الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن العبد يقف بين يدي الله تعالى موقفين عظيمين:
الموقف الأول في الصلاة ، والموقف الثاني يوم لقاء الله فإن أحسن العبد الموقف الأول سهل عليه الموقف الثاني، ومن استهان بالموقف الأول صعب عليه الموقف الثاني .
فإذا ما وقف العبد بين يدي ربه للحساب.. فأول ما يسأل عنه أمام الله تعالى من الأعمال الصلاة.
فقد روى الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «
إن أول ما يُحاسَب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر».
فيجب على العبد أولا أن يستعد للموقف الأول حتى يهون عليه الموقف الثاني :
قال ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب من الكلم الطيب (1 / 38) :
الالتفات في الصلاة
وقوله في الحديث [ وأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت ] الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان :
( احدهما ) التفات القلب عن الله عز و جل إلى غير الله تعالى
( الثاني ) التفات البصر وكلاهما منهي عنه
ولا يزال الله مقبلا على عبده ما دام العبد مقبلا على صلاته فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه

وقد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن التفات الرجل في صلاته فقال [ اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ]
فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته وذلت عنقه له واستحى من ربه تعالى أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه وبين صلاتيهما كما قال حسان عطية : إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وأن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز و جل والآخر ساه غافل
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالا ولا تقريبا فما الظن بالخالق عز و جل ؟ وإذا أقبل على الخالق عز و جل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملأى منها فكيف يكون ذلك إقبالا وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب ؟ والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه فهو يحرص ويجتهد أن لا يقيمه فيه بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة فيتهاون بها فيتركها
فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه ويحول بينه وبين قلبه فيذكره في الصلاة ما لم يذكر قبل دخوله فيها حتى ربما كان قد نسي شئ فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز و جل فيقوم فيها بلا قلب فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز و جل الحاضر بقلبه في صلاته فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها وأكمل خشوعها ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقابله فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه وأحس بأثقال قد وضعت عنه فوجد نشاطا وراحة وروحا حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها لأنها قرة عينيه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها
فالمحبون يقولون : نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه و سلم يا بلال أرحنا بالصلاة ولم يقل أرحنا منها وقال صلى الله عليه و سلم [ جعلت قرة عيني في الصلاة ] فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه صلى الله عليه و سلم بدونها وكيف يطيق الصبر عنها ؟

والناس في الصلاة على مراتب خمسة :
أحدها : مرتبة الظالم لنفسه المفرط وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها
الثاني : من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس والأفكار
الثالث : من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته فهو في صلاة وجهاد
الرابع : من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يضيع شيئا منها بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي وإكمالها واتمامها قد استغرق قلب شأن الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها
الخامس : من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز و جل ناظرا بقبله إليه مراقبا له ممتلئا من محبته وعظمته كأنه يراه ويشاهده وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطوات وارتفعت حجبها بينه وبين ربه فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض وهذا في صلاته مشغول بربه عز و جل قرير العين به
فالقسم الأول معاقب والثاني محاسب والثالث مكفر عنه والرابع مثاب والخامس مقرب من ربه لأن له نصيبا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا قرت عينه بقربه من ربه عز و جل في الآخرة . انتهى كلامه رحمه الله

فيا ترى ما هو القسم الذي تختاره لنفسك، ويليق بك بين يدي الله تعالى..!
ألا فلنتقِ الله في صلاتنا، ولنحرِص على أداءها بخشوعٍ وخضوعٍ لله تعالى.. ليُنجينا الله إذا وقفنا غدًا بين يديه.
أسأل الله تعالى أن يُوفقِنا لما يُحبّه ويرضاه .