محمود السيّد الدغيم

نشرت مكتبة العبيكان معجم الفردوس في مجلدين من الحجم الموسوعي الفاخر، وامتاز المنشور بجودة الورق والألوان والإتقان والتدقيق، والضبط بالشكل وفق المقتضى، وتضمّن القسم العربي من المجلد الأول: 534 صفحة، وتضمن القسم الإنكليزي منه: 266 صفحة، وتضمن المجلد الثاني دليلاً وكشافاً بأسماء المصادر والمراجع ولوحات ملوّنة في ستٍّ وثلاثين صفحةً، كما تضمّن الكلمات الإنكليزية العربية الأصول مع شرح إنكليزيٍّ عربي؛ في: 644 صفحة.

يشكّل معجم الفردوس لبنةً في بناء التلاقح اللغوي ما بين اللغة العربية والإنكليزية، وهو فرعٌ من فروع «التّعريب والتّعجيم»، أو «التّعريب والتّغريب»، أو «العوربة والعولمة»، وما يقابل «المعرّب والمولّد المحدث» أو «الأصيل والدّخيل» عند العلماء العرب القدماء، ويأتي هذا المعجم في إطار التأثّر والتأثير بين اللغة العربية واللغات الأعجميّة، وبمعنى أدقّ: يرصد طيفاً واسعاً من سياحة الكلمات في بحور الّلغات الإنسانية، وما تتعرّض له الكلمات من تغيّرات وتغييرات تشمل المبنى والمعنى أيضاً، وقد تؤدي إلى الانتقال من المعنى اللغوي إلى معنىً اصطلاحيٍّ مؤتلفٍ أو مختلفٍ مع الأصل؛ حسبما تقتضيه قواعد اللغة المستقبلة للكلمة المضافة، وما تتقبّله تلك الكلمة المصدّرة.
و «معجم الفردوس» يضاف إلى جهودٍ سابقة ذكرها الباحث في المجلد الثاني؛ ص: 6- 8، وعلى رغم وجود الكثير من الكتب ذات العلاقة بهذا الموضوع، فإنه ما زال يتطلّب المزيد من البحث المقارن لإنتاج معجمٍ للغةٍ عالمية مشتركة مستخلصة من تتبّع رحلات الكلمات من لغة إلى أخرى مباشرةً أو عبر لغةٍ وسيطةٍ غير اللغة الأمّ للكلمة.
وقد حدّد علماء اللغة القدماء حدّ اللغات بالقول: أصواتٌ يعبّر بها كلّ قومٍ عن أغراضهم، وتشمل كلّ لفظٍ وضع لمعنى، وفيها تداخلٌ وتوافقٌ، وحقيقةٌ ومجازٌ. واللغات معرّضةٌ للتّصحيف والتحريف، وأصول اللغات محلّ خلافٍ بين اللغويين في ما يتعلّق ببيان وتبيين واضع اللغة؛ أتوقيفٌ هي ووحيٌ؟، أم وضعٌ واصطلاحٌ؟، أم هذا وذاك؟، وقد درس هذه المواضيع أستاذنا الراحل الدكتور عبده الراجحي يرحمه الله، في كتاب: فقه اللغة في الكتب العربية، الذي تضمّن توضيح المناهج العربية في دراسة اللغة من خلال تسليط الأضواء على كتب هي: كتاب الخصائص؛ لعثمان ابن جني (ت 392 هجرية/ 1002م)، والصاحبي في فقه اللغة العربية؛ لأحمد بن فارس (329 - 395 هـ = 941 - 1004 م)، وفقه اللغة؛ لعبد الملك الثعالبي (350 - 429 هـ = 961 - 1038 م)، وقد قام الراجحي بتحديد المصطلحات اللغوية لإزالة الغموض، وتحقيق الإيضاح من خلال تناوله لتاريخ «فقه اللغة» و «علم اللغة» عند الغربيين وعند العرب، وقد استخدم مؤلف «معجم الفردوس» هذه الكتب الثلاثة وما يدور في فلكها من كتب القدماء والمحدثين. ويتضح لنا بالاستقراء أنّ جميع لغات العالم كائناتٌ قويّةٌ سائدة، أو ضعيفةٌ بائدة، حيّةٌ تنمو؛ أو ميتةٌ تخبو، واللغات الحيّة تطلب الفصاحة، وتعرض عن الرّطانة، واللغة العربية هي أمّ اللغات التي تنتشر مفرداتها في كافّة اللغات البشريّة الأخرى بالوراثة، أو بالاستيراد، وقد تعرّضت اللغات إلى التباين بفعل التّقادم الزّمانيّ التاريخيّ، أو جرّاء الابتعاد المكانيّ الجغرافيّ.
ومع تطوّر اللغات تطوّرت آلياتها في التلاقح الناتج عن الإعارة والاستعارة، وقد أخضعت اللغة العربية ما استردّته أو استوردته من كلماتٍ للسّليقة العربية، وقواعد الترجمة؛ والتّعريب؛ والنّحت؛ والتّضمين، والإبدال، والقلب، والتّرادف، والاشتراك، والتّضادّ، والمداخلة بالتّعريب، والتوليد، والحذف، والاشتقاق منها بعد إجرائها مجرى لغة العرب؛ وما تتطلّبه النّسبة إليها، وما يقتضيه القياس عليها، وصاغت ممّا استقبلته كلاماً ينسجم مع الأصالة العربية حسب أوضاع القواعد المرعيّة، والضوابط الناظمة، والصّيغ العريقة؛ منعاً لإقحام الألفاظ الأعجميّة النّاشزة، وغير المجانسة مع اللغة العربية. وبعد التعريب بقيت الكلمات المعرّبات أعجميّةً باعتبار الأصل الذي وفدت منه، وأصبحت عربيّةً باعتبار الحال الذي صارت إليه. وما تتعرّض له الكلمات الأعجمية أثناء التعريب، يشبه ما تتعرّض له الكلمات العربية التي يدخلها الأعاجم في لغاتهم.
فالباحث في «معجم الفردوس» وما سبقه من البحوث اللغوية التي تعقّبت سياحة الكلام العربيّ؛ يجد أنّ اللغات الأجنبية أخضعت ما استوردته من كلماتٍ عربيةٍ لآلياتٍ أعجميّةٍ منسجمةٍ مع أجهزة نطق الناطقين بتلك اللغات من الأعاجم، وهكذا تعرّضت الكلمات المستوردة إلى حذف حروفٍ أصيلةٍ، أو إضافة حروفٍ دخيلةٍ من السّوابق واللواحق والزّوائد؛ أو استبدال حرفٍ بحرفٍ آخر؛ مما جعلها تكتب على غير ما تنطق به، وأعطاها بعد غربتها صيغاً مهجّنةً نطقاً وكتابةً، وصيغاً يستعصي إدراكها على غير المتخصّصين، ومن هنا جاءت أهميّة إعداد المعاجم المتخصّصة قديماً وحديثاً، وهذا مجالٌ مفتوحٌ مرتبطٌ بالتلاقح اللغويّ الإنسانيّ المستمرّ مع استمرار البشر باستيراد وتصدير الكلمات، فالعلم واللغة كائنان من الكائنات الحيّة الضروريّة لاكتساب المعارف والتّطوّر الإنسانيّ.
تضمن المجلد الأول من «معجم الفردوس» دراسةً مستفيضةً تقع في ستة فصولٍ حول مغامرات اللغة العربية وجهادها عبر التاريخ، فجاء الفصل الأول تحت عنوان: العربية لغة الفردوس، واللسان الأمّ لآدم على الأرض، وعــــزز المـــؤلف رأيه بالمصادر العربية الكلاسيكية، وواقع الـعالم الإسلامي، وبيّن أن عدد مفــردات اللغة العربيـــة كما وثّقه الخليل الفراهيدي في كتاب العين: (12912320) كلمة، وهي تفوق مفردات الإنكليزية بـ: 25 ضعفاً، ومفردات الفرنسية 82 ضعفاً، ومفردات اللغة الروسية 94 ضعفاً.
وورد الفصل الثاني تحت عنوان: الإنكليزية بوتقة انصهار اللغات الأوروبية، وتضمّن البحث في تطور الإنكليزية من قبل التاريخ، ثم الإنكليزية القديمة قبل سنة 1150م، ثم الوسيطة قبل سنة 1476م، ثم العصرية من بدايات القرن الثاني عشر الميلادي إلى الآن، وما استوردته من مفردات من باقي اللغات العالمية، وذكر إصدار المعجم الإنكليزي الأول سنة 1604م، وقد ظنّ المؤلف أنّ اللغة السومرية هي اللغة (الكنعانية – الفينيقية) وهذا غير مؤكّد علمياً، لأن (الكنعانيين- البونيقيين) فرعٌ من (دلمون) في البحرين، وليس من العراق. والمؤلف أخذ برأي (أوستين واديل) الذي ادعى أن أصل البريطانيين فينيقي - حثّيّ، وادعى أن السومريين هم أصل الآريين، وهذا منافٍ للصواب.
وعنوان الفصل الثالث: العنصرية بين لغتين، عرض ونقد (داروينية) الطبقات الاجتماعية، وفيه جدلٌ مفيدٌ حول التمييز العنصري الذي نشره الغرب المتعصّب، والتسامح الإسلامي الشرقي، والميراث اللغوي والفني الغربي المروّج للعنصرية وطبقات المنبوذين.
والفصل الربع عنوانه: العربية (لنجوا فرانكا = لغة الفرنجة)؛ أي: لغة التداول المشتركة في المعاملات للعالم الإسلامي في العصور الوسطى، وفي هذا الفصل بحثٌ في تاريخ العرب القديم والحديث، وآثار التسامح الإسلامي والتعصب الغربي الذي شهدته إسبانيا وغيرها.
أما الفصل الخامس فعنوانه: كيف أثّر المسلمون والعرب في اللغة الإنكليزية، وفيه إيضاح لمنافذ التلاقح اللغوي العربي- الإنكليزي بالترجمة من الإغريقية إلى العربية وبالعكس، والعلاقات الإسلامية المسيحية حرباً وسلماً وحضارةً، وتأثير الإسلام في بعث البروتستانتية الثائرة على الكنيسة الكاثوليكية ابتداء من سنة 1517م، ثمّ ازدهارها في ظلّ التحالف العثماني مع الإصلاح البروتستانتي برعاية مارتن لوثر من قبل السلطان العثماني سليمان القانوني؛ الذي ردّ بذلك على دعم البابوية للصفوية.
وأوضح الفصل السادس (ص:241- 533) جهاد اللغة العربية والإسلام ضدّ تحالف الصليبيين والمغول وأتباعهم، منذ معركة ملاذكرد سنة 463 هـ/ 1070م، حتى معركة (شقحب = مرج الصفر؛ قرب غباغب جنوب دمشق) التي حضرها ابن تيمية؛ وانتصر فيها المسلمون العرب والمماليك على التحالف الثلاثي من (الإيلخانيين المغول؛ والأرمن، والفرنجة) سنة 702 هـ/ 1303م، مروراً بمعركتي حطين سنة 583 هـ/ 1187م، وسقوط بغداد سنة 656 هـ/ 1258م، ومعركة عين جالوت سنة 658 هـ/ 660م، حتى تحرير جزيرة (ارواد) السورية، وفتح قبرص سنة 829 هـ/ 1426م، وما نتج عن تلك العلاقات بين الغرب والشرق من تلاقح حضاري متنوّع سلبي وإيجابي.
أما المجلد الثاني، فتضمّن توطئة المعجم، والدليل على الأصل العربي للكلمات الإنكليزية، وميّز الكلمات المصنّفة في المعاجم التقليدية بطباعتها باللون الأحمر، وميّز الكلمات غير المصنّفة في المعاجم التقليدية بطباعتها باللون الأسود الداكن، وقدّم باللغتين (العربية والإنكليزية) إرشادات بمثابة المفتاح حول كيفية استخدام «معجم الفردوس» يتضمّن رموز المختصرات، ومصادر الكلمات ذات الأصول العربية الأصيلة.
* باحث سوري مقيم في لندن