السؤال

السَّلام عليْكم ورحمة الله.
أنا داعية متميِّزة ولله الحمد، ولي قبول ومحبَّة في قلوب الأخوات، لي كتابات ومؤلّفة لكتب كذلك، ومشارَكات في الدور والإشراف، ومِن حفظة كتاب الله، ولله الحمد والمنَّة.

مشكِلتي أنَّ بعض المخيَّمات الدَّعوية تطلب السيرة الذَّاتيَّة، وأنا حاصِلة على ثانويَّة معهد إعداد المعلِّمات، وبعضهم لا يعترِفون إلاَّ بحاملة الشّهادة الجامعيَّة، وهذا يحزُّ في نفسي كثيرًا، مع أنِّي - من فضل الله - أفضلُ بكثير من كثيرٍ من حمَلة الشهادة الجامعية.

وبهذا تجدني لا أُرسل السِّيرة الذَّاتيَّة وأنسحِب خيرًا لي من أَن يَمنعوني، وخاصَّة إذا ألحَّ عليَّ الكثيرُ: لماذا لَم تُرْسِلي، هذا الأمر يحْزنني ويسبِّب لي الضِّيق الكثير؛ حيثُ أفكِّر في الانسِحاب من الدعوة.

فما رأْيُكم؟ جزاكم الله خيرًا.


الجواب

وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته.
حيَّا الله أختَنا الدَّاعية إلى الله, الهادية إلى سبيل الرَّشاد, الَّتي جعلت همَّها الأوَّل ومبْدأها الرَّئيس: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].

وعنوانَها: ﴿ وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التَّوبة: 71].

ومنهجَها: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].

طوبَى لِمن كان هذا دربَه، وتلك طريقتَه، وذاك همَّه, أسأل الله أن يزيدَك قبولاً عند الصَّالحين من النَّاس, ويُعلي همَّتك، ويُعينك على الحقِّ عونًا.

أُختي الدَّاعية.

احْمدي الله الَّذي منَّ عليْك بتلك المنَّة العظيمة، ورزقك هذا الفَضل الكبير؛ فالدَّعوة إلى الله من أعظم وأجلِّ الأعمال, وقد قال الرَّسول -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: ((بلِّغوا عنِّي ولو آية))؛ رواه البخاري.

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نضَّر الله امرأً سمِع مقالتي فوعاها ثمَّ أدَّاها إلى مَن لَم يسمعْها؛ فرُبَّ حاملِ فقهٍ لا فقهَ له، وربَّ حامل فقهٍ إلَى مَن هو أفقه منْه))؛ صحَّحه الألباني.

نعم، ربَّ حامل فقه لا فقهَ له!

وقد رأيْنا من تلك النَّماذج على أرْض واقعِنا ما شبِعَت منه قلوبنا تألُّمًا.

مَن قال: إنَّ الشهادات عنوان الصَّلاح؟! ومَن قال إنَّ الألقاب رمز العلم؟!

نعَم، تعْني الشهادة الجامعيَّة أنَّ المرء قد نَجح وتخرَّج من كلّيَّة كذا في تخصُّص كذا, لكن هل نستطيع أن نجْزم بعلم الشَّخص قبل أن نسمع منه؟

قلتِ - بارك الله فيك -: "مع أني - بفضل الله - أفضل بكثير من كثيرٍ من حملة الشهادة الجامعيَّة".

ففيمَ التَّراجع؟! وفيم التردُّد؟!

أنتِ - بفضْل الله ومنّته -:
- داعية متميِّزة.

- لكِ قبول بين الفتيات.

- لكِ مؤلَّفات في مجال الدَّعوة.

- تُشاركين في دُور الدَّعوة.

- أشرفتِ على بعض الدُّور المهتمَّة بأمر الدَّعوة.

- تَحفظين كتاب الله.

- حاصلة على ثانويَّة معهد إعداد المعلِّمات؛ أي: إنَّ الدَّعوة من صميم تخصُّصك.

- لك خبرة في مجال العمل الدَّعوي قد تصل لعدَّة سنوات.

تأمَّلي حالَك جيِّدًا وقولي بنفس راضية: هذا من فضل ربي.

الآن - وبعد هذا الإطْراء - تعالَي نستعرض العيوب, أو الآفات التي عليْك تغْييرها والتغلُّب عليها؛ فالصَّديق من صدَقك.

أنت - باختصار - تُعانين نقصًا شديدًا في الثِّقة بالنَّفس, ألِمُجرَّد طلب بعض المخيّمات السّيرة الذَّاتيَّة تفكِّرين بالتَّراجُع عن عمل عظيم قد يكون السَّببَ في دخولك الجنَّة؟!

((فوالله لأن يهْدِي الله بك رجلاً واحدًا، خيرٌ لك من أن يكون لك حُمْر النَّعم))؛ رواه البخاري.

أتُريدين ترك هذا الأجر العظيم لمجرَّد أنَّ بعض المخيَّمات تطلب السيرة الذَّاتيَّة، وتفضِّل أصحاب الشهادات؟!

اعلمي - غاليَتي - أنَّ الوقوع تحت وطأة التردُّد, واستشعار السلبيَّة، هو بداية ولوج عالم الإخفاق.

وكم من طاقةٍ أُهدرت وضاعت سُدًى، وذهبت قوَّتها أدراج الرياح، ليس لسبب إلاَّ لتراجُع أصحابها، وعدم استِشْعارهم نعم الله عليهم، وأنَّ لديهم الكثير والكثير ممَّا قد حُرِمَه غيرهم! فالقبول وحدَه نعمة يتمنَّاها الكثير من أصحاب تلك الشهادات, هذه عطيَّة يعطيها الله مَن يشاء, لا تشتريها الشّهادات ولا تستطيعها الدَّرجات؛ عن أبي هُرَيْرة - رضي الله عنْه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا أحبَّ الله العبدَ، نادى جبريل: إنَّ الله يُحبُّ فلانًا فأحِبَّه، فيحبُّه جبريل، فينادي جبريلُ في أهل السَّماء: إنَّ الله يحبّ فلانًا فأحبّوه، فيحبُّه أهل السَّماء، ثمَّ يوضع له القبول في أهل الأرْض))؛ رواه البخاري.

أسأل الله - تعالى - أن يَجعلني وإيَّاك ممَّن وهبه ذلك الفضل العظيم.

أنتِ بِحاجة لشحْذِ همَّتك ورفع معنوياتك، والتَّحرُّر من تلك المشاعر والأفكار السلبيَّة، الَّتي تُريد السَّيطرة عليْك لتحُول دون نيل ذلك الأجر العظيم.

تأمَّلي حالك جيِّدًا وقارني وضْعَك ونَجاحك الطَّيِّب بمن نالتِ الشّهادات, فمَن أفضل وأنفع للمجتمع الإسلامي؟ ماذا فعلتْ بشهادتها؟

وليكن ذلك من دون أن تَزدري أحدًا.

كرِّري التَّفكير فيما وفَّقك الله إليه من حفظ القُرآن، وتأليف الكتابات النَّافعة، وأمِرِّيه على ذهنِك أكثر من مرَّة، من دون كبر أو غرور, بل على سبيل استشعار نعمة الله وحمده وشكره.

أحضري ورقة وقلمًا واكتُبي لك سيرة ذاتيَّة، ودوِّني فيها ما ذكرتُ لك في بداية ردّي عليك؛ فقد ذكرتُ لك ثمانية أعمال مشرّفة ورائعة, قد تُغني عن الشّهادة الجامعيَّة, وجرّبي أن تقدّميها لِمَن يطلُب سيرة ذاتيَّة بنفس واثقة, إلاَّ أن تعلمي أنَّهم يشترطون الشّهادة الجامعيَّة ويذْكرون ذلك بوضوح, وليس مجرَّد تفضيل لصاحبة الشّهادة.

يقول أحد المسؤولين في مشروع "صندوق المئوية": "أنا لا أهتمّ بالنَّظر في السّيرة الذَّاتيَّة لِمن يتقدَّم لطلب الوظيفة بقدْر ما أهتم بسماع حديثِه، والاطِّلاع على قدراته العمليَّة".

حدِّدي بوضوح لنفسك بعض النقاط السلبيَّة في حياتك، أو بعض الخبرات أو الدَّورات الَّتي قد تُفيدك علميًّا وعمليًّا, فهناك من الجهات العلميَّة ما تقوم بإعطاء شهادات تأهيليَّة في كثيرٍ من المجالات الشَّرعيَّة والعلميَّة والَّتي تشترط حصول المتقدم على الثَّانويَّة؛ فإن تيسَّر لك الالتِحاق بها عن طريق الانتِساب, فلا بأس من الاستِزادة من العلم.

كلَّما هاجمتْك تلك الأفكار السلبيَّة أو الوساوس الشَّيطانيَّة, فقاوميها بعزَّة المؤمنة، وتذكَّري أجر الدَّعوة إلى الله, وما أعدَّه الله للآمرين بالمعْروف, ولا يَصُدَّنَّك عن طريقها شيء, وعلى كلّ حال, فطريق الدَّعوة لن يكون ممهَّدًا سهل المنال, الله - تعالى - جعل لك ذلك القبول وأنعم عليْك بنعمة حسن التَّبليغ, فلم يجد الشَّيطان إليْك سبيلاً, ولم يرَ مدخلاً إلى قلبِك إلاَّ مِن هذا الباب "زعزعة الثّقة بالنَّفس", فلا تُعْطيه هذه الفرصة واهْرعي إلى تلك الورقة، وعدِّدي نعم الله ليطْغى الشعور الإيجابي والأفكار البنَّاءة على كلّ فكرة سلبيَّة، فيقضي عليها.

هل تعْلمين هذا الاسم: "محمد ناصر الدين الألباني"؟

ماذا كان يحمل هذا الحبْر العظيم من شهادات؟

لَم يكن يَحمل إلاَّ الشهادة الابتدائيَّة, لكن مَن هو؟

هو عَلَم من أعلام الحديث, هو جبَل من جبال علم الجرح والتَّعديل, فهل نظر أحدٌ أو سأل عن شهادته؟ وإن فعل، فعلم الشَّيخ سيُسْكته على الفور.

حتَّى بعيدًا عن المجال الشَّرعي, فالكثير من علماء الغرب, وكذلك العرَب، لم يكملوا تعليمهم الأساسي, وإنَّما كان علمهم رمزًا يُحتذى به، وسراجًا يضيء الدّروب في مجال تخصُّصهم, وإلاَّ فلمن اختُرعت شهادة "الدكتوراه الفخرية"؟

هيَّا أخيَّتي.

دعكِ من هذه الوساوس، وأطْلقي سراح نفسك الحبيسة، وحرِّري قيودَها ودعيها تحلِّق في آفاق الدَّعوة النبيلة, وتمضي قدمًا في سبيل تحقيق هدفِها السَّامي, وتذكَّري أنَّ أخواتِك بحاجة لكلمات صادقة من قلب محبّ، وبحاجة إلى تذكير مستمرّ ممَّن أنعم الله عليْها وكرَّمها ووفَّقها للدَّعوة إلى سبيله, وفَّقك الله لكلّ خيرٍ وفلاح، وجعلك هاديةً مهدية، وصرف عنك شياطين الإنس والجنّ، وزادك من فضله.


http://www.alukah.net/fatawa_counsel...#ixzz4OAufvC5b