قال الشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك
في رسالته وصية نافعة لعموم اهل العلم والتبيان


وطريق العلم لمن وفقه الله تعالى يسيرة على من يسَّرها الله عليه:
ـ فأوَّلُ ذلك: تَخيَّره معلماً، أديباً، كاتباً، تقيّا.
ـ ويحفظ حروف الهجاء، من الألف إلى الياء، ويردِّدُها حفظاً بجمع أنواعها، لتسهُلَ عليه قراءة القرآن.

ـ ثم يبتدِئُ في القرآن ويكتُبه، أو يُكتَبُ له في لوح، ليكونَ ذلك أجمع لذهنه، وأقوَى لحفظه، ويجتهد في صغره وفراغه، فالقراءة في الصغر كالنقش في الحجر، وفي الحديث: "تعَلَّموا قبل أن تَسُودوا".

ـ فإذا ختمَ القرآن ردَّده في المصحف، وضبط حروفه عن اللحن، ودرسه على قارئ معروف بالحفظ، وهو مع ذلك يشهدُ الجُمع والجماعات ومجالسِ الذكر، ويحافِظ على لزوم الأدب والعفاف والصلة.

ـ ثم يبتدئ بحفظ القرآن في صدره، ويجعل له كل يوم حزباً يحفظه على حسَبِ قُدرته، فإذا حفِظَهُ درَسَهُ حتى يتقنَه، ثم يبتدئ في الحزب الآخر كذلك، ولا يترك الأول عن الدرس، فإن صاحب القرآن كصاحب الإبل في عقلها، إن تعاهدها أمسكها، وإن تركتها ذهبت ، وينظر في التفسير.

* ثُمَّ يجلس على مشايخ العلم :

1ـ فيبتدئ بـ "الأربعين النووية" في الأحاديث النبوية، للإمام محيي الدين، أبي زكريا يحيى بن شرف النووي –رحمه الله تعالى-، ويحفظها، ويدرسها، فإنها نافعة جدّاً، ثم يقرأ في "ثلاثة الأصول".

2ـ و كتاب "التوحيد" للإمام المجدد شيخ الإسلام: محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله تعالى-، ويحفظها، ويحفظ ما استطاع من سائر مختصراته، مثل: "أصول الإيمان"، و "فضل الإسلام"، وكتاب "الكبائر"، و "ونصيحة المسلمين"، و "كشف الشبهات"، و غيرها من مؤلفاته النافعة.

3ـ ويحفظ "العقيدة الواسطية" لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-، فإنه كتاب جامع لأصول الدين.
ويقرأ: "رياض الصالحين"، ويحفظ آخِرَه من كتاب الفضائل إلى آخره، فإنه جامع للمأمورات والمنهيات، ومؤدِّبٌ لقاريه، ومرغِّبٌ له في الطاعات .

4ـ ويحفظ "عمدة الأحكام" للحافظ عبدالغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور المقدسي –رحمه الله تعالى- وهو كتاب نافع، وقراءته تحببك إلى رسول الله
ﷺ، وهو خمسمائة حديث، كلها صحيحة، لا يغتني طالب العلم عن حفظه.

5ـ ـ وإن أراد الاطلاع على أدلة المذاهب في الأحكام، والراجح والمرجوح من الأقوال ـ فلْيَحفَظْ "بلوغ المرام" ، فإنه كما قال مصنفه:"حررتُه تحريراً بالغاً، ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغاً"، وهو للحافظ الكبير: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني –رحمه الله تعالى-.([1])

ـ ويقرأ في النحو، ولا يتوغَّلُ فيه فيشغله عن ما هو أهم منه فيحفظ "الآجرومية"، و "المُلحة"، وغيرهما.

ـ ويقرأ "الرحبيَّة" في المواريث، ويحفظها.
ـ ويحفظ متناً في أصول الفقه.
ـ ومختصراً من كُتبِ المذهب.
فالحفظ للأصول رأس العلم **والبحث في الشروح باب الفهم

*ولا ينازِعْ شيخَه، ولا يتتبعْ زلاَّتِه، ولا يكشفْ عن عوراته.
فمن نازعَ شيخَه حُرِم العلم، وليكُنْ بحثه معه بأدب واستصغار، ولا تحملْك محبة شيخك وتعظيمه على تصويبه في خطئه، واعتقاد الكمال فيه، فكل بني آدم خطاء، فيكون اعتقادك فيه حسناً، وإذا رأيت منه ما يريبك فلا يردُّك ذلك عن الأخذ من علمه، فالكمال لله تعالى.
قال الشاعر:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ** كفى بالمرء نبلاً أن تعد معائبه

وقال آخر:
إن المعلِّم والطبيب كليهما **لا يَنصحان إذا هما لم يُكرَما
فاصبر لدائك أن جفوت طبيبه **واصبر لجهلك إن جفوت معلِّما

ـ ثُمَّ يقرأ في الكتب المطولات، فيبتدئ "بصحيح البخاري" فما بعد كتاب الله تعالى شيء أصح منه، وإن علت همتك، ورمت حفظه محذوف السند والتكرار، فاحفظ "التجريد" للزبيدي.

ـ ثم يقرأ في صحيح مسلم، والسنن الأربع، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، ومنتقى الأخبار، وغيرها من كتب أهل الحديث –رحمهم الله تعالى- .
ـ ويقرأ في "مشكاة المصابيح" في مجامع الناس ومجالسهم، فإنه كتاب جامع لأصول الأحاديث المتفرقة في غيره.

ـ ويقرأ في "الترغيب والترهيب"، و "رياض الصالحين"، وإن استطاع حفظه كله فما أحسن ذلك، وقد ذكرنا أنه ينبغي لطالب العلم حفظ آخره.
فإذا فعل ذلك فقد بلغ في العلم، وأخَذ من كلِّ فَنٍّ أصلاً، ومن ترَك الأصولَ حُرِم الوصولُ، وما لا يُدرَك كُلُّه لا يُترَك كُلُّه.

ـ وعليك بالنظر في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتبِ تلميذه ابن القيم، مثل "زاد المعاد" و "إغاثة اللهفان"، وسائر كتبه النافعة.

فصل
ـ ثم يطالع في كُتب الخِلاف، وينظر في الشروح، فإذا ترجَّحَ له قولٌ قد قال به أحدٌ من الأئمة قبله، فليأخذْ به، ولوكان مخالفاً للمذهب، فقد قال الشافعي –رحمه الله تعالى-: (إذا صح الحديث عن رسول الله
ﷺ فهو مذهبي)، وقال غيُره من الأئمة: (كلنا يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ رسول اللهﷺ)، وقال بعض العلماء:
فمقتدياً كن في الهدى لا مقلداً ** وخلِّ أخا التقليد في الأسر بالقيد


ومثال ذلك: إذا قال الجامدُ على المذهب من الشافعية: مذهب الشافعي نجاسة كل بول، سواء كان آدمياً،أو غيره. فقال المُنْصِفُ منهم: قد صلى النبي
ﷺ في مرابض الغنم وأمر العرنيين أن يحلقوا بالإبل، ويشربوا من أبوالها، وألبانها، فدل ذلك على طهارة بولها، وأما قول النبي ﷺ: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه". فإنما أراد به بول الناس.
المثال الثاني: إذا قال الجامد من الحنابلة: مذهب أحمد صيام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون الهلال قتر أو غيم. قال المنُصْفِ: قد قال النبي
ﷺ: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً".
المثال الثالث: قال الجامدُ من المالكية: يجوز أكل كل ذي مخلب من الطير، وقال: هذا مذهب مالك. قال المُنْصِف: قد حرَّم النبي
أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مِخْلب من الطير، ونهى عن لحوم الحمر الأهلية عام خيبر، وأذِنَ في لحوم الخيل،وأما قول الله تعالى: [قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ] [الأنعام: 145]، فهذه الآية مكيََّةٌ، وتحريمُ النبي r لتلك الأشياء كان بالمدينة.
المثال الرابع: قال الجامد من الحنفية: مذهب أبي حنيفة جواز تحليل المرأة المطلقة ثلاثاً، بأن يتزوجها آخر، ثم يطلقها ولو تواطؤوا على ذلك قبل العقد. قال المُنْصِف: قد قال النبي
ﷺ: "لعن الله المحلِّلُ والمحلل له".
إذا فهمت ذلك: عَرفْتَ أن المُنْصِفَ أولى بالدليل، وأولى بالأئمة والمذهب من الجامد، فإنه قد عمل بالدليل، ووافق الأئمة الثلاثة، واتبع إمامة في الأخذ بالسنَّة، ولا يخرجه ذلك عن المذهب، فإن الحق ضالَّة المؤمن، وإذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
قال ابن جماعة: (وإذا تعددت الدروس قَدِّم التفسير للقرآن، ثم الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم المذهب والخلاف، والنحو، والجدل).
وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح له باب العلم، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله به شرّاً فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العلم، وفي الحديث: "من جاءه الموت، وهو يطلب العلم، ليحيى به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة".
وفي الدعاء المأثور: "اللَّهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي من كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر".
وفي الحديث الآخر: "اللَّهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وارزقني علماً ينفعني، وزدني علماً، الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار".
وقال
ﷺ: "من لازم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب".
وقال
ﷺ: "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله".
وقال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] [الأحزاب: 42،41].
وقال تعالى:
[إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [الأحزاب: 56].([2])
------------------------------------------------

[1]) ) يُلاحظ أنَّ المصنَّف رحِمه الله تعالى رتَّب هذه المتون العلميَّة ـ خلال وصيَّته ـ حسَبَ الترتيب الذي اعتمده في الموسوعة ـ وإن تخلَّلها غيرها ـ ، ليوصي بعد ذلك طالبَ العلم بحفظها .

[2]) ) كُتِب َ في آخر المخطوط ما نصُّه :
وقع الفراغ منها في شهر جمادى الأولى سنة 1354هـ
*

و إذا خلَوتَ بريبة في ظلمة **و النفسُ داعيةٌ إلى الطغيان
*فاستحيِ من نظر الإله و قُل لها **إن الذي خلق الظلام يراني