلزاق المنكب بالمنكب, والقدم بالقدم في الصف. وقال النعمان بن بشير, رأَيت الرجل منا يلزق
كعبه بكعب صاحبه».
قال الحافظ ابن حجر: (والمراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وَسَدِّ خَلَلِه) انتهى. والدليل على سلامة ما فهمه الحافظ من ترجمة البخاري - رحمه الله تعالى - أَن قول النعمان بن بشير - رضي الله عنه - المُعَلَّق لدى البخاري - رحمه الله تعالى - وَوَصَلَهُ أَبو داود في «سننه» برقم (648) , وابن خزيمة في: «صحيحه» برقم (160) , والدارقطني في: «سننه» (1/ 282) , في ثلاثتها قال النعمان بن بشير -: «فرأيت الرجل يُلزق منكبه بمنكب صاحبه, وركبته بركبة
صاحبه, وكعبه بكعبه» انتهى لفظ أَبي داود. فإِلزاق الركبة بالركبة متعذر, فظهر أَن المراد: الحث على سد الخلل واستقامة الصف وتعديله, لا حقيقة الإِلزاق والإِلصاق.
ولهذا قال الخطابي - رحمه الله تعالى - في معنى ما يُروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خياركم أَلينكم مناكب في الصلاة» رواه أَبو داود وقال: جعفر ابن يحيى من أَهل مكة.
قال الخطابي ما نصه: (ومعناه لزوم السكينة في الصلاة, والطمأْنينة فيها, لا يلتفت ولا يحاك منكبه منكب صاحبه. ثم ذكر وجهاً آخر في معناه) انتهى.
وقال المناوي - رحمه الله تعالى - في معناه: «ولا يُحاشر منكبُهُ منكبَ صَاحِبه, ولا يمتنع لضيق المكان على مريد الدخول في الصف لِسَدِّ الخلل) انتهى.
وانظر إِلى أَلفاظ الرواة في بيان صفة التورك في الصلاة ففي حديث أَبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: «وَقَعَدَ عَلَى مقْعَدَتِهِ».
وهذا من باب إِطلاق الكل وإِرادة البعض؛ فإِنَّه يتعذَّر على المتورك تمكن شقيه من القعود على الأَرض. ولهذا جاءت أَلفاظ هذا الحديث الأُخرى بما يفيد ذلك
منها:
«قعد على شِقِّه الأَيسر».
«أَفضى بوركه اليسرى إِلى الأَرض».
«جلس على شقه الأَيسر متوركاً».
ولهذا فإِنَّه لا يمكن لعاقل أَن يأْتي مستنبطاً من لفظ: «فقعد على مقعدته» حال التورك: مشروعية تمكين شِقيه من الأَرض؛ لتعذره طبعاً وعقلاً, كالشأْن في أَلفاظ المحاذاة على ما تقدم سواء.
وانظر إِلى أحاديث فضل الصلاة أَوَّلَ وقتها, فإِنَّه كما قال ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - في «الإِحكام»: (2/ 38): (ولم يُنقل عن أَحد منهم أَنَّه كان يُشَدِّدُ في هذا, حتى يوقع أَول تكبيرة في أَول جزء من الوقت) انتهى. والله تعالى أَعلم بأَحكامه))اهـ.